شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة :

شهدت العلاقات الدولية تفاعلات قوية ومؤثرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، أفرزت عددا من المتغيرات المتشابكة والمعقدة، عكست تأثيراتها على مناطق العالم المختلفة منذ انتهاء الحرب العالمية الثاني وأفول الحرب الباردة ، وتقع منطقة "الشرق الأوسط" في مقدمتها، بحكم كونها مصدراً للأديان ومصدراً للطاقة وموقعاً حيوياً لتشابك المصالح الإقليمية والدولية .

 

في الحلقات السابقة تحدثنا عن لصوص النفط ومشاريع تمديد أنابيبه مع الغاز الإيراني إلى ميناء العقبة، وختمنا المقال الأخير بأهمية ربط المشاريع المطروحة على المنطقة، ومشروع الغاز الإيراني ومشروع النفط العراقي يقعان في دائرة الترابط، وذلك لكون المشروعان مشبوهين على أساس محركاتهما السياسية نابعة من طهران وترابط الأخيرة بتل أبيب وواشنطن.

 

وقبل الحديث عن الترابط بين خيوط المشروعات المشبوهة لا بد من التذكير بجذورها ومصادرها .. فمن أين جاءت تلك المشاريع، ومن الذي خطط لها وتبناها عبر عقود من السنين، لكي يصار إلى فهم الدوافع الأساسية والإصرار على تنفيذها كلما سنحت الفرصة الإستراتيجية التي يخلقها فراغ القوة.

 

منذ ظهور المشروع الاستيطاني في فلسطين كان التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي منصباً على تحقيق مشروع الدولة الإقليمية الكبرى التي تستهدف الدمج بين ( العقلية اليهودية والثروة العربية)، القائمة على فيدرالية تضم فلسطين وشرق الأردن على أن تكون تلك الدولة الفيدرالية اتحاداً كونفدرالياً مع الدول العربية في مرحلة لاحقة . وقد ظلت هذه الفكرة قائمة في الفكر الإسرائيلي عبر مختلف مراحل التحرك ومنذ كانت (الدولة اليهودية) مشروعاً ، وبعد قيامها عام 1948 على حساب الأرض والشعب العربي الفلسطيني ، ثم بلغ هذا المشروع مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي باستخدام القوة وإشعال الحروب .

 

جذور مشروع "الشرق الأوسط الجديد" في الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي :

 

1- اصدر (التجمع من أجل السلام) الإسرائيلي عام 1968 دراسة تحت عنوان (الشرق الأوسط عام 2000) اشتملت على تصور تعاون اقتصادي إقليمي بين دول منطقة (الشرق الأوسط) يتم على أساس التخصصات وتقسيم العمل والإنتاج (إسرائيل تتخصص في الصناعات الدقيقة والالات الهندسية والكهربائية وصناعة الدواء – ومصر تتخصص في صناعة الصلب – وسوريا تتخصص في صناعة النسيج والصناعات الاستهلاكية – ولبنان في مجال الخدمات والنقل والمصارف – والعراق ودول الخليج يتخصصون في صناعات النفط والبتروكيمياويات ).

 

2- اهتم معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة هارفرد الأمريكية بالمشروع في إطار برنامج عمله الذي بدأه عام 1973 ونجح في عقد مؤتمر عام 1983 ضم مصر و(إسرائيل) والأردن ولبنان وفلسطين بحث من خلاله القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط وأصدر مجموعة دراسات وتوصيات جمعها كتاب تحت عنوان "اقتصاديات السلام" الذي تضمن خطة واسعة وشاملة لإنشاء مشروع الشرق أوسطية .

 

3- كان " ناحوم غولدمان" رئيس الوكالة اليهودية الأسبق (يحذر من أن تظل إسرائيل، وهي في وسط عربي كبير معتمدة على القوة وحدها، وإن لا وجود لإسرائيل إلا بارتباطها بالمنطقة من خلال التعاون مع المحيط العربي من اجل فك الحصار وتحقيق الأمن والتمدد والانتشار وبالتالي الاندماج في نظام إقليمي يقوم على التعاون الاقتصادي) .

 

4- كما أن " أبا إيبان" وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق قد أعلن في مؤتمر جنيف عام 1974 ( إن الضمان الحقيقي للسلام هو إقامة مصالح مشتركة بين العرب وإسرائيل).

 

5- الاقتراح الذي تقدم به وزير المواصلات الإسرائيلي عام 1975 و (الذي تضمن مشروعاً لتنظيم الاتصالات لربط المشرق العربي بالمغرب العربي على أن تكون إسرائيل مركزه الرئيس وذلك عبر شبكة من المطارات والموانئ وسكك الحديد فضلا عن إقامة سوق شرق أوسطية تبدأ بإنشاء هيئة مشتركة لتطوير الزراعة ومصادر الطاقة والمياه) .

 

6- كما أعد أكاديميون إسرائيليون عام 1989 دراسة لتمويل صندوق أبحاث السلام بجامعة (تل أبيب) تحت عنوان التعاون الاقتصادي وسلام الشرق الأوسط ودعت الدراسة إلى التكامل الاقتصادي الإقليمي مع التركيز على مشروعات أساسية خاصة كالمياه والطاقة.

 

7- بعد مؤتمر مدريد عام 1991، وبعد مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف عام 1992 وفي أوسلو عام 1993 اقترحت ( إسرائيل إقامة مشاريع مد أنابيب النفط إلى حيفا وإنشاء محطات مشتركة لتوليد الكهرباء والطاقة واستخدام الغاز في برامج تحلية المياه وإنشاء خط السكك الحديد الذي يربط بين إسرائيل ومصر وسوريا ولبنان ).

 

في ظل هذا التوجه (الإسرائيلي) ذو الطابع الإستراتيجي طرح " شيمون بيريز" أفكاره حول ما أسماه (اقتصاد السلام القائم على التعاون الذي يؤدي إلى التكامل الاقتصادي، والذي يضمن لإسرائيل وجوداً وأمناً ودوراً مركزياً مسيطراً على المنطقة).

 

وجاءت أفكار هذا الصهيوني في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) الذي أصدره عام 1997 .. ومحور أفكار مشروع " بيريز" هو إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي على غرار النظام الإقليمي الأوربي .. والكلمة البارزة في كتابه ( الاقتصاد والمصالح المشتركة هي التي تقود إلى سلام دائم وليس السياسة والقوة العسكرية) .. ولكن حقيقة الواقع المعاش في فلسطين المحتلة هي استخدام الكيان الصهيوني للقوة المفرطة من اجل فرض شروط سياسة الأمر الواقع .!!

 

لقد أدرك الكيان الصهيوني أهمية الخيارات الأخرى غير القوة العسكرية، بعد أن فشلت حروبه التي شنها منذ عام 1948 وحتى العدوان الأخير على غزة باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وهو الأمر الذي فرض عليه الحصار والعزلة فأخذ يفتش عن خيار أخر في ظل إستراتيجية الفوضى الخلاقة لكسر العزلة للوصول إلى ما أسماه الفكر الإسرائيلي بحالة الاندماج في البيئة الإقليمية لأغراض الهيمنة وقيادة المنطقة .!!

 

وفي خضم التفاعلات والأحداث التي عصفت بالمنطقة، وخاصة بعد أفول الحرب الباردة، ظهرت تدابير في صيغ مشروعات سياسية إقليمية تستهدف تفكيك وإعادة تركيب المنطقة العربية على وجه التحديد وفقاً لرؤية (إسرائيلية أمريكية أوربية) مشتركة .. فالكيان الصهيوني طرح مشروع (الشرق الأوسط الجديد) وتبنته إستراتيجياً الولايات المتحدة وخططت من اجل تطويره وتوسيعه ، وهو يمثل أحد أخطر المشروعات التي أعدتها للمنطقة، فيما قدمت أوربا مشروعها المعروف بالشراكة الأوربية- العربية، الذي يربط دول جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط بصورة عضوية بدول حافات أوربا المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يسمى بدول الحوض المتوسط.

 

لقد حددت الإستراتيجية الأمريكية مفهوم "الشرق الأوسط" أنه يعني (المنطقة التي تشمل دول المشرق العربي وتركيا وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية الست، التي كانت ضمن جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق)، فهو المفهوم الذي يرى أن جملة الموارد متمثلة في نفط السعودية والمياه التركية والسوق المصرية والتكنولوجيا الإسرائيلية، هي في حقيقتها موارد إقليمية أكثر من كونها موارد وطنية.!!

 

إن مشروع الشرق أوسطية الإسرائيلي، يمثل جزءاً رئيسياً في الرؤية الأمريكية .. وعلى هذا الأساس فقد كلفت وكالة التنمية الدولية الأمريكية، بعد عام 1973 عدداً من المؤسسات والوكالات العلمية الحكومية بإصدار تقرير، قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد، تم مناقشته من قبل الكونغرس، أكد فيه على قيام كيان إقليمي في المنطقة يضم (المشرق العربي وإسرائيل وإيران وتركيا) يهدف إلى الدخول في مجال التعاون الاقتصادي الإقليمي ويمر بمراحل ثلاث : تبدأ بالتعاون في المجالات العلمية والتكنولوجية ومصادر الطاقة كمرحلة أولى، وتطوير التعاون في مجال مصادر المياه كمرحلة ثانية، والانتقال إلى المرحلة الأخيرة بإعلان السوق الإقليمية المشتركة .

 

قد توحي أطروحة "شيمون بيريز" بأن الإستراتيجية الإسرائيلية قد تخلت عن منهجها في استخدام القوة، ولكن الحقيقة أنها تختفي خلف منهج التعاون الاقتصادي وخلف فكرة إنشاء النظام الاقتصادي الإقليمي، والمحصلة هي أن المشاريع المريبة هذه تريد أن تقود إلى ما يسمى بـ(نظام الأمن الإقليمي) في المنطقة يبنى على أسس اقتصادية ذات مصالح متشابكة بقيادة إسرائيلية ومعاونة أمريكية أوربية .

 

المشروع الإيراني للغاز أنابيبه تمتد إلى ميناء العقبة ، والمشروع العراقي للنفط أنابيبه تمتد إلى العقبة أيضا ، مع ما يرافق هذه الأنابيب من محطات للضخ ومراكز للحماية ، فضلاً عن مد سكك حديد طرحت فكرتها بين بغداد وطهران قد تمتد مع شبكة الأنابيب يرافقها شبكة تغذية كهربائية .. ألم تكن هذه الإجراءات التي تتخذ هي جزء أساسي ينتهي من حيث الربط بالمشروع الصهيوني الذي يروم تأسيس سوق شرق أوسطية مشتركة ؟

 

هل أن إيران دولة برية مغلقة على الخلجان الداخلية والبحار العالية ؟ وهل تنقصها الموانئ لتصدير غازها ونفطها عبر ا لخليج العربي ؟ ألم تكن خيارات إيران متعددة ، فلماذا ميناء العقبة ؟ ولماذا ميناء "بانياس" على البحر الأبيض المتوسط ؟!

 

أساس التخطيط الإستراتيجي الأمريكي يشير إلى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يضم (تركيا وإسرائيل وإيران)، أخذ يتبلور من خلال المتغيرات التي افرزها " الربيع العربي" في ضوء واقع فراغ القوة الذي بدأ بتفكيك وإعادة تركيب جيو- سياسي للوحدات السياسية في المنطقة . وإذا كانت (إسرائيل) لها مشروعها من النيل إلى الفرات .. وإذا كانت إيران لها مشروعها من بلاد فارس حتى حافات البحر الأبيض المتوسط .. وإذا كانت تركيا لها مشروعها العثماني الجديد .. فأن أمريكا قد تبنت مشروع الشرق الأوسط الكبير ومحوره الرئيس نظام الأمن الإقليمي تقوده (إسرائيل) بشراكة إيرانية وتركية تحت رعاية أمريكية أوربية.!!

 

بيد أن الواقع يختلف ..إذ ليس كل ما يكتب على الورق يصبح مسلماً به ، لأن الواقع له قوانينه الصارمة وفي مقدمتها قانون " التحدي والاستجابة " .. هذه المشروعات تشكل تحدياً خطيراً لوجود الأمة وهويتها ونهضتها، ولا مجال أمام قوى الأمة إلا الاستجابة لهذا القانون الذي لن يخذل الشعوب حين تدافع عن وجودها وحقوقها ومستقبلها.!!

 

تمــــــــــــــــــت .

 

 





الاثنين ٢٨ ربيع الثاني ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / أذار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة