شبكة ذي قار
عـاجـل










بسبب ثورة الاتصالات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، والتي قلصت إلى حدود ليست يسيرة، من صلاحيات وزارات الخارجية في بلدان العالم، وتمددت مهمات الملوك والرؤساء التي منحوها لأنفسهم في التعامل مع ملف العلاقات الخارجية، حتى بات تعيين السفراء من خارج السلك السياسي في وزارات الخارجية، جزء من الهبات التي يمنحها الزعماء للمحاسيب والمقربين قبل وصول الحكام إلى مواقعهم.
ولذلك فقد تسلل إلى هذا السلك عدد لا يحصى من غير المؤهلين لإشغال هذا المنصب، الذي يجب أن تتراكم الخبرة فيه وتنمو نموا طبيعيا من خلال إشغال وظائف دبلوماسية من أدنى درجاتها وحتى الوصول إلى درجة سفير.


شهدت العاصمة البحرينية المنامة في الشهر الماضي مؤتمرا للأمن في منطقة الخليج العربي، ومن حيث الإطار العام يمكن النظر إلى مثل هذه المؤتمرات على أنها الوعاء السليم الذي تلتقي عنده كل الأفكار القادرة على تأكيد صلاحيتها ووجاهتها، فيما لو تلاقحت وأنتجت حلولا واقعية للملفات المطروحة في جدول أعمالها، وقطعا فإن مؤتمرا بهذا التوصيف أي أنه يبحث موضوع الأمن القومي في منطقة الخليج العربي، في هذا الظرف بالذات حيث يتعالى قرع طبول الحرب في المنطقة، نتيجة التهديدات الإيرانية الموجهة ضد دول مجلس التعاون الخليجي، كرد على قرار اتخذه الاتحاد الأوربي بوقف استيرادات النفط الإيراني بدءا من أول تموز المقبل، ولأن إيران غير قادرة على مواجهة التحالف الغربي، فقد حولت تهديداتها إلى دول الخليج العربي، التي لم تكن في حال حالة حرب مع إيران أو أنها لا تريد الدخول في مواجهة معها.


لكن إيران تلقت الرسالة على نحو خاطئ تماما، وظنت أن الميل العربي لمنطق الحوار وحل المشكلات بالتفاهم يعبر عن منطق ضعف وخنوع أمام منطق الابتزاز الإيراني، ولذلك ذهبت بعيدا في منطق التصعيد مع طرف هي وحدها التي افترضته ضعيفا وغير قادر على المواجهة وخاصة مع التسريبات التي أطلقتها حول قدراتها النووية وما حصل أثناء المناورات البحرية والبرية والصاروخية التي أجرتها، في إطار رسائل سياسية موجهة للعرب بالدرجة الأساسية.


في ضوء هذه المستجدات نظمت حكومة البحرين مؤتمرا لأمن الخليج العربي، وهو ظاهرة متحضرة تماما وتعكس جدية في التعامل مع هذا الضرب المتطور من الأنشطة النخبوية، وشارك في مؤتمر المنامة، مسؤولون حاليون وسابقون في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، وقدموا في مداخلاتهم عرضا يمكن أن نتتطابق مع بعضه أو نقترب منه وربما نتقاطع، ولكن مراكز البحث تحرص عادة على عرض الأفكار المتصادمة من أجل الوصول إلى مشتركات بعيدة عن العواطف والنوايا الطيبة، حتى إذا كانت النتائج على حساب قناعات البعض من المشاركين في المؤتمرات والندوات التي تعقدها مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية.


كانت أعمال المؤتمر تسير على سكة سالكة تماما، حتى كاد قطارها يخرج عن القضبان، بعد أن تحدث الأمير تركي الفيصل، فركز على أن الوضع الأمني في منطقة الخليج العربي في أحسن أحواله، حتى جاء الغزو الأمريكي الخاطئ للعراق، فأزال جدار الصد العربي الذي كان يقف بقوة بوجه أطماع إيران ونواياها بتصدير ثورتها إلى المنطقة، لتنطلق بها من دون صعوبات أو عقبات إلى سائر أرجاء العالم الإسلامي، ثم جاء من بعده رجل أمن من دبي قال بصراحة إنه لا يجيد لغة الخطاب السياسي أو الدبلوماسي، وحدد كما كبيرا مما يعتبره أخطارا جدية تهدد أمن الخليج العربي، معظمها تتحمل الولايات المتحدة مسؤوليته السياسية والأخلاقية، بما فيها تزايد التهديدات الإيرانية، ومع هذه التحديدات التي لا تقبل اللبس، خرجت أعصاب السفير الأمريكي من جلده، ولم يجد غير السلوك البدائي المتخلف ردا على الأفكار المطروحة، حتى ظن البعض أن السفير الأمريكي كان عليه أن يحضر قاعة المؤتمر وهو بكامل لباس الكاوبوي أو المارينز، كي يفرض على المشاركين فيه توجهاتهم وطريقة عرضهم لأفكارهم.


السفير الأمريكي حينما غادر قاعة المؤتمر أساء بالدرجة الأولى لسمعة بلاده ومكانتها الدولية، وأساء لنفسه أيضا من خلال تصرف نزق فرضته خلفية ثقافة التفوق الكاذب للجنس الغربي على الآخرين، حتى بتنا نخال أنفسنا نعيش نازية من طراز جديد أكثر عنصرية ووحشية مما خلقته النازية الألمانية، ولكنه قطعا أساء إلى البلد الذي يعمل فيه والمشاركين في المؤتمر، حينما استهان بالأفكار المطروحة وعدها مبررا كافيا لترك قاعة الاجتماع.


ولو كان السفير الأمريكي يحمل قليلا من تقاليد العمل الدبلوماسي، لضغط على نفسه وتحمل ما لا يتحمله الآخرون، ولكنها عقدة التفوق والغطرسة الجوفاء التي تحكم سلوك الولايات المتحدة مع الدول الأخرى، وهو ما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في أية فعالية يمكن أن توجه منها الدعوة لحضور ضيوف خارجيين مثل السياسيين والدبلوماسيين وخاصة سفراء الدول الكبرى التي تريد أن تبقى كبرى حتى داخل ندوات مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية. ما طرح من وجهات نظر في مؤتمر المنامة لم يكن أقوى مما يطرح في مراكز الدراسات والبحوث الأمريكية، حول اخفاقات السياسة الأمريكية، وما ارتكبته من خطايا في حربها العدوانية على العراق وأفغانستان، فأزالت من الخارطة العسكرية نظامين، كان مصدا قويا بوجه المشروع الإيراني، حتى وصل الأمر بأحد الصحفيين الأمريكان أن يقول من دون تردد، لقد قدمت الولايات المتحدة العراق لإيران على صينية من ذهب.


فهل تمت ملاحقة من يطرح وجهة نظر لا تروق مسؤولا في البيت الأبيض أو الخارجية أو الدفاع أو وكالة المخابرات المركزية؟
وكم من مسؤول أمريكي غادر قاعة الاجتماع عندما كان يتحدث باحث أمريكي في أحد مراكز الدراسات لاستراتيجية الأمريكية لأنه طرح وجهة نظر مغايرة لقناعات المسؤول؟
على العموم إذا كانت أمريكا تريد التعامل مع دول العالم على قدم المساواة، فلا يكفي أن تكف عن استخدام القوة، بل عليها أن تنزل عن بغلة الوهم بالتفوق العرقي والعنصري، وإلا فإنها لن تكون أفضل حظا من الاتحاد السوفيتي.

 

 





الاربعاء١٥ ربيع الاول ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٨ / شبــاط / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة