شبكة ذي قار
عـاجـل










إذا كان إكسير الثورة الناجحة مزيجاً مركَّباً من منهج عمل وطني وقيادة واعية اتخذت هذا المنهج بوصلة تحدد اتجاهاتها، فإن ثورة السابع عشر – الثلاثين من تموز 1968، ستظل الثورة الحقيقية التي تضمن للعراق ربيعاً ثورياً دائماً، وسيبقى منهج عملها ونوعية قيادتها يمثِّلان المنارة التي تصوِّب اتجاهات سفينة ثورة تحرير العراق وتوحيده في هذه المرحلة بالذات.


وإذا كانت الثورة تتكامل بجمع المنهج الصائب والقيادة الماهرة والشعب الثائر، فستبقى ثوابت ثورة تموز وأهدافها مستمرة مهما تغيَّرت المراحل. ستبقى ثورة على تقاليد الأنظمة الرسمية ومناهجها في الحكم، لأنها تضع مصلحة الشعب فوق كل مصلحة، كما أنها ثورة مستمرة تعمل على تحرير القرار الوطني من أي التحاق وأية وصاية. ولأنها كانت تُقرن القول بالفعل فقد تعاونت أيادي الشر والعدوان على إسقاطها. وهذا ما خططت له تلك الأيادي منذ أن عجزت عن احتوائها، ووضعت قرار إسقاطها موضع التنفيذ عندما احتلت العراق في العام 2003.


ولأن ثورة تموز كانت ثورة بالفعل، ولم تكن انقلاباً عسكرياً كما زعمت القوى المعادية لأهدافها، فقد برهنت على ثوريتها عندما جدَّدت ذاتها في المقاومة المسلَّحة ضد الاحتلال الأميركي قبل أن يعلن جورج بوش انتصار قواته في الأول من أيار من العام 2003. وظلَّت إدارته تكابر ولا تصدق أن المقاومة العراقية المسلحة، التي قادتها ثورة تموز، ستحقق أهدافها في إلحاق أكبر هزائم التاريخ بأكبر إمبراطورية عرفها تاريخنا المعاصر.


ولكن ليس كل ما تخطط له القوى المعادية ممكن النجاح، وتصبح خططها أكثر صعوبة إذا كان من يواجهها يمتلك النظرية الصائبة والسواعد المفتولة والإرادة على المواجهة، وهذا ما كان جاهزاً عند ثورة تموز تحسباً لأي احتلال. فلديها المنهج السياسي والشعب الثائر والقيادة الواعية.


وإن ما نقوله عن تلك الثورة كان واقعاً حقيقياً لا لبس فيه ولا تضخيم للذات، وقد أكَّدته نتائج تسع سنوات من المقاومة الشرسة التي جعلت العدو المحتل يهرب من أرض العراق ليوقف نزيف دم جنوده، ويلملم ما بقي له من اقتصاد منهار.


كانت مقدمتنا لكي نستقرئ ما سيحمله المستقبل القريب للعراق من تطورات واستحقاقات ومتغيرات.


ولكي نصل إلى أقرب ما يمكن من الاستنتاجات الواقعية لتحديد دور ثورة تموز في رسم مستقبل العراق، الذي ما زال محتلاً، لا بدَّ من أن نوضح ما هو مفهومنا للثورة؛ فنرى بداية أنه من أقل الثورات شأناً هي من تعرف كيف تهدم ولكنها لا تعرف كيف تبني، تهدم الأبنية التي تخلخلت أركانها وإذا أرادت أن تبنى البديل فهي عاجزة وقاصرة لأنها لا تملك خبرة البناء، ولهذا فمن غير المستغرَب أن يتولى تلك العملية أسوأ المهندسين وأكثرهم جهلاً من الذين يشوهون بناء البديل، أو أكثر المهندسين الوصوليين ليعيدوا البناء وفق مصالحهم وعلى مقاييسهم وأحجامهم. واستطراداً، إذا لم يكن البديل أفضل من سابقه فكأننا بتلك الثورات لا هدماً للقديم قامت به ولا بناء جديداً حصلت عليه. ولهذا فإن أية ثورة لا تجمع بين وسيلتيْ إرادة الهدم ومعرفة إعادة البناء تكون بمثابة (الثورة الناقصة) الأركان والأسس.


وبناء على مفهومنا هذا، نتساءل: أين يقع دور ثورة تموز في مرحلتيْ هدم البناء الذي أسسه الاحتلال الأميركي، وما يبنيه الاحتلال الإيراني؟


ثورة تموز جمعت منذ ولادتها شرطيْ الثورة الناجحة، فمن سمات استراتيجيتها أنها تأسست على ثوابت حزب عقيدي، وهو حزب البعث العربي الاشتراكي، فهي عندما هدمت بنى النظام الذي أسقطته في (17 – 30 تموز 1968)، لم تحرز تغييراً عادياً فحسب، بل أحدثت أيضاً ثورة باهرة في البناء لم تعهدها ثورة أخرى.


وإذا كان مقال لن يلمَّ بتعداد عناوين إنجازات تلك الثورة فنترك القارئ ليعود إلى المصادر الغنية التي قامت بدراسة تلك التجربة دراسة وافية، من أجل أن نلقي الضوء على ما ينتظر هذه الثورة في المرحلة الراهنة، وما سوف تحرزه في المراحل التي تليها. وهي تتلخص باستكمال عملية هدم ما بناه الاحتلال الأميركي من جهة، ومن جهة أخرى البدء في عملية البناء بعد إنجاز مهمة التحرير والاستقلال.


-أما الأولى: إسقاط الاحتلال الأميركي فلن يكون نهائياً وناجزاً إلاَّ بإسقاط الاحتلال الإيراني البديل، وإسقاط العملية السياسية الموكل بها فلول من الخونة والفاسدين واللصوص من الذين يستفيدون من حالة الفلتان والتسيب التي تركها الاحتلال عمداً ليبقى ممسكاً بقرار حمايتهم، فيبقون خاضعين لإملاءاته وحماة لمصالحه.


-وأما الثانية، فهي مرحلة إعادة إعمار العراق المستقل المحرر، وهذه المرحلة لن يؤدي موجباتها إلاَّ الذين وعوا ثوابت الثورة ممن يجمعون شرطين أساسيين: الخبرة والمصداقية. وقد دلَّت التجارب الحقيقية، خلافاً لكل أنواع التشويهات الإعلامية المعادية، أن مناهج عمل ثورة تموز: نظرية وشعباً وقيادة، هي الفارس المؤهل لاستئناف مسيرة البناء.


ولأن استراتيجية البناء موفورة الإمكانيات والكفاءات على الرغم من اجتثاث الأعداد الكبيرة من البنى البشرية الكفؤة، سياسيون ومفكرون واختصاصيون بشتى العلوم واقتصاديون وعسكريون...، ما يزال أضعاف العدد موجوداً، من الذين عجزت قوى الاحتلال وعملاؤه من اجتثاثهم، فهم جاهزون للقيام بإعادة البناء من جديد مستندين إلى خبراتهم السابقة ومواصفات عقيدتهم الوطنية والقومية. فثورة تموز إذن تميَّزت بأنها كانت حريصة على إنتاج ما يكفي حاجة العراق من أولئك الخبراء والاختصاصيين وما يفيض. ولهذا فمن المقدَّر لعملية إعادة البناء، أو إعادة إعمار العراق بعد تحريره، أن تنطلق فوراً بعد إطلاق صفارة الاستقلال الوطني الكامل والناجز.


وأما عملية إنجاز مرحلة التحرير الوطني، والحصول على الاستقلال السياسي، فهذه مسألة يعود شأنها وتفاصيل تطبيقها إلى قيادة المقاومة التي أثبتت كفاءتها في إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي الأم. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن من نجح نجاحاً بطولياً في إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي، الأكثر قدرة وإمكانيات من غيره، لن يكون أقلَّ كفاءة بإلحاق الهزيمة بفلول الاحتلال، من عملاء عراقيين واحتلال إيراني بديل.


وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن اجتهادات وانتقادات ترتفع من هنا وهناك لما يجري داخل سياق استكمال مرحلة التحرير الراهنة، وإذا كنا نكن كل الاحترام لحرية القول والانتقاد، نرى من الضروري أن نتمنى على الصادقين بنقدهم أن يأخذوا بعين الاعتبار مسألتين، وهما:


-إنه من غير المنطقي أن يلعب هؤلاء دور المرشد والناصح الذي يحسب أنه يمتلك الحقيقة كاملة، لمن قدَّم أغلى التضحيات، وأنجز أعظم الانجازات، خاصة أن من يتصدرون لدور النصح والإرشاد هم ممن لا يُلمُّون بشتى الظروف التي يفقهها القابعون في الميدان، من القابضين على جمر التضحية والنضال.
 

-أن لا تكون قياساتهم ومعاييرهم خلطاً بين الاستراتيجي والتكتيكي بشكل عشوائي وجامد. فإذا كانت الثوابت هي دليل يرشد قادة الثورة، فإن تفصيلات الواقع لها أسسها ومبادؤها التي لا يجوز إغفالها. وهذه تُعتبر من خصوصيات الثورة العراقية في هذه المرحلة، فقيادة الميدان طالما أثبتت محافظتها على الثوابت الثورية من دون مهادنة فهل هناك ما يضيرها أن تتعامل بمرونة مع هذا الموقف التكتيكي أو ذاك؟


ولأن البعض ممن هم بعيدين عن هموم القيادة الميدانية وانشغالاتها ومسؤولياتها الجسيمة والخطيرة والتي تستدعي كل آيات الاحترام والتقدير، يُكثرون اللغط حول هذا الموقف الجزئي للقيادة أو ذاك، نذكِّرهم بأن القانون العلمي في معالجة الظواهر والمنحنيات السياسية لم يأخذ الاستراتيجي على مأخذ الجمود، بل اعتبر أن العلاقة بين الاستراتيجي والمرحلي فن سياسي بامتياز، وهي علاقة لا شك بأن لها أسساً علمية مشروعة ومعترفاً بها.


وبناءً عليه، تحتاج قيادة الثورة العراقية الآن، في مرحلة استكمال التحرير الوطني وصولاً إلى مرحلة الاستقلال السياسي، إلى توفير ظروف الاستفادة من مجموعة من العوامل المرحلية التي تمهِّد الطريق من أجل تسريع خطى الثورة لبلوغ أهدافها. وإذا كانت علاقة الاستراتيجي مع المرحلي علاقة علمية مشروعة، فهذا يتم على قاعدة أن لا ترهن قيادة الثورة أحد الثوابت من أجل الحصول على العوامل المرحلية، وهذا ما نقرأه في سلوكات القيادة ومنهج عملها وخطابها المُعلَن.


إن لمرحلة طرد الاحتلال الإيراني الجارية الآن مستلزمات جديدة وسلوكات مرحلية جديدة، وليس من المُستغرَب أن توظِّف قيادة الثورة التناقضات المشتركة بين بعض الأنظمة والدول، خاصة العربية منها، مع الاحتلال الإيراني، من أجل عمل مشترك ضد هذا الاحتلال. وما الخطاب السياسي المُعلَن لقيادة الثورة العراقية الآن، كما نحسب نحن، إلاَّ ترجمة عملية لواقع الحال.

 

 





الاثنين ٤ رمضــان ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / تمــوز / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة