شبكة ذي قار
عـاجـل










يستمر الجدل محتدما بين أطراف العملية السياسية في العراق حول سن قانون البنى التحتية. بعضهم يريده وسيلة لشرعنة سرقة الموارد والثروات والكسب السياسي ورهن مستقبل الاجيال القادمة الى أجل غير معلوم، والبعض الآخر لا يريد أن يخرج من هذا السباق بدون كسب مادي أو معنوي. وهذه هي المعضلة الرئيسية التي يواجهها البلد اليوم. حيث بات كل شيء فيه يخضع للمساومات الرخيصة والبعيدة تماما عن المصلحة العليا. وأذا كانت البنى التحتية للخدمات الاساسية التي يجب أن تقدمها الدولة للمواطن مفقودة في العراق الجديد منذ الغزو وحتى الآن، فإن البنى التحتية للانسان العراقي التي هي تراكم حضاري تم بناؤه وتطويره على مدى قرون طوال، يجري اليوم سعي حثيث لبناء أطر وهياكل وهمية لها على أسس متخلفة لم يألفها المواطن من قبل. كما أن القيم الدينية والاخلاقية والثقافية والمعرفية والقيم الجمالية للوجود والنفس البشرية، ومحددات السلوك وضوابطه التي تشكل البنى التحتية للانسان، باتت تخضع الى عملية أجتثاث حقيقي لغرض أستبدالها بأخرى تتناغم مع البنى الاستراتيجية للعملية السياسية وأطرها التكتيكية المرسومة لمقتضيات كل مرحلة من المراحل.


لقد مارست قوات الغزو أولى خطوات هدم البناء القيمي منذ اللحظات الاولى التي دنست أقدامهم أرض العراق، عندما كانت سيطرتهم العسكرية تنتزع المواطنين من سياراتهم الشخصية، فتأمرالرجال بالتمدد أرضا للتفتيش أمام عوائلهم، والنساء برفع الايدي لتمتد أيدي جنودهم الى كل أجزاء الجسم، وغالبا ما كانت تجري عمليات أمتهان لكرامة الرجال بشكل مقصود، عندما يضع الجنود أحذيتهم على ظهورهم وهم ممددين على الارض. حتى الاطفال لم يسلموا من الاهانات حيث يتم ترويعهم بالكلاب البوليسية أو بالتلفظ معهم بعبارات جنسية. ثم تلتها مراحل أكثر قسوة لهدم أسس البناء الاخلاقي من خلال تجنيد المخبر السري، والضغط عليهم بالعقاب والثواب لتقديم معلومات عن ذويهم وأقاربهم، كي يتوج كل هذا الفعل المدبر والمدروس بكل الفضائح التي شاهدها العالم، التي كانت تجري للمعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب وغيرها من المعتقلات الاخرى. ولايمكن النظر الى حل الجيش العراقي وأستباحة مؤسسات الدولة ونهب المتاحف وحرق المكتبات، الا في هذا الاطار التخريبي الذي أستهدف البنى التحتية للانسان ورموزه التي تمثل عوامل فخر وأعتزاز له، وتشكل أحد الحوافز الرئيسية كي يستمر في الابداع والتطور. ثم أستكملت القوى السياسية التي جمعتها موائد المخابرات الاجنبية وأستقدمتها لحكم العراق هذا البرنامج التدمـــــيري الخطير.


حيث كانت الخيم الطائفية والقومية والدينية التي ترفعها وهي مدججة بالسلطة والمال السياسي أبلغ الاثر في تهديم الراية الوطنية، وقوة طاردة عن المركز الوطني الذي أجتمع عليه العراقيـــــون منذ الاف السنين، مما أدى الى أكبر عملية نزوح وهجرة في التاريخ بعد هجرة الفلسطينيين في العام 1948، حسب تعبير المنظمة الدولية للاجئين.


ولا يخفى على أي مراقب ماهي العواقب التي جناها العراقيون من ذلك، وما هي تأثيراتها التي مست البنى التحتية للانسان في هذا القطر. فلقد زرعت طوابير الوقوف على أبواب المساعدات الدولية في دول الجوار من أجل قطعة خبز أو علبة دواء، وكم الاهانات المقصودة والغير مقصودة في بوابات الحدود أثناء الهجرة، والنظرة الدونية لكل من يحمل الجواز العراقي، والاضطرار لشرح المعاناة الانسانية والمواقف المخجلة في الدوائر المسؤولة عن منح اللجوء في دول أوروبا، نقول عززت كل تلك الافعال الشعور القاسي بالمهانة وتضاؤل الذات الانسانية، مما أقصى الكثير من العراقيين عن الاندماج المجتمعي في دول الهجرة، حتى بات الكثير منهم يعانون الامراض النفسية والجسدية، وانتشرت حالات الانفصال العائلي وتفككت الروابط الاسرية.


أما من كان في الداخل فقد بات عليه مواجهة الواقع الجديد الذي أندفع بكل سيئاته على كل بيت وكل حي ومدينة. فأنتشرت اللصوصية وسرقة المال العام، وأضحت ثقافة عامة في المجتمع تعني الشجاعة والمكر والدهاء والقابلية على التكـــــيف مع الظـــروف الجديدة، حتى أزدحمت الطلبات على التوظيف في المسالك التي يمكن تعاطي الرشوة من خلالها، وبات الكثير من الشباب الطامح للحصول على المال من أجل أقتناء أغلفة الحياة الملونة، مستعدا لدفع الاف الدولارات كرشاوى من أجل الحصول على هذه الوظائف، خاصة في حقول الجيش والشرطة والاجهزة الامنية، كونها على تماس تام مع حياة الانسان الذي يصبح ذووه على أستعداد تام لدفع أية مبالغ من أجل أنقاذه.


كما أزدهرت الملاهي وبيوت الدعارة بشكل واسع في الاحياء السكنية، وأنتشرت ظواهر التشبه بالنساء من الشباب ومظاهر الشذوذ، وباتت مؤسسات وزراة الصحة تتحدث بشكل رسمي عن النسب العالية لتعاطي المخدرات والمسكرات بين صفوف النساء وليس الرجال فقط، وكذلك النسب الكبيرة للامية والبطالة والامراض النفسية. يقابل كل هذا الكم الهائل من الكوارث أضمحلال وأندثار في المؤسسات التي تعزز القيم السلوكية وتشجع على الثقافة وطلب العلم والبحث. فلا نواد شبابية قادرة على تفجير الطاقات الكامنة في قنوات سليمة وصحية، ولا مراكز بحوث ودراسات رصينة يمكن أن تضم المواهب الخلاقة الى برامجها، ولا مؤسسات مجتمع مدني قادرة على تعزيز القيم الحقة بين الناس، ولا وسائل أعلام وصحافة ودوريات قادرة على نشر ثقافة التعايش السلمي بين الناس، لأنها باتت وسائل لنشر الثقافة الطائفية والقومية والمناطقية كونها ابواق سياسية لأحزاب وتيارات منهجها طائفي.


بل حتى الصروح العلمية التي تمثلها الجامعات والمعاهد العالية تقزمت نشاطاتها الى الحد أنها أصبحت مقتصرة على المشاركة في مناسبات دينية، فتتشح جدرانها بالسواد وتسودها ممارسات اللطم والبكاء. لقد فرضت هذه الظروف قوانينها بقسوة على واقع الانسان العراقي، فتقدم الغذاء الجسدي كحاجة أساسية من أجل البقاء على الغذاء الروحي الذي يصنع الذات، وقفزت الانا والطائفية والقبلية لتتقدم على الشعور الوطني الجمعي، وتساقطت الخطوط الحمر التي نظمت العلاقات الاجتماعية، فأنحسرت سبل التواصل المجتمعي. وقد كان للسلطة القائمة الدور البارز في كل هذا الانحدار، بل أنها مازلت تصر على تشجيعه على الرغم من الرايات الاسلامية التي يرفعونها. فالظواهر السياسية والاقتصادية والدينية والامنية والاجتماعية والثقافية التي يصنعونها يوميا في المشهد العراقي، تظهر أشكالا للحرب المعلوماتية النفسية لتغيير الهندسة السايكولوجية للانسان العراقي، وكان أخرها الاعتداء على أقدم صروح الثقافة والنشر في العراق وهو شارع المتنبي، حيث أقتحمت اليات أمانة بغداد السوق وهدمت العديد من المكتبات الجوالة فيه.


أن المجتمع العراقي اليوم هو مجموعة بشرية تحت تأثير تيار موجه من المعلومات لتشكيل مشهد محدد مطلوب يتصرف الناس حسبه، أدواته الاعلام الطائفي وثقافة المكونات وتزوير حقائق التاريخ ونشر الفساد المالي والاداري، والاجتثات وكواتم الصوت والفرقة القذرة، تحت راية من لم يكن معنا فهو ضدنا .

 

صحيفة القدس العربي اللندنية
 

 

 





الثلاثاء ٢٢ ذو القعــدة ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / تشرين الاول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة