شبكة ذي قار
عـاجـل










من غباء سلطات الاحتلال التعامل في سجونها مع الأسرى والمعتقلين السياسيين مجرد موقوفين مجهولين أو مصنفين بأنهم مجرد أفراد مشكوك بهم، حسب ظنون المؤسسة الصهيونية. وفترة بقائهم السجنية مجرد احتراز تقرره المؤسسة السياسية والعسكرية ضد مقاومين يُعترف لهم بالشجاعة.


ورغم أن تجارب الأمم الحية ذات التاريخ الحضاري، بما فيها تلك الأمم التي دفعها غرور القوة والغطرسة إلى التورط، في مراحل من تاريخها الاستعماري، بتنفيذ الغزوات وتكريس الإحتلالات ضد الغير، إلا أن الكثير منها بعد صحوتها من تلك الغطرسة لا بد أن تدرك مسبقاً أو لاحقاً، إن لكل احتلال نهاية، وان لكل احتلال مقاومة، ومقابل كل غزوة استعمارية، ستكون هناك انتفاضات وثورات وحتى حرب تحرير. وفي خضم تلك المراحل سيسقط بيد العدو الكثيرين من هؤلاء الرافضين والمنتفضين والمقاومين، أسرى ومعتقلين، إضافة إلى الشهداء.


وان هؤلاء الأسرى المقاومين سيكونون، لا محالة، أيقونات للحرية وأمثلة للرجال التي ستفتخر بهم بلدانهم ، ومنهم أيضا ستختار الشعوب المنتصرة في معارك الحرية سادة لبلدانهم، ومنهم سيكون جزء من قادة البلاد المحررة. ولهذا سجلت العديد من الأمم احترامها لأسراها، مهما كانت التهم التي وجهت ضدهم، خاصة اذا ما خاضوا ببسالة وبإراداتهم المعارك الشرسة ضد الاحتلال في تجارب الكفاح المسلح والنضال السياسي، كثوريين ووطنيين مقاومين.


وفي كل حركات التحرر الوطنية تقدم الوطنيون إلى واجهة المعارك المسلحة والسياسية والكثير منهم يعرف مُسبقاً إن الدروب إلى الحرية ليست مفروشة دائما بالورد والرياحين وضمان الانتصار السهل أو المريح، إن لم تتعمد الثورات والانتفاضات بالدماء وتنشد لها الحناجر بهتافات النصر، وتسمع آذان الجلادين صرخات المعاناة في مجاهل المعتقلات. والمناضلون من أجل الحرية، يدركون إحتمالية الوقوع في الأسر، ومواجهة المحاكم العسكرية والإستثنائية، وحتى انهم مستعدون نفسيا ووجدانيا لسماع أحكام الإعدام بحقهم أو احتمال السجن المؤبد، منتظرين فجر الحرية في اي وقت سيقرره شعبهم وجماهيرهم.
ولأنهم من صنف القادة الوطنيين، فان سلطات الاحتلال والانظمة الدكتاتورية والعميلة، غالبا ما تعزلهم في الزنازين لتقتلهم بالعزلة ومحاولة فصلهم عن قضاياهم العادلة، لذا تتعمد اهانتهم والانتقاص من إنسانيتهم وإضعاف معنوياتهم، بوضعهم في سجون تضم ذوي السوابق العدلية واجبارهم على التعايش مع اللصوص والسرُاق وعتاة المجرمين المحكومين لقضايا جنائية أو فساد، وبذلك تجعل سلطات القمع من هؤلاء الأبطال في موقع الحرج وسط عالم من الإجرام والقتلة والشواذ، وهو أسلوب متعمد يحاول الجلادون من خلاله كسر روح المقاومة لدى هؤلاء الابطال من السجناء والأسرى.


وفي كل الحالات عبرت إرادات السجناء والمعتقلين والأسرى عن روح إنسانية عالية، حتى تجاه سجانيهم وجلاديهم، عندما تكفلوا، بصير يُحسدون عليه، حتى برعاية هؤلاء المجرمين من زملاء السجون، بهدف إصلاحهم، وتفهم دوافع إجرامهم، وتفهم سقوطهم في الرذائل وعالم الاجرام. وتسجل الكثير من الحالات في التجارب الثورية والنضالية كيف صارت للسجين السياسي رسالة إنسانية أخرى، تضاف الى دوره الثوري، كمحرر، عندما عمل الكثير من المناضلين والثوريين على كسر إرادة السجان وإحباط دوافعه ونوازعه الانتقامية ضد الآخرين، وعرفوا كيف التعامل مع السجان، كإنسان تعرض الى الانحراف، بحكم وظيفة ساقطة كلفته بها السلطة. لقد سجلت تجارب السجون والمعتقلات في كثير من البلدان والحالات واجهت إن المناضلين، ضحايا الاضطهاد، عاملوا سجانيهم بتفهم ودراية كبيرة، بسمو إنساني، مهما كانت درجة حقد الآخر ضدهم، و في حالات عديدة أعادوه جلاديهم وسجانيهم إلى محيطهم الإنساني، وفي حالات كثيرة أجبروه، بإنسانيتهم السامية، إلى التراجع أمام تلك الشجاعة اللا متناهية التي يمتلكها الكثير من الأسرى والقادة السياسيين خاصة، من أؤلئك المؤمنين بحتمية انتصار الحرية والإنعتاق، لا لهم وحدهم، ولا لشعوبهم فقط؛ بل حتى لتحرير السجان والجلاد وإنقاذهم من مظالم السقوط الأخلاقي كمجرمين إمتهنوا التعذيب والقسوة والابتذال الانساني.


في حالات عدة، نقرأها من كم من المذكرات لأشخاص أوقعتهم ظروفهم الوظيفية او المهنية أو السياسية المتطرفة للعمل في إدارات السجون ووزارات العدل والمحاكم ولجان التحقيق، فنجد في نصوصهم، بعد صحوتهم، اعترافات ذات قيمة إنسانية هامة، بعضها امتلكت الشجاعة بالاعتراف، وبعضها تمتلئ بالندم، ومنها حاولت التنصل عن المسؤولية ولاذت ببعض الاعذار، بعد غياب الشهود، عن تلك السنوات السوداء التي قضوها في ممارسة التعذيب والقسوة مع ضحايا الاعتقال السياسي وخدمة الاحتلال او النظام السياسي القمعي الذي جندهم. القليل منهم تحلى بالشجاعة لتحمل مسؤوليته الاخلاقية الكاملة عن ممارساته وقبوله الانخراط الطوعي في خدمة أحط الوظائف التي تحتقرها الانسانية جمعاء. وعندما نراجع مذكرات بعض الجلادين النادمين عن أفعالهم المشينة، خاصة ضد الصفوة الثورية من أبناء الامم الأخرى ممن رفضوا الاحتلال والاستكانة لشروط الإلغاء الاستعماري لكرامة شعوبهم التي طالما سعت اليها إدارات الاحتلال ومعاونيهم من الخونة، لفرض الاستسلام على الخصم المقاوم العنيد . لقد بات ذلك الجزء من تلك الافعال في خانة العار الانساني الذي تخجل منه الامم والشعوب التي مارست نخبها وقواتها وجلاديها الفعل المشين بحق الغير. ولا نظن ان احدا من ابناء واحفاد الجستابو الالماني ، ومن أدار سجن غانتانامو او ابي غريب او سجون العدو الصهيوني ، ولجان تحقيق الكثير من الانظمة العربية، والمليشيات السياسية والطائفية سيفتخر يوما بوظيفة ابيه او جدة، كجلاد أو سجان ، أو محقق يحترف انتزاع الاعترافات واملائها وفق هواه . لقد بات العار أبديا بحق كل هؤلاء وأورثوه الى أبنائهم وعوائلهم.


قد تبدو للبعض من هؤلاء الجلادين أن السجين أو الأسير الأعزل سيكون في موقع الضعف والعزلة والنسيان في مجاهل الاعتقال. وقد تبدو لبعض الجلادين انه السلطة المقررة لحياة إنسان، يبدو في نظر الجلاد ضعيفا أو أعزلا، وهو يقف أمام جلاده المدجج بالسلاح، والمتمترس في قلاع السجون والمعتقلات، تحرسه وحدات مدربة خاصة تحترف الإيذاء الجسدي والمعنوي للسجين، ويتعامل مع النصوص القانونية كأدوات للتجريم والاسقاط، لكن مثل تلك الملاحظة والوهم الذي عاشه كل الجلادين كثيراً ما يسقط ويتراجع أمام الحقائق الصادمة التي أفرزتها مواقف وتجارب المناضلين الصلبين.


إذا ما عرفنا الكثير من الأمثلة التي تعيد المواجهة بين المعتقل والسجين وجلاده إلى الاتجاه المعاكس تماما، فهؤلاء الأسرى يتصفون أولا بالشجاعة والايمان بقضاياهم ، وبقدرات لا حدود لها من الصبر والذكاء والفطنة والتسلح بالإرادة والصمود، وحتى بإمكانيات النجاح في إدارة التنظيمات الثورية، والارتباط مع بقية المناضلين الآخرين داخل وخارج السجن.


وعندما تنضج ظروف التنظيم الناجح بين المناضلين في السجن الواحد او عبر مجموعة من السجون والمعتقلات تبدأ معارك الاحتجاجات ضد المظالم والتعذيب والمعاملة اللا انسانية، تبدأ برفع المذكرات والاتصال بالمنظمات الحقوقية والمحامين، وبعدها الشروع بتنظيم الإضرابات، وصولا الى الاضراب عن الطعام، كحالة تحدي قصوى بمقابلة القمع بالجوع والاستعداد الى الموت والشهادة، لفضح سلوكيات السجانين وإدارات المؤسسات العقابية التي تُسير تلك السجون، وبالتالي فضح الانظمة وسلطات الاحتلال.


يكرر وزير العدل الفرنسي الأسبق إدمون ميشليه، الذي استوزره الجنرال ديغول خلال السنوات الاخيرة للاحتلال الفرنسي للجزائر أواخر الخمسينيات من القرن الماضي إعجابه بقدرة جبهة التحرير الوطني الجزائرية على تنظيم مناضليها والاتصال بأسراها في السجون الفرنسية. ويعترف الوزير باعجاب عن تلك القدرة والنجاح للجبهة زمناضليها على تنظيم مواطنيها سواء داخل الجزائر المحتلة او في بلدان المتروبول[فرنسا]، على الجهة الأخرى من المتوسط، ونجاح الثورة الجزائرية وقيادتها لربط المناضلين احرارا كانوا او معتقلين في الانخراط بتنظيمات الثورة ومواجهة كل الظروف والاحتمالات التي يفرضها الالتزام الثوري للوصول بقضية التحرير الى الانتصار النهائي.


وبهذا عبر الوزير الفرنسي عن تجربته وإستخلاصاته من وظيفته ومهامه كمشرف عام على السجون الفرنسية فيتوصل إلى الحقيقة الثابتة التالية : إن تلك القدرة التنظيمية العالية هي سر الانتصار التالي الذي حققه المناضلون الجزائريون بتحرير بلدهم.


ورغم أن الرجل، سبق له ن عاش سجينا في ظروف الاحتلال النازي لفرنسا، لكنه تناسى كل دروس الحرية حين ظن أن التجارب الثورية للشعوب قد تختلف من حالة إلى أخرى، وعندما قبل مهمة الاشراف على وزارة العدل، فتقلد وظيفة تسيير المظالم في وزارة لا يمكن ان يكون للعدل فيها طالما ان دولته تمارس الاحتلال والقمع والاستباحة لبلد وشعب يطالب بالحرية والاستقلال طوال 130 سنة. ربما يكون إدمون ميشليه، من القلائل الذين أدركوا استحالة تحقيق عدل في ظل سلطات الاحتلال، لكنه رغم ذلك قبل المهمة التي كلفه بها الجنرال ديغول بمهمة تسيير وزارة العدل وسجونها ولجان تحقيقها فوجد نفسه أمام السؤال المحير الذي عاشه وهو سجين مقاوم يطالب بتحرير فرنسا من الاحتلال النازي. اعاد السؤال على نفسه وزيرا : من هم هؤلاء السجناء من الجزائريين الذين يقفون أمامه؟، وتصل الى مكتبه تقارير السجون والمعتقلات التي تزدحم بعشرات الالوف منهم، وخاصة ملفات القادة والاسرى؟؟ . وفي لحظة شجاعة ومراجعة مع الذات فجاب في قرارة نفسه : هؤلاء هم قادة دولة الغد للجزائر المحررة، ولا يمكن لاي سبب من الاسباب قبول إهانتهم بالتعذيب وانتزاع الإعترافات منهم بطريقة مخجلة، لان الغد يبشر بالانتصار لهم، مهما طالت ليالي الاحتلال، وتراكمت عذابات الأسر، وطال البعد لهم عن الأهل والأوطان.
أمام ذلك الوزير الفرنسي مرت ملفات العديد من قادة الدولة الجزائرية، ممن كانوا في الأسر، اليوم منهم الكثيرون يتذكرون تلك العذابات والمعاناة القاسية لهم عندما كانوا في الأسر الفرنسي، ومنهم الكثير من قادة جبهة التحرير والثورة الجزائرية، كام منهم الرئيس الراحل احمد بن بله والمناضلين محمد بو ضياف وحسين آيت احمد، ورابح بيطاط ومحمد خيضر، ومصطفى الأشرف التي خطفتهم القوات الفرنسية في أول قرصنة جوية يسجلها التاريخ المعاصر عندما تم اجبار انزال طائرتهم المدنية على النزول بالقوة وتم اعتقالهم. غيرهم الالوف من الشهداء والمجاهدين، كثيرون منهم لم يكتبوا بعد وصفا لمعاناتهم وحالات تعذيبهم، ولا يمكن أبدا أن تحصى حالاتهم وتعداد سني اعتقالهم وحجم معاناتهم وما تعرضوا له من طرائق التعذيب التي باتت تخجل مجد فرنسا الاستعمارية عندما لجأت لجان التحقيق انتزاع اعترافاتهم أو إسقاطهم سياسيا ونضاليا في دولة صدعت أسماع العالم بشعارات الثورة الفرنسية . [المساواة والاخوة والديمقراطية].


في داخل السجون الفرنسية عرف القادة الجزائريون كيف يتواصلوا مع قواعدهم الثورية وشعبهم من داخل وخارج السجون، وكانوا مؤمنين بثقة، رغم ثقل الاحكام الاستثنائية ضدهم، بأنهم منتصرون لا محالة،، ومهما كانت ظروف اعتقالهم فهم سيبقون مناضلين سياسيين وثوريين ثابتين على مبادئهم، ولهم قضية وطنية واحدة، يجب ان يعرفها العالم هي التحرير وانتزاع النصر من المحتل، وبكل الوسائل الممكنة، بما فيها النضال الصلب من داخل السجون والمحتشدات والمعتقلات والنفي البعيد.


إن الأحداث السجنية، ومنها إضرابات الجوع، كانت وستبقى من وسائل الكفاح الثوري، في ظروف لاتكافؤ فيها، بين الضحية وجلاده، لكنها إحدى الوسائل التي تقود الى الانتصار وفضح التعذيب، وتعرية سلطاته اخلاقيا، وهي وسيلة نضالية تنشر أخبار معاناتهم إلى العالم القريب والبعيد، ومن اهدافها تحريك الوعي لدى أسرهم وشعوبهم وشعوب الآخر، وإضرابات الجوع تصل في تأثيراتها حتى إلى جبهة سكان النظام الاستعماري ومجتمعاته ونخبه الفكرية والسياسية وتحدث صدمة والشعور بالعار، حتى باتت تقليدا ثوريا لكل أحرار العالم عندما يلحقهم الأذى في ظروف الاعتقال القسري.


من هنا صارت أخبار صمود المعتقلين والاسرى وتدهور صحتهم والتزامهم القرار والتضامن مع بقية زملائهم تحتل موقع الصدارة في التضامن الانساني لكسب التعاطف معهم وضمان ديمومة التضامن الوطني والعالمي لهم ، ليس معهم كسجناء فقط ؛ بل كمناضلين يسهمون، وهم في الزنازين في كفاح شعبهم الجاثم تحت الاحتلال ببطون خاوية.


ان جبهة العدو العسكرية والسياسية تخشى أن تفضحها إرادة السجناء والأسرى والمعتقلين، فتحاول التكتم على ممارساتها القمعية، لذا تسعى بكل الوسائل على تكميم الأفواه ومحاولات تشتيت تنظيمات المناضلين والثوريين والاسرى وعزل قياداتهم وطلائعهم الواعية ، لكن مثل هذه القضايا ستواجه جدارا صلبا من الإرادات المؤمنة بالانتصار، التي لم يحسب لها السجانون حسابا عند بداية أي إضراب معلن من قبل السجناء، وسرعان ما تكون تلك الاحداث مصدر احراج وحساسية حساسية شديدة للسلطات القمعية ونخبها السياسية، تبدأ ردود الافعال القمعية بالتصاعد مع ظهور ابسط المطالب الانسانية للسجناء، لكنها في النهاية ستتراجع صاغرة أمام إستمرار اراداتهم وصمودهم، وهم يقدمون حياتهم مقابل الخلاص من عذابات العدو ومحاولته قهرهم في السجون.


إن صدى صمود السجناء في العراق وفلسطين وغوانتانامو وسجون الانظمة القمعية في كل انحاء العالم يظل مدرسة للحرية لكل شعب يحترم تاريخ كفاحه من اجل الخلاص من الذل والقهر والاستبداد. وان صرخة الحرية في أي سجن تخاطب العالم الحر كله، وغالبا ما تكسر قانون الصمت وحديد الزنازين ووحشتها وصلافة جلاديها.


من السجناء القليل ممن أُتيحت لهم الفرصة فكتب ونشر تجربته النضالية ، ومنهم من تمكن أن يعبر عن إرادته في المقاومة على جبهة فضح الجلادين اينما كانوا، لإلحاق الهزيمة في صفوف أعداء الحرية وفضح السلطات الغاشمة في كل مكان. لدينا تجربة هامة للمناضل الجزائري الراحل بشير بو معزة حين كتب عن تجربته في كسر قانون الصمت الاستعماري، وهو من قاد يوماً عددا من الإضرابات البطولية للقادة الجزائريين المحتجزين داخل السجون الفرنسية، وعلى ارض فرنسا الاستعمارية عبر البحر، وقف معه ولبى نداءه كل مناضلي الثورة الجزائرية، قيادة وقواعد.


المجاهد الثائر الراحل بشير بومعزة، المسؤول السابق في فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا كان المسؤول، في ذلك الوقت، عن إضراب معتقلي جبهة التحرير الوطني المسجونين في معتقل قرين، اهتدى إلى أن الإضراب عن الطعام داخل سجن قرين سيهزم جبروت فرنسا الاستعمارية في عقر دارها. وفرنسا الاستعمارية ظنت ، بعد عجزها بوسائل التعذيب وتنفيذ حكم الإعدام، أن تهزم إرادة المعتقلين الجزائريين بالترهيب داخل السجون مهددة إياهم بالموت البطئ، واظهرت اللامبالاة تجاه وضعهم الإنساني والصحي وهم يقتربون من لحظة الموت جوعا ببطون خاوية. دولة الديمقراطية والحرية والمساواة وسلطاتها الاستعمارية والاحتلالية كانت تشاهد أحرار الجزائر يتساقطون الواحد تلو الآخر في زنازينهم، بتأثير الجوع والعطش والآلام والأمراض الأخرى.


لكن الدرس الذي تعلمته فرنسا، وإدارات سجونها، أنها كلما حاولت كسر الإضراب عن الطعام وتفتيت تنظيمات المضربين وعزلهم عن بعضهم البعض، زادتهم ممارساتها قوة وصلابة وإرادة اكبر. في احد المرات، وفي عهد الوزير إدمون ميشليه، وكما يسجل مستشاره آنذاك، إرفيه بورج، في كتابه " ذاكرة عصر" : سارع السجانون إلى قطع المياه عن المعتقلين الممتنعين عن تناول الطعام، فيما وزعت ادارات السجون الحليب عليهم، كانت الفكرة لدى السجانين: أن المعتقلين، عندما يشربون الحليب بدل الماء، فإنهم سيتغذون، وسيفشل إضرابهم عن الطعام، لكن المعتقلين والاسرى الجزائريين لم ينخدعوا بتلك المحاولة، فواصلوا الاضراب، ورفضوا إطفاء عطشهم بالحليب المتوفر في الزنازين، استمروا على اضراب الجوع وهم يدركون إن فقدان السوائل تدريجيا من أجساد المضربين سيقود إلى هلاكهم وبسرعة.


وعندما أدركت السلطات الاستعمارية الفشل بكل تلك المحاولات، سارعت بإطلاق الماء إلى الحنفيات. وتلك معركة سجلها بشير بومعزة، ووردت في كتابات العديد من المنصفين الفرنسيين، ومنهم بيار هنري سيمون في صرخته في كتابه " ضد التعذيب"، الصادر من دار نشر لوسوي بباريس 1957، وكتاب الصحافي المعتقل والمُعذب هنري أليغ، المعنون "الاستجواب" الصادر باريس في عام 1957. بعدها قام بشير بومعزة بفضح التعذيب في الجزائر في كتابه الصادر بالفرنسية الذي عنونه " الغرغرينة"، مستندا إلى التحقيقات التي جرت معه شخصيا فاضحا جرائم الاستعمار ضد الاحرار الجزائريين وكتابه يظل وثيقة هامة ودامغة تكشف العار الاستعماري وهمجيته في تصفية المناضلين وتعذيبهم. حينها فقد بشير بو معزة كل أسنانه على اثر الحرمان الطويل من الطعام الذي فرضه على نفسه في إطار مشاركته في تلك الإضرابات الباسلة عن الطعام التي أطلقها في سجون الجزائر لوقف صلافة ادارات السجون ولجان تحقيقها وممارسات التعذيب.


ورغم معاناته الصحية، وانهيار صحته، وهزاله الجسدي الذي لازمه لعقود طويلة حتى وفاته قبل سنوات، تمكن بشير بومعزة، وبإرادة حديدية من الهرب من سجن قرين الرهيب. يروي عنه "ارفيه بورج" في مذكراته بكتاب " ذاكرة عصر" : ، وكان في حينها مستشارا في ادارة السجون، وكلفه وزير العدل الفرنسي بمتابعة اوضاع السجناء الجزائريين لدى مكتب وزارة العدل ، فيعترف إرفيه أيضا: انه تعلم كثيراً من تجاربهم، وتوصل منذ نهاية الخمسينيات إن هؤلاء السجناء والأسرى سيكونون هم قادة المستقبل في الجزائر المستقلة، وعلى ضوء تلك العلاقة المحترمة التي مارسها داخل السجن معهم، كان إرفيه يرسم مستقبل العلاقات الفرنسية الجزائرية مستقبلاً.


وبعد نيل الجزائر استقلالها في الخامس من تموز/ جويليه 1962 حظي إرفيه بورج باحترام قادة جبهة التحرير والجمهورية الجزائرية المستقلة ، وتم استدعائه حالا للعمل في إدارات الدولة الجزائرية الفتية في اول حكومة لها وفاء للموقف الذي وقفه مع احرار الجزائر خلال فترة سجنهم بفرنسا . بعد إعلان الاستقلال مباشرة صار إرفيه بورج من أقرب الشخصيات العاملة في مكتب أول رئيس للجمهورية الجزائرية صيف 1962، أين عمل في مكتب الرئاسة بجانب الرئيس الراحل احمد بن بله، وعمل مستشارا له، وتم تكليفه بعديد المهام الوطنية والدولية، وانتقل بعدها ليكون اقرب مساعدي أول وزير للشباب والرياضة في اول حكومة بعد الاستقلال، كان يقودها الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، ومن ثم التحق إلى وزارة الاقتصاد، ليعمل جنبا إلى جنب مع بشير بومعزة، حتى لحظة مغادرته الجزائر حينها. وظل إرفيه وعديد من كتاب وممثلي اليسار الفرنسي ممن رفضوا التعذيب والاساءة لاحرار الجزائر اصدقاء تكن لهم الجزائر وشعبها كل الاحترام والتقدير.


ومن شهادة إرفيه بورج في كتابه " ذاكرة عصر" يشير بورج إلى ذكريات القادة الجزائريين عن سجانيهم وعن أماكن اعتقالهم، وما عاناه البعض من صنوف التعذيب، ومنهم بشير بو معزة، الذي عاد من منفاه، وأسس جمعية 8 ماي 1945، ونشط في الدفاع عن القضية الفلسطينية واستنكر الحرب على العراق وحصار الشعب العراقي في كل كتاباته وندواته ومحاضراته داخل الجزائر وخارجها. ظل بومعزة وفيا للحرية وللاحرار في كل مكان حتى رحيله عن هذه الدنيا. وفي عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أصبح بشير بومعزة رئيسا لمجلس الأمة، ثاني موقع في ادارة الدولة الجزائرية، وخلال تلك الفترة زار بشير بومعزة باريس في ماي من عام 2000 ، قبل شهر من زيارة الرئيس بوتفليقة الى باريس. وهناك قال بومعزة وعلى رؤوس الأشهاد، في حفل أقامه على شرفه " جان بيير شفينمان" بالقرب من ساحة بوفو بباريس. خلال حفل العشاء كان ارفيه بورج مشاركا فيه والى جانبه : قال بو معزة مؤشرا للمكان القريب من ذلك الحفل : قبل أكثر من أربعين عاما، جرى تعذيبي في هذا المكان من قبل مديرية الأمن الوطني الفرنسي [DST]. قالها وهو حر ومسؤول كبير في قيادة الدولة الجزائرية، ذلك هو حكم العدالة الذي ينتظر كل مناضل، الذي صير اؤلئك الاسرى الى رجال دولة، كانوا بالامس يواجهون جلاد الاستعمار، وهو اليوم يذكرهم بمعانات شعبه، وهاهم الاحرار يقودون، دولة مستقلة، سيدة وحرة.


كم هي الحالات التي يعيشها اليوم سجناء العراق وأسرى فلسطين، وهم يعتصرون الإرادة من الام معدهم الخاوية، الاخبار وصلت عن انتصار جزئي للأسرى الفلسطينيين عندما حولت جماهير شعبهم قضيتهم واحدة في داخل السجون وخارجها. السجناء الفلسطينيون يسطرون ملحمة من ملاحم الحرية، ويشدون بآلامهم تلاحم أبناء شعبهم، وهم يفضحون ديمقراطية الصهاينة المغطاة بقانون الصمت الذي يفرضه الرعب اليومي للجلادين في السجون والزنازين الإسرائيلية. هؤلاء الإسرائيليون الصهاينة الذين تاجروا بمظلوميات اليهود وقصص معاناتهم في السجون النازية والادعاء بمحارق " الهولوكوست" يكشفون عن جهلهم لحقائق التاريخ المخلد لأبطال المقاومات الوطنية وحتمية انتصارهم ، طال الزمن أم قصر، ظلت رغبة الانتقام لدى الصهاينة حمقاء وعمياء من رؤية دروس التاريخ، وهم في سجون الاحتلال الصهيوني حيث تحل محل ممارسة الحق والتعامل مع الخصم برجولة، دوافع الإنقام والإبادة.


وفي الوقت التي تتناقل وكالات الانباء وتقارير لجان حقوق الانسان فداحة وجرم الممارسات التي تقوم بها ادارات السجون في الحكومة العراقية منذ الاحتلال الامريكي للعراق، هناك كثير من التقصير والتهاون في تجنيد كل الامكانيات لفضح جرائم التعذيب والمحاكمات والاحكام المستندة الى محاضر الاعترافات المنتزعة بوسائل التعذيب والاهانة لكرامة السجناء والاسرى والمقاومين وابتزازهم في شرف عوائلهم ونسائهم يجري التكتم من كل الاطراف المشاركة في العملية السياسية عن اخطر الممارسات الاجرامية لحكومة المالكي وقضائه المسيس ولجانه التحقيقية المسيرة من قبل المليشيات الاجرامية التي اخترقت وزارات العدل والقضاء والاعلام والداخلية لتشكل وحدة من وحدات الجريمة المنظمة المكلفة بتصفية احرار العراق وقادة مقاومته الوطنية الرافضة للاحتلال ولحكم العملاء.


لجان التحقيق في العراق والعصابات المنظمة التي اخترقت جسد السلطة بات ديدنها الحصول على الاعترافات والإفشاءات وتقديم شهود الزور ، وتنظيم مسرحيات المحاكمات الشكلية، حتى وان كانت ملفاتها مفبركة ومنتزعة اعترافاتها تحت التعذيب. مهمة حكومة المالكي باتت أكثر وضوحا بعد خدمة الاحتلال وتنفيذ بنود الاتفاقيات الامنية صارت تسعى وفي سباق مع الزمن لإسقاط الأبرياء وارتهان القادة المقاومين كأسرى. ووصل الامر الى تنظيم الاعتقالات بحق حلفاء الامس من شركاء العملية السياسية. وهكذا ينمو الغول الذي تباكى يوما على المظلوميات الطائفية ليصير كابوسا جاثما على صدر شعب العراق.


هذا الكابوس اللا إنساني وممارسات التعذيب وتنظيم المحاكمات القمعية من قبل حكومة تدعي انها تمثل " دولة القانون" في العراق تفضحها تقارير الامم المتحدة والمنظمات الانسانية ومنظمة العفو الدولية، وتقابلها الإضرابات البطولية والمطالبات الحقوقية والإرادة الوطنية العراقية لانتزاع الحقوق ووقف المظالم وتصليب الارادات التي لا تلين أمام قانون الصمت الاستعماري والإحتلالي والطائفي والإثني المتطرف في العراق.


وكما سقط دعاة الجزائر فرنسية بالأمس، وسودوا صفحات مذكراتهم بالخزي؛ فان دعاة إسرائيل دولة يهودية على تراب فلسطين، هم على طريق تدوين فضائح السقوط الصهيوني والى الأبد. كما سيسقط معهم العملاء وقادة المليشيات والحكومات التي تتغنى بالمظلوميات التاريخية والطائفية وباسم الممارسة الديمقراطية التي باتت جرائمها تزكم الانوف.

 

 





الاحد٠٦ رجــب ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٧ / أيــار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة