شبكة ذي قار
عـاجـل










شهر جويليه اختلفت الامم بتسميته من خلال تواريخ ايامه وأحداثه، فتاريخ 5 جويليه/ تموز يطل علينا في الجزائر كل عام، وله وجهان، الاول هو اليوم الاسود المخزي لفرنسا الاستعمارية وعساكرها، يذكرنا بالغزو الاستعماري للجزائر واحتلالها 132 عاماً مليئة بالمئآسي والنكبات، بدء من 1830م، حتى الى إطلالة فجر 5 جويليه / تموز 1962 بوجهه المبهج المقترن باعلان إستعادة استقلال الجزائر رسميا.


نستعيد الذكريات المرة والحلوة بنفس التاريخ ولنفس اليوم، ومرورا بـأيام تموزية أخرى منها 10 جويليه / تموز 1985 نستذكر ذكرى اغراق سفينة السلام " قوس قزح" التابعة لفريق السلام الاخضر في اعالي البحار في المحيط الهادي وهي تتوجه بنشطائها محتجة على استمرار التجارب النووية الفرنسية في الباسيفيك ،ولا بد أن نمر الى 14 جويليه/ تموز1789م ،اليوم الوطني الفرنسي وذكرى انتصار الثورة الفرنسية وما اعلن عن شعاراتها التي أسقطتها السياسات والتطلعات الاستعمارية ولوثتها في الوحل. هذه التواريخ محطات هامة من التاريخ الفرنسي، لطالما تم بها اختبار مصداقية فرنسا السياسية والاخلاقية قرابة قرنين ونصف.


ولشهر تموز/جويليه 2012، وارتباطا بتلك التواريخ اهمية استثنائية تستوجب التوقف والتأمل عندها لاقتران هذا العام بالذكرى الخمسينية لاستعادة الجزائر إستقلالها، ووصول فرانسوا هولاند رئيسا إشتراكيا جديدا لفرنسا بعد رحيل الرئيس اليميني السابق ساركوزي عن السلطة.


والفترة القادمة تؤشر بوضوح الى توجهات فرنسية جديدة في المنطقة، ومع الجزائر خاصة، استنادا الى التصريحات الاعلامية الأخيرة المنسوبة الى فابيوس وزير خارجية فرنسا متحدثا عن الماضي والمستقبل وحديثه "عن نية فرنسا الاقتراب من فتح الملفات الساخنة ومنها ملف فرنسا النووي في الجزائر".


واذا كان الملف النووي الفرنسي في صحراء الجزائر وجزر المحيط الهادي قد ظل قضية في دائرة فرنسية حمراء، غير مسموح الاقتراب، سواء على المستوى الفرنسي او الاقليمي وحتى العالمي، لكن طموحات القبضة النووية الفرنسية سيتجاوزها زمن الشعوب وارادة الانسانية في محاسبة الطغاة. وهكذا نسجل احترامنا لارادة وحركة الضغط بوجه الصلف النووي الذي بدأه دعاة السلام ومناهضي الحرب والتجارب النووية، من المدافعين عن الحقوق المدنية والانسانية لاسترجاع حقوق ضحايا التفجيرات النووية في الجزائر وبولونيزيا.


هذا الضغط وآلياته قد اصبح مزعجا للحكومات الفرنسية المتعاقبة حين وصل الامر الى طرق عدد من نوابها منصة مجلس الشيوخ الفرنسي، وواجهت منظمات المحامين مصالح العدالة الفرنسية ومحاكمها منذ سنوات لفتح تلك الملفات وكشفها للعالم. ورغم ان جهودهم حتى هذه اللحظة اصطدمت بكل العوائق الادارية والسياسية التي وضعتها الحكومة الفرنسية ووزارة الدفاع خاصة الا ان خطوة الالف ميل تبدأ بخطوة واخذ الحقوق تبدأ بطرقة على باب المحاكم والهيئات الدولية ومنظمات حقوق الانسان.


لم يعد مقبولا الاقتناع بتمسك الاطراف الفرنسية الحاكمة ولا الرضوخ أمام محاولات تشددها في التعامل مع هذه الملفات، بحجة انها باتت جزءاَ من الامن القومي والعسكري الفرنسي، ويتوجب الحفاظ على سريتها والتكتم على معطياتها؛ لكن الطرق على الحديد يمكن ان يثنيه أن لم يكسره، وليس للمجرمين من حقوق في المكابرة والاعتزاز بالمجد النووي الزائف. نسمع هنا صوت المؤرخ الفرنسي جيل مانسرون الذي: "يرى أن الدولة الفرنسية وجدت صعوبات وحرجا للإعتراف بالجرائم التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري إبان الحقبة الاستعمارية؛ وذلك لكون أن بعض المسؤولين الفرنسيين، الذي كانوا ضالعين في جرائم خلال حرب التحرير، أصبحوا قادة مسؤولين في هرم الدولة الفرنسية بعد استقلال الجزائر". وفات هذا المؤرخ القدير أن يذكر ان هؤلاء القادة والمسؤولين صاروا ضالعين بجرائم كبرى ضد الانسانية من خلال عضوية النادي النووي ومجلس الامن والتملك لصوت اسمه " الفيتو" أي حق النقض ضد اية فعالية سياسية تسعى لادانة الجرائم الاستعمارية القديم منها والمستجد. فالدول العظمى ومنها فرنسا تمارس " الترهيب النووي" لانها تمتلك السلاح النووي وتسعى الى تطويره والتملص من الاعتراف بفداحة افعالها الاجرامية على ساحات بلدان العالم الاخرى.


وهكذا سجل تاريخ العاشر من جويليه 1985 حماقة نووية فرنسية اخرى، حين اقدمت الوحدات المخابراتية الفرنسية الخاصة على تفجير سفينة Rainbow ،وهي راسية في احد الموانئ بالقرب من ايزلاندا، وتدميرها تماماً بتفجير زرعه رجال الضفادع من الوحدات الفرنسية المتخصصة، لمنع فريق نشطاء السلام الأخضر من الوصول الى مواقع التجارب النووية في الباسيفيك والتعبير هناك ،مجازفين بحياتهم، واحتجاجهم على استمرار تلك التجارب النووية.


وهكذا تكرر فرنسا عدم خجلها من إجرامها وتكابر في التمسك بفخر بانجازاتها العسكرية وتاريخها النووي المخزي في الصحراء الجزائرية في ستينيات القرن الماضي، وبعدها جرائمها النووية في جزر بولونيزيا التي استمرت حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي.


وبتجاهل الحكومات الفرنسية لأصوات الاحتجاجات الجزائرية على مدى عقود من الخراب النووي القائم في الصحراء الجزائرية، وبممارستها الارهاب النووي ضد نشطاء حقوق الضحايا واقدامها على تفجير سفينة "قوس قزح" Rainbow تكون الحكومة الفرنسية قد تجاوزت تماما إدعاءاتها في احترام القانون الدولي وتسجل استمرارها في التجاهل التام لمطالب الضحايا من جزائريين وبولونيزيين، وحتى افراد من القوات المسلحة الفرنسية الذين شاركوا بتنفيذ المشروع النووي الفرنسي، والمصالح الفرنسية لم تتوقف عن كبح نشطاء حركة السلام، من خلال التهديد الجسدي والإعتداء، والحصار الاعلامي وتشويه الحقائق أمام المجتمع الدولي. وكل هذه الممارسات تشكل موحدة استعمال ما يسمى" الترهيب النووي" الذي لا يختلف عن بقية انواع الارهاب، وخاصة ضد أصحاب حقوق هذا الملف وغيرهم.


في غضون هذا الاسبوع، عاد الموضوع النووي الفرنسي في الجزائر، الى الواجهة الاعلامية وبشكل ملفت للنظر، لمسناه من خلال التصريحات الرسمية لوزراء خارجية الجزائر وفرنسا وما تسرب عن المحادثات بين البلدين التي تناولت هذا الموضوع خلال الزيارة الرسمية لفابيوس وزير الخارجية الفرنسية للجزائر منتصف جويليه/ تموز الحالي، والإعلان رسمياً: عن نية الطرفين بحث الموضوع بشكل رسمي.


تزامن الحدث الدبلوماسي هذا مع الاعلان عن صدور دراسات قضائية ومخبرية فرنسية، قيل عنها انها بعد التأكد الميداني والبحث التجريبي والاستقصاء الطبي صارت تعترف بتأثيرات الاشعاع على الضحايا من سكان الجنوب الجزائري ممن يقطنون قرب تلك المناطق، وقيل ايضا : بان تلك الدراسة توصلت الى ربط حالات السرطان المسجلة بجنوب الجزائر مع أخطار الاشعاع. وجاء التوصل إلى تلك النتيجة "المتوقعة"، بعد تحقيق دام ثماني سنوات كاملة، أشرف عليه الخبير الفرنسي، فلورون دو فاتير، في متابعته الأشخاص المدنيين والعسكريين الذين حضروا التجارب النووية الفرنسية، التي أجريت بدءاً من عام 1960 بصحراء الجزائر، وامتدت بعدها حتى عام 1996 بجزيرة بولينيزيا الفرنسية.


واذا كانت دراسة فلورون دو فاتير مهمة من الناحية العلمية لنا، كونها تثبت الحقائق على الأرض، وتؤكد الى ما ذهبنا اليه منذ عشرين سنة، فان شهادة المؤرخ الفرنسي جيل مانسيرون تأتي مهمة في السياق والتوقيت أيضا لتساهم في تعرية مبررات التصلب الفرنسي من قضية فتح الملف النووي فجاءت محاضرته التي القاها ضمن اعمال ندوة فكرية أُقيمت في الجزائر حول التاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر بمناسبة الاحتفالية الخمسينية لاستعادة الاستقلال لتشكل إسهاما فكريا يفضح الجريمة المسكوت عنها منذ نصف قرن. وجاء فيها: ) ... فقد وجد العديد من هؤلاء القادة من مقترفي الجرائم او مساندي نظرية "الطابع الحضاري للإستعمار" صعوبة في التعاطي مع "نظرة نقدية وموضوعية " لتلك الحقبة ( ، وعلى سبيل المثال ذكر المؤرخ مانسيرون، اسم فرانسوا ميتران من الحزب الاشتراكي ) الذي أصبح رئيسا لفرنسا بين 1981 و 1995، وهو الذي شغل منصب وزير الداخلية إبان حرب التحرير الجزائرية، وأمضى خلال تلك الفترة على العديد من الأوامر لإعدام الثوار الجزائريين ومناضلي جبهة التحرير الوطني ( ..


و يواصل المؤرخ الفرنسي قوله أيضاً : ) ...أن الرئيس الفرنسي الاشتراكي المنتخب أخيرا، فرانسوا هولاند، بدأ بوضع أسس لهذا المسعى خصوصا بعد اعترافه بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية الخامسة ( 15 مايو 2012 ) بضحايا 17 أكتوبر 1961 واعتراضه لسياسة أب المدرسة الفرنسية "جول فيري"، الذي كان من "مؤيدي الفكر الاستعماري" ( . و قال المحاضر: ) ... ان موقف الرئيس هولاند، هو دليل آخر على "التغير في النظرة الفرنسية الرسمية تجاه ماضيها الاستعماري ( . و في نفس الإطار شدد المؤرخ الفرنسي: ) على ضرورة اعتراف فرنسا بماضيها الاستعماري، الذي يتنافى تماما مع مبادئ الثورة الفرنسية التي قامت على أساسها الجمهورية الفرنسية وهي "الحرية، الاخوة والعدالة" ( ، وقال في هذا الصدد: ) ان الاعتراف بجرائمها سيغير من نظرة المجتمع الفرنسي ومن علاقة فرنسا مع بلدان الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط خصوصا مع الجزائر ( ..
ويعتقد جيل مانسيرون: ) انه بغض النظر عن الآثار التي خلفتها التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية والتي لا تزال تسقط العديد من الضحايا من السكان إلى وقتنا الحالي و الذين يجب تعويضهم "ماديا" فان اعتذار فرنسا للشعب الجزائري هو "دين معنوي" أكثر من إي شيء آخر ( .


مثل هذه المواقف الفرنسية ) القديمة ـ الجديدة ( ، وغيرها، ليست اكتشافا جديدا في نظرنا، رغم اهمية نشرها الآن والإقرار بها اعلامياً وإعادة نشرها من قبل جهات فرنسية علمية وفكرية وتاريخية، لأنها جاءت متزامنة مع وصول الوزير الفرنسي الى الجزائر وفي ظل عهدة جديدة اشتراكية للرئاسة الفرنسية، والوزير فابيوس بدى أقل حماسة واندفاعا وتحفظا من الباحث العلمي الفرنسي فلورون دو فاتير والمؤرخ الفرنسي مانسيرون اللذان قالا الحقائق المرجوة منهم بحكم نتائجهم وبحثهم وبفضل الموضوعية العلمية التي تتطلب توفرها عند الباحث العلمي والمؤرخ. فالوزير جاء وهو : ) داعيا الى فتح صفحة مستقبلية جديدة مع الجزائر ( ، تجاوزا لما قبلها من صفحات سوداء قاتمة، تسود العلاقة بين البلدين المتصالحين بعد توقيع اتفاقيات إيفيان، ورغم مرور نصف قرن على الانسحاب العسكري الفرنسي من الجزائر وإعلان استقلال الجزائر ومحاولات تناسي فتح ما تسمى بالملفات الساخنة التي تركت لتبرد مع مرور الزمن فإن الموقف الفرنسي السياسي والرسمي والدبلوماسي بقي يراوح مكانه بعدم رؤية الارض المحروقة نوويا برقان وتمنغست.


مواقف هؤلاء فاتحة طيبة يتطلب الموقف من هؤلاء الوقوف عمليا مع جهود الجزائريين لإيصال ملف جرائم التفجيرات النووية الى عدالة الانسانية مرورا بعدالة فرنسية مطلوبه لأنصاف الضحايا كبشر وبيئة الجزائر كبلد أحرقته تفجيرات فرنسا النووية برعونة واستهتار دون الاحتراس من العواقب، وكما وجهت منظمة السلام الاخضر سفينتها الى المحيط الهادي للتضامن مع سكان تلك الجزر فان منظمة السلام الاخضر، وهي تسعى الان لحماية القارة القطبية المنجمدة الجنوبية من الانهيار والذوبان الثلجي، ووضعت رمزا لحملتها العالمية ضد شركات الغاز والبترول وتجارة مصادر الطاقة صورة لاحد الدببة البيضاء رمزا للنضال العالمي لحماية البيئة ولمنع ظاهرة الاحتباس الحراري... الخ. فاننا من جهتنا دعوناها وندعوها لإعتماد صورة الجمل الرقاني او صورة المهاري الآيلة للانقراض في صحرائنا، بسبب ما اصابها من اشعاع نووي ناجم عن تركة التلوث الاشعاعي الفرنسي في الصحراء الجزائرية.


تتطاير فرنسا ونخبها العلمية شررا وهلعا وتعلن حالات الطوارئ النووية عند تسجيل مجساتها وادوات رصدها المطيافية وجود أثر من دقائق لعناصر مشعة مقدرة بالميكروغرامات، تكون عابرة لفضاء البحر المتوسط وتصل بعد خمسين سنة، مارة عبر طبقات الجو العليا لتصل الى اعالي أجواء فرنسا وجبال سويسرا، ولا تؤرقها البتة وجود آلاف الاطنان من المواد المشعة وبطاقات اشعاعية عالية منتشرة على مساحات كبيرة من الصحراء الجزائرية.


نقول لنشطاء السلام ورافضي الحروب والتجارب النووية يا أصدقائنا البيئة واحدة سواء كانت صحارى او اجواء او بحار ومحيطات ونحن الاقرب في الاخطار منكم، فلم الكيل بمكيالين حتى في ميزان الدفاع عن حقوق الانسان والبيئة.


كنا ولا زلنا، نتحدث عن مثل هذا التلويث وسجلنا العديد من نتائج الابحاث والرصد الصحي والبيئي في محيط رقان وتمنغست وانتظرنا مثل هذا الاكتشاف الفرنسي، ويقيننا ان فريق البحث الفرنسي العامل منذ سنوات يعرف ويقرأ ويتابع نتائجنا وما توصلنا اليه من صلة تلك الامراض السرطانية والتشوهات الخلقية وتردي الانتاج الحيواني والنباتي... وغيرها من الظواهر المرتبطة مع الاشعاع، قلناها ومنذ قرابة ربع قرن، وكررناها في ملتقيات وطنية ودولية وبمحاضرات متخصصة، ومن دون انقطاع، لكن فرنسا، ظلت فرنسا، ظلت تقابل اطروحات الجزائريين وغيرهم وتتنكر لمطالباتهم، وما ينشر هنا في الجزائر من معطيات دامغة قابلتها المصالح الفرنسية بإدارة الظهر تماما، متجاهلة مئآسي اشعاع تفجيراتها وتجاربها النووية. واذا كان هذا الموقف الرسمي لمصالح الدولة والحكومة الفرنسية، فإن الاعلام الفرنسي الرسمي والحر قابل صرخات الضحايا الجزائريين بالاذن الصماء والتجاهل ايضاً.


نشير هنا أيضا الى ان منظمة قدماء الحرب النووية الفرنسية AVEN وغيرها من المنظمات الفرنسية والبولونيزية المناهضة للجرائم النووية الفرنسية في صحراء الجزائر وجزر بولونيزيا والمحيط الهادي، سبق أن قدمت العديد من مثل تلك الحقائق والقرائن والأدلة العلمية وتدهور الحالة الصحية والبيئية، ونشرت عنها الوثائق والتقارير الطبية، ورفعت مذكراتها الحقوقية الى الاعلام الفرنسي والعدالة الفرنسية وحتى الى البرلمان الفرنسي. وبالمثل كان الصمت الفرنسي الرسمي سيد الموقف.


وكم من مرة قرأنا واطلعنا على دراسات فرنسية هامة نشرتها منظمة AVEN تؤكد من خلال متابعتها لآلاف الضحايا من الفرنسيين، ومنهم عسكريين ومدنيين، وتابعت حالات صحة ابنائهم وحتى أحفادهم، من الذين انتقلت الى اجسادهم ومورثاتهم الجينية وما أصابها من أضرار الاشعاع المؤين، وتأكد للطب والقانون الفرنسي: بان الامراض السرطانية والتشوهات الخلقية التي مست الأبناء والاحفاد الفرنسيين، بعد آبائهم وأجدادهم، كانت بسبب التفجيرات النووية في صحراء الجزائر وجزر بولونيزيا، وملفات هؤلاء جميعا بلغت المئات والأُلوف، وهي موجودة امام خبراء وأطباء وزارة الدفاع الفرنسية، وعلماء مفوضية الطاقة الذرية الفرنسية، وتقدمت عديد الملفات الى منصات القضاء الفرنسي المدني والعسكري، وطرقت أسماع جلسات مجلس الشيوخ وسائر الهيئات البرلمانية الفرنسية وحتى الاوربية. ولم نسمع ايضا اية استجابة تُنبأ بالاعتراف ولو بحالة واحدة.


وكما في الجزائر هناك في فرنسا وبولونيزيا تتماثل الحالات وانواع السرطانات والتشوهات الخلقية، والضحايا صابرون على الضيم النووي، منهم من غادر الحياة الى الابد، وكثير منهم ترك بصمات تشوهه الجيني في ذرية عائلته.


وما سجلناه هنا في الجزائر منذ سنوات ووثقناه بالكتابة والإصدارات والإشراف العلمي على عدد من الدراسات الجامعية صار حقيقة ملموسة، واخيرا ما أنجزناه من توثيق تلفزي بالصوت والصورة ومع أجيال جديدة مولودة أخيرا سجلته كامرات بعثات التلفزة الوطنية الجزائرية والأجنبية، وما سجلته الصحافة الجزائرية كان كبيرا ومتواصلا كم من مرة أزعجت التقارير مصالح وزارة الصحة والبيئة.


ألا يكفي كل هذا وذاك لإجبار حكومة فرنسا بالاعتراف أولاً بمسؤولياتها، وبالانصات للحقوق المنسية خلال عقود من عمر المأساة النووية في الصحراء الجزائرية التي تجاوزت نصف قرن، ومن ثم الشروع بالاجراءات العملية التي تتطلبها التعويضات والتطهير للمناطق الملوثة.


وفي هذا العام وقبلها، وخلال زياراتنا الميدانية العديدة برفقة الفرق الطبية والحقوقية والإعلام الوطني والأجنبي قدمنا الكثير من عينات الضحايا وشهاداتهم، وكلهم من ضحايا مجازر الاشعاع النووي المستمرة والممتدة الى الاصلاب، وهذه الحالات لا تحتاج الى عبقرية الاكتشاف او البحث العلمي الخاص، ؛ بل يمكن مقابلتها في البيوت والمدارس والمستشفيات والاسواق وحارات رقان واولف وقصور اقليم توات وتمنغست، تعكسها حالات السرطنة المتصاعدة او حالات التشوه الخلقي التي بات يعرفها العوام قبل الطبيب المتخصص، أما تسجيل الوفيات وفيها الكثير والكثير من الادلة الدامغة فان القبور يمكنها ان تفصح عن حالات الوفيات ايضا.


الحصيلة هنا تتجاوز الاكتشاف الذي توصلت اليه الدراسة الفرنسية للباحث فلورون دو فاتير، مع كل التقدير لها، والتي نوهت عنها الصحافة الاجنبية وبعدها الجزائرية ومنها صحف الشروق اليومي والخبر وحتى الاذاعات والتلفزة ومواقع الانتنيت وغيرها خلال الاسبوع الماضي. الجميع تناقل الخبر العاجل، وكأن الفرج قادم من باريس يسعى لاطلاق سراح الحقائق المسكوت عنها في الارشيف النووي الفرنسي وجرائمه بعد تلك الدراسة الفرنسية وتصريحات المؤرخ وسكوت الوزراء بشكل لا يليق عن احترام لعبقرية الشعب الجزائري وفطنته وتمييزه القول الحلال عن الحرام.


شخصيا لا استبعد ان مثل هذه التسريبات الصحفية والتصريحات التي سمعناها خلال الاسابيع الأخيرة نابعة عن صدفة أو فراغ، وان لم تترجم واقعا ملموساً، فانها ستبقى في حدود الاماني او طبخات الاعلام والتوظيف السياسي والدبلوماسي الفرنسي الناعم والهادئ والمبطن في كثير من مناحيه، موظفة لغايات اخرى ترتبط بمعالجة ملفات سياسية وإستراتيجية أخرى ساخنة في المنطقة، وهي ذات صلة بالاحداث الجارية في دول الشمال الافريقي ومحيط دول الساحل الافريقي ايضا.


وما جاءت به تصريحات وزير الخارجية الفرنسية فابيوس ونظيره الجزائري مراد مدلسي خلال الاسبوع الماضي ضمن الندوة الصحفية التي تناول فيها الطرفان الجزائري والفرنسي العلاقات العامة والخاصة، وما اعلن عنها حول الملف النووي الفرنسي في الجزائر لا تعدوا احاديثا في التفاؤل الدبلوماسي، وتهدئة قلق الرأي العام، حيث تمت اضافة قضايا أخرى الى تلك المحادثات، كملف التجارب النووية الفرنسية في رقان واينيكر ومعالجة تركتها البيئية مستقبلا... الخ.


كل ما سمعناه لا يزال كلاما سنأخذ جديته على محمل الثقة والتفاؤل بحذر شديد، لتناقض ما طرحه السيد فابيوس وسكت عن تصحيحه السيد مراد مدلسي، خاصة عند تكرار بعض الاقوال المتداولة اعلاميا عن تلك الندوة الصحفية بأن:


" البلدين اتفقا على إنشاء لجنة مختلطة للنظر في مسألة الأرشيف، دون تقديم المزيد من التفاصيل" . وفي موضوع متصل أضاف السيد مراد مدلسي أن: " الذاكرة التي تعتبر حاضرة ليس فقط في أذهان المسؤولين، لكن أيضا في أذهان الجزائريين ككل، لا يمكن نسيانها".


وجاء من تلك الندوة ايضا: "ان فرنسا قدمت معلومات او تعاونت مع الجانب الجزائري للكشف عن خارطة ومواقع التجارب النووية في الصحراء، وانها مستعدة للتعاون حول تطهير المنطقة من مخاطر الاشعاع"، وما يتعلق بالقسم الاول من التصريح نقول: ما يشاع بين الجزائريين وكما هو معلوم لدى الرأي العام، وحتى لدى بعض المسؤولين الى حد اللحظة: ان فرنسا لم تقدم اي شئ من المعلومات القيمة، ذات القيمة والفائدة العملية للكشف عن مواقع التفجيرات وأعداد التجارب ونوعية التفجيرات النووية ووقودها المتفجر،وعدد الحالات الفاشلة منها، ومدى طاقاتها التفجيرية، وحجم ومساحة المناطق المتأثرة والمتضررة في الصحراء وجوارها.


ونظن ان تلك المعطيات لازالت ممنوعة من التداول حتى على الباحثين الفرنسيين ولا تتوفر بشكل واضح الى خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا ندري من هو الطرف الجزائري الذي استلم تلك المعلومات التي ورد الكلام عنها في الندوة الصحفية، وطالما اننا تعودنا ان نسمع من الحكومة الجزائرية تصريحات معلنة، وفي مثل تلك الحالات وحصريا سمعنا قبل ذلك: تداول اخبارعن تسليم جزء من الارشيف الاعلامي لمؤسسة الاذاعة والتلفزيون الفرنسية خلال العهد الاستعماري، والذي قال عنه، من كان مطلعا على تفاصيله: " انه لا يتجاوز مجموعة مقتصرة من الوثائق والمواد الاعلامية المتداولة والعادية، واغلبها كانت تمجد فرنسا الاستعمارية، ولا تدين جرائمها في الجزائر"، اما الملف الأرشيفي الثاني حول خرائط ومواقع الالغام في الجزائر التي كذبتها مصالح جزائرية عديدة وتحدثت عن عدم دقتها وحتى محدودية الفائدة المرجوة منها، فتحملت وحدات الجيش الوطني الشعبي بشجاعة وإقدام وببسالة مسؤولياتها، والشروع بارادة وقيادة وطنية، بنزع ملايين الالغام المطمورة في كثير من مواقع الاراضي الجزائرية شرقا وغربا. ولا زالت التركة ثقيلة لعدم توفر المعطيات والخرائط الاصلية.


هذا وغيره من حقائق حالية وسابقة ما ينفي دقة الكلام الذي اعلن عنه في الندوة الاعلامية المشتركة للوزيرين المحترمين، من ان هناك تعاوناً قد تم حول الكشف عن مواقع التجارب والتفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية، وهو ما ينفيه الكثيرون ممن يعرفون الملف وتفاصيله ، وبحدود ما هو معلن قبل ذلك منه، و باتت الكارثة معروفة للجميع .


اما ان دور فرنسا القادم، إستنادا الى كلام السيد فابيوس وزير خارجيتها، الذي أوردته وكالات الأنباء وأعادت نشره، صحيفة الخبر الجزائرية، الاسبوع الماضي، نقلا عن تصريحات فابيوس في تلك الندوة، فقد ورد هذه المرة مقترنا بتفاؤل كبير والوعود المرتجاة عبر عنها وزير خارجية الجزائر، "حول نية العمل والتعاون مع الجزائر لتطهير المناطق الملوثة".


اننا طرحنا وجهة نظرنا العلمية على صفحتنا " رقان في الذاكرة" وعلى مدونتنا " صرخة الصحراء" وفيها من التساؤلات الجادة عن طبيعة ومستقبل مثل هذا الملف المصيري الهام، الذي أهمل تناوله الفرنسيون لمدى نصف قرن، وطال انتظار تناوله من قبل السلطات الفرنسية مع الجزائريين بطريقة شفافة وواضحة.


لا نحتاج الى الكثير من الادلة لنثبت ان الاشعاع والسرطان قتل ويقتل العشرات والمئات والآلاف من الضحايا الجزائريين على مدى عقود، دون ان يهتز لفرنسا جفن او تمنح فرصة للجزائر فرصة فتح الموضوع والشروع بوضع الحلول المشتركه له مستقبلاً، ولم تستمع فرنسا ومصالحها النووية والصحية والبيئية الى أنين مأساتها النووية الكارثية .


. اما ان هناك فرنسيين قد تضرروا من الاشعاع في جنوب الجزائر وتسرطنوا، فتلك المعطيات متوفرة لدى الاعلام والساسة الفرنسيين، ومع كل هذا لم تعترف السلطات الفرنسية بقبول ملف واحد يقر بحقيقة الموت الاشعاعي، وكذلك هو شأن ملفات آلاف الضحايا الجزائريين والبولونيزيين، وحتى العسكريين الفرنسيين، النوويين منهم، وغير النوويين، وتعويضهم حسب شروط ولائحة الامراض التي ححدها قرار وزير الدفاع الفرنسي السابق موران، في عهدة الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي، وصارت نموذجا للسخرية لدى الاوساط العلمية والطبية، وتلك الشروط منعت الجميع من استحصال الحقوق، وكابرت فرنسا حتى من الاقتراب من الإقرار الجزئي بمسؤولياتها تجاه جرائمها النووية في الصحراء الجزائرية.


اننا نعتقد انه ما لم تبدأ مفاوضات جادة مع السلطات الفرنسية، إنطلاقا من الخروقات الخطيرة التي قامت بها فرنسا، حتى لتعهداتها السياسية والقانونية المثبتة في محاضر اتفاقيات ايفيان، والى اليوم، وبرفضها تناول فتح هذا الملف رسمياً، فان ما يجري تداوله هذه الايام اعلاميا وسياسيا ودبلوماسيا الا حالة ظرفية يحاول فيها الفرنسيون فتح مسارات جديدة مع الطرف الجزائري، من دون الإقرار بالمسؤولية الجنائية والقانونية، وحتى الأخلاقية، لمراجعة الموضوع بشكل صادق يراعي تطلعات الشعبين نحو مستقبل لا تنغص عليه الذكريات المرة للإستعمار الفرنسي وجرائمه وحماقاته النووية والكيمياوية، ولا تنغص عليه اخبار الوفيات وتصاعد ارقام حالات السرطان والتشوهات الخلقية في الجنوب الجزائري.


ومن دون التكفل الحقيقي والجاد بحل تبعات قضايا التلويث الاشعاعي والبيئي والكشف التام عن مواقع النفايات النووية المتروكة على مساحات واسعة في مواقع التجارب والتفجيرات، ولا بد من تقديم الحلول ورصد الميزانيات المالية التي يجب ان ترصد لمجابهة اخطار التركة النووية الفرنسية وتطهيرها نهائيا وتعويض الخسائر البشرية والبيئية الناجمة عنها فان الحديث لا يعدو ان يكون خلوة دبلوماسية، استخدمت فيها القفازات والأقوال الناعمة رغم خشونة الملف وارتفاع صرخات الضحايا.

 

 





الاثنين ٤ رمضــان ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / تمــوز / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة