شبكة ذي قار
عـاجـل










مقدمة :
 تحدثنا سابقاً عن التوازن الإقليمي وأهميته وضرورته، في أكثر من مقال، وأشرنا إلى أن العراق كان يشكل حجر الزاوية في هذا التوازن، الذي أفرز استقراراً نسبياً في المنطقة، ثم شخصنا الخطأ الإستراتيجي الجسيم الذي ارتكبه الأشقاء في الخليج حين سهلوا ومهدوا للأجنبي احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني وتدمير عناصر قوته ونهب ثرواته وتمزيق نسيجه الاجتماعي بأخطر أداة أيديولوجية- سياسية إيرانية على الإطلاق، وهي الأداة الطائفية .


الخطأ الإستراتيجي القاتل الذي ارتكبه الخليجيون وغيرهم من العرب، كانت نتيجته الإخلال في معادلة التوازن الإقليمي، الذي هدم ركائز الأمن القومي العربي، وأمن الخليج العربي جزء من هذا الأمن .


ومنذ عام 2003 وهذه الكارثة أراها تتوزع في ثلاثة مقتربات، الأول :  ويمثل الخطر الإسرائيلي الذي استشرى وامتد إلى العراق وخاصة شماله، والثاني : الخطر الإيراني الذي استشرى هو الآخر وتوغل طائفياً في مفاصل العراق والمنطقة العربية، أما الثالث : فهو الخطر العثماني الذي يتربص سوءً  ويتطلع إلى عمق تاريخه الإمبراطوري . هذه الأخطار التاريخية لم تكن بعيدة في مشروعاتها عن المشروع الأمريكي الإمبريالي، حيث سهل الخليجيون له الشروع في تنفيذ ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد .


الاعتراف بالخطأ الكارثي .. خطوة على طريق تصحيح الموقف، ولا حاجة لجلد الذات الذي ظهر في الخليج العربي حين باتت نيران الطائفية المقيتة على الأبواب الخليجية بدون استثناء .. فقد اعترف الأمير (تركي الفيصل) رئيس جهاز المخابرات السعودي والسفير المعتمد في واشنطن سابقاً في مؤتمر للأمن الخليجي يقول ( إن العراق كان يشكل ركناً أساسياً في معادلة التوازن الإقليمي، وإن إخراجه من هذه المعادلة عن طريق الغزو الأمريكي الخاطئ له قد أخل بهذه المعادلة الضرورية لاستقرار الوضع الإقليمي، الأمر الذي دفع بإيران تحت شعور بالتفوق الإستراتيجي إلى استخدام الطائفية لبسط نفوذها على العراق وتهميش دوره وجعل العراق من أدوات سياسة إيران الخارجية) .


ما قاله المسئول السعودي صحيح تماماً . فالغزو الأمريكي قد أخل بالتوازن الإقليمي للأهداف الآتية :
أولاً- الغزو الأمريكي للعراق جاء لمصلحة الكيان الصهيوني بتدمير عناصر قوة الدولة العراقية جيو- سياسياً .
ثانياً- الغزو الأمريكي للعراق جاء لمصلحة إيران وعلى أساس (التوافق الإستراتيجي) في العمل المشترك قبل الغزو وبعده .
ثالثاً- الغزو الأمريكي للعراق جاء لمصلحة الإدارة الأمريكية وشركات نفطها للسيطرة على منابع النفط في المنطقة ومخزونها الإستراتيجي لعقود قادمة، تنفيذاً لمقررات مؤتمر الطاقة الدولية الذي عقد عام 1973 وترأس اجتماعاته " هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، والذي أسس ما يسمى بقوات التدخل السريع ( R.D.F) لهذا الغرض .. وإن اختيار العراق يتوافق مع نظرية الدومينو، التي أتبعها الأمريكيون في جنوب شرق آسيا .


إزاء هذه الحقائق، التي اعترف بها الأمريكيون والخليجيون، وبنتائجها الكارثية، هنالك صورة رسمها الكاتب الكبير "عبد الباري عطوان " في مقال له بتاريخ 20/1/2012 تشير إلى أن العالم تتركز أنظاره صوب الخليج العربي بسبب النفط، وإن إيران تسارع في وتيرة تصنيع رؤوس نووية، وإن انعكاسات ذلك تنصب على اقتصاديات الغرب المأزومة، فيما تزدحم مياه الخليج العربي بحاملات الطائرات والأساطيل الأمريكية والسفن الحربية الغربية، ومناورات إيران الحربية وتهديداتها بغلق مضيق هرمز.. ينشأ عن كل هذه التحركات والاحتقانات لدى دول الخليج والمنطقة العربية قلقاً متعاظماً من اندلاع حرب بين أمريكا وإيران، ومسرح عملياتها الخليج العربي !!


ولكن أود أن أشير إلى (أن إيران لم تتح لها فرصة الشعور بتفوق إستراتيجي دفعت بها إلى استغلاله) بصورة مجردة بعد غزو أمريكا للعراق، إنما الصحيح الموثق إن القيادة الإيرانية، ومن خلال محمد باقر الحكيم وعناصر إيرانية مخولة فتحت الحوار مع الإدارة الأمريكية بتاريخ 24أيار/ مايو1999بشأن خطة ضرب العراق على غرار صيغة تحالف الشمال في أفغانستان، التي أيدتها إيران ونالت تأييد " المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" ، وقد ورد هذا التأييد على لسان ممثل المجلس في جنيف " علي العضاض " ، فضلاً عن مؤتمر لندن وما يسمى بـ(السبعة المبشرون بالجنة الأمريكية) :


1-   المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وهو مجلس إيراني بامتياز.
2-   الحركة الإسلامية في " كردستان " العراق، وارتباطاتها موزعة بين السعودية وإيران والولايات المتحدة الأمريكية .


3-   المؤتمر الوطني العراقي، وهو تشكيل أمريكي خالص ليس له أي طموحات عربية أو ليبرالية أو إسلامية، ويعتمد على الولايات المتحدة وتأييد جماعة الضغط في الكونغرس وعددهم  يربو على (36) عضواً صهيونياً .


4-   الحركة الملكية الدستورية، وهي حركة أمريكية صرفة ليست لها قيمة .
5-   حركة الوفاق الوطني، وهي حركة ترتبط بالمخابرات المركزية الأمريكية .
6-   الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو حزب عشائري عنصري يرتبط بالمخابرات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية والألمانية والفرنسية والبريطانية .
7-   الإتحاد الوطني الكردستاني، وهو حزب عشائري عنصري يرتبط بالمخابرات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية والألمانية والفرنسية والبريطانية .


هذه المكونات، يطلق عليها المبشرون بجنة الاحتلال والتدمير والفوضى الأمريكية، التي حظرت اجتماع لندن قد اجتمعت مع أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية، واجتمعت مع أعضاء الكونغرس الأمريكي، ومع الأمن القومي الأمريكي ووزارة الدفاع والخزانة الأمريكية فضلاً عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي .


إيران، الذي حمل رسالتها محمد باقر الحكيم إلى الإدارة الأمريكية بتاريخ 24أيار/مايو   1999 قد كرست (شراكة إستراتيجية) مع أمريكا لإسقاط النظام الوطني في العراق وتهديم السد الذي يحمي المنطقة من التوسع الإيراني، ويخل بالتوازن الإستراتيجي للمنطقة برمتها .. هذه الشراكة صيغت لمرحلة الغزو وما بعد الانسحاب المزعوم من العراق .. وتلك مسألة ينبغي أن يقف عندها الكاتب العربي الكبير عبد الباري عطوان إنصافاً لحقائق التاريخ .


الأمريكيون يعلمون بأنهم لا يستطيعون احتلال العراق بدون التسهيلات والتوافق الإستراتيجي الإيراني، وهو الأمر الذي أعلنه (أبطحي) .. والتوافق ما يزال قائماً في شكل ركائز أحزاب إيرانية نشأت وترعرعت ونمت في إيران وتبنت المشروع الأمريكي وأدارت العملية السياسية بوجه مزدوج، أحدهما يخدم أمريكا والآخر يخدم إيران .. وهذا متفق عليه بين العاصمتين واشنطن وطهران قبل الغزو وبعده.. ولم يكن دقيقاً تصوير أن الأمريكيين أتاحوا الفرصة للإيرانيين بشعور التفوق الإستراتيجي، لأن هذه الصورة تسقط التوافق الإستراتيجي الأمريكي- الإيراني المسبق .


تكرار الخطأ (الكارثة) أو السكوت عليه .. ما ذا يعني وما هو نتائجه ؟
-  إن الاعتراف بالخطأ فضيلة، وخير الخطائين التوابون .. وإن محاولة تكرار الخطأ بحرب طاحنة يكون مسرحها الخليج والمشرق العربي، أمر يعد من باب السيناريوهات التي تحمل من التكتيك ما يجعل الأمر قاب قوسين من احتمال التكرار، وهي سياسة إعلامية بارعة .. ولكن ألم يحن الوقت لمعالجة الخطأ الأول (الكارثة) وترميم التصدعات التي أولدتها كارثة الإخلال بالتوازن الإقليمي، ليس في صيغة الذهاب إلى بغداد لعقد مؤتمر قمة لتعزيز النفوذ الإيراني والأمريكي معاً، لكون حكومة الاحتلال تفتقر إلى الشرعية، إنما بدعم القوى الوطنية المناهضة للنفوذين الأمريكي والإيراني في آن واحد وتصليب عودها كي تلعب دورها الكفيل بإنهاء هذين النفوذين وتأثيرهما المؤذي على المنطقة ؟!


- إن إغفال ضرورة أن يكون العراق عربياً قومياً وطنياً قوياً في معادلة التوازن، لا يعالج الوضع إنما يسهل للنفوذ الإيراني في أن يستشري أكثر .. وإن خيار تصحيح الخطأ (الكارثة) لا يتم إلا بدعم قوى الشعب العراقية الوطنية المقاومة وبدون تحديد ، وعدا ذلك فأن الحديث عن الخطأ (الكارثة) يبقى كمن يبكي على الأطلال حتى يرى مركب الخليج يغرق بما فيه .. وتلك حالة سقطت عن قلم الكاتب العربي الكبير الذي يقود (القدس العربي) .


-  إن التذكير بتحمل دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية مسئولية ما حدث مسألة مهمة، ولكن الأكثر أهمية على المملكة العربية السعودية (باعتبارها الشريك الأكبر في دعم الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة حتى هذه اللحظة)، أن تبادر بدعم القوى المناهضة للنفوذ الإيراني والأمريكي في العراق بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة .. وخلاف ذلك فأن المأزق يظل قائماً أمام المملكة وأخواتها اللاتي يشعرن بالخطأ (الكارثة) بصورة متأخرة .. هذا المأزق سيستمر :


 كلما استمرت دول الخليج العربي وأخواتها بتبني السياسات الأمريكية الخاطئة التي تقود إلى الحرب والدمار وتفكيك الدول جيو- سياسياً .


  كلما استمرت دول الخليج العربي وأخواتها بتجاهل الخطأ (الكارثة) وعدم تصحيحه بما يتماشى مع متطلبات الأمن القومي العربي عامة ومتطلبات الأمن الخليجي على وجه الخصوص، طالما أن الأمن الأخير هو جزء من الأمن العربي، لآن مقولة الأمن لا تتجزأ ، وذلك من أجل إعادة التوازن الإقليمي إلى ما كان عليه ، حيث يعود العراق إلى أحضان أمته العربية سداً منيعاً يحمي الخليج والمشرق العربي ومغربه كله من مخاطر التهديد الفارسي والإسرائيلي والتركي ومن خلفهم قوى الاستعمار الأجنبي .


-  السلاح النووي الذي تسعى له إيران يهدد العرب ولا يهدد الكيان الصهيوني خلافاً لما خلص إليه الأستاذ "عبد الباري عطوان" في مقاله حول الندم السعودي .. لماذا ؟ لأن لا مصلحة إيرانية في تهديد (إسرائيل) أبداً ، إنما لإيران مصلحة في تهديد الوطن العربي بكل أقطاره وخاصة الخليج والمشرق العربيين . والسبب ، هو حقد التاريخ الذي يمتد إلى القادسية الأولى ولا ينتهي بالقادسية الثانية . هذا من جهة، والرغبة الفارسية التي تتطلع بشغف بالغ نحو الغرب الإيراني من أجل الهيمنة بدواعي التاريخ أيضا .. وخطورة السلاح النووي، هي خطورة واحدة لا تتجزأ، ومن أي مصدر كانت، سواء كان السلاح النووي (إسرائيلياً أم إيرانياً أم أمريكياً أم غيره ) فهو وكما يقول العلم الحديث أنه سلاح رادع وإذا استخدم سيترك آثاره الكارثية لمئات من السنين !!


- إزاء هذه الحالة التي يسمونها أحياناً بسباق التسلح غير التقليدي ، لماذا لا يدعوا الكاتب العربي الكبير " عبد الباري عطوان " وغيره من المثقفين والمفكرين العرب إلى إخلاء منطقة (الشرق الأوسط) من جميع أسلحة الدمار الشامل المخزونة وتحريم صنعها وترويجها وتجفيف مواردها وتفكيك منشأتها توخياً لكوارث تصدعها وتجاوز عمرها الافتراضي . ولكن وكما نرى لا أحد يدعو إلى إحياء التذكير بأهمية تطبيق الفقرة (14) من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 698/1991 .


- وإذا ما تحقق افتراضاً التوازن الإستراتيجي في الردع المتبادل المؤكد بين كل من العرب وإيران ، والعرب و (إسرائيل) .. فماذا سيكون عليه الحال ؟ هل ينتهي الصراع  ((بين العرب وإيران ، وبين العرب وإسرائيل )) ؟ وهل هناك صراع بين (إيران وإسرائيل) حسب حقائق التاريخ والجغرافيا ؟!


- إخلاء منطقة (الشرق الأوسط) من أسلحة الدمار الشامل، هل ينهي الصراع القائم بين إيران والعرب ؟ وهل ينهي الصراع بين العرب والكيان الصهيوني ؟! ، وهل هناك صراع بين (إيران وإسرائيل) حسب حقائق التاريخ والجغرافيا ؟!


-  والتساؤل الحيوي لأمة العرب - والذي سنفرد له مدخلاً مستقلاً ومتخصصاً في مقال لاحق - هل أن نهضتها ومصلحتها تكمن في إقامة التوازن الإستراتيجي الرادع ، أم في إخلاء منطقة (الشرق الأوسط) من أسلحة الدمار الشامل ؟!


 العراق في ظل الحكم الوطني كان يحمي دول الخليج العربي استناداً إلى ما كان يستلهمه من عمق التاريخ ولم (يجنده ) أحد من دول الخليج لحماية سواحلهم من الاجتياح الإيراني .. ولكن هناك من يدرك ويفعل ، وهنالك من يدرك ولا يفعل ، وهنالك من لا يدرك ويفعل ، وهنالك من لا يدرك ولا يفعل شيئاً .. وحين يكون الحقد سيد الموقف ، وحين يكون الخوف هو سيد الموقف يبدأ الطوفان وتحل الكارثة !!

 

 





الاربعاء١٥ ربيع الاول ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٨ / شبــاط / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة