شبكة ذي قار
عـاجـل










ألقسم الأول

الوضع السياسي

 

الوضع السياسي

في ظل معطيات سياسية دولية وعربية ومحلية لبنانية تداخلت عناصرها تداخلاً قوياً،بحيث بات كل تطور في إحدى الساحات ينعكس على الأخريات أما سلباً أو إيجاباً، عقد حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي، مؤتمره الثاني، تحت مُسمَّاه الجديد والسابع عشر في سياق المؤتمرات القطرية للحزب منذ تأسيسه في لبنان تحت اسم حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

إن الحزب في استعراضه للواقع السياسي بإبعاده الدولية، العربية واللبنانية توقف عند الأحداث البارزة التي أفرزت مشاهد سياسية تحت عناوين، كبرى إن على المستوى الدولي والعربي وإن على المستوى اللبناني.

 

على الصعيد الدولي

يرى الحزب أن العالم يقع تحت تأثير تحولات غير مسبوقة في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا وذلك بسبب توفر ثلاثة عوامل:

العامل الأول: استمرار تداعيات سقوط ثنائية الاستقطاب الدولي كنتيجة مدوية لانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومته السياسية والعسكرية في التأثير على مجريات الأحداث الدولية الكبرى.

العامل الثاني: الدخول في عصر العولمة الحديثة التي استفادت من ثورة المعلوماتية، وتوظيف الشركات الدولية العابرة للقارات هذه الميزة في خدمة السياسة الإمبريالية الجديدة التي تتبوأ أميركا الموقع الأكثر تأثيرا من خلال تحكمها بأكثر من 75% من منظومة ثورة المعلوماتية.

 

العامل الثالث: المؤشرات المتنامية لأزمة الرأسمالية المعاصرة،والتي باتت تحدث اختلالاً بنيوياً في الاقتصاد الرأسمالي وخاصة الاقتصاد الأميركي، والتي كان أبرز عناوينها أزمة البنوك الاستثمارية الأميركية التي هزت الاقتصاد العالمي، وأزمة الديون الأميركية بسبب انتفاخ وتمدد الدور الأميركي عسكرياً وسياساً على الصعيد الدولي.

إن الأزمة التي باتت تواجهها الرأسمالية المعاصرة، تشكلت معطياتها من خلال الدور الذي تلعبه أميركا وهي صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، وسعيها لتوظيف نتائج انهيار النظام الدولي السابق، بإعادة إنتاج نظام دولي في السياسة والاقتصاد، يقوم على ركيزة القطبية الواحدة وهذا ما دفعها لأن تبني استراتيجيتها الجديدة على قاعدة الحؤول دون تشكيل مراكز استقطابية دولية جديدة، تكون ذات قدرة تنافسية على الصعيد الاقتصادي، وعليه انطلقت في ثلاثة اتجاهات:

 

الاتجاه الأول : العمل لاحتواء الاقتصاديات الآسيوية الصاعدة وخاصة في الصين والهند. الاتجاه الثاني: الضغط على منطقة اليورو للحؤول دون قيام عملة دولية منافسة للدولار. الاتجاه الثالث: استثمار كل قواها للسيطرة على النفط.

 

وتنفيذاً لهذه الاستراتيجية، ما تزال أميركا تقبض على المؤسسات النقدية الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحيث تعمل لإعطاء هذا الأخير دورا لإعادة هيكلة اقتصاديات العديد من دول العالم وخاصة تلك التي تواجه أزمة بنيوية وتحويلها نحو الخصخصة على حساب تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد الوطني.

وضمن سياقات هذه الاستراتيجية، تضغط أميركا على أوروبا في اتجاهين:

 

الاتجاه الأول : توسيع منطقة اليورو عبر ضم دول جديدة بما يجعل ركائز القوة في منطقة اليورو مثقلة بمعالجة أزمات الدول ذات الاقتصاديات الأقل تطوراً، كما حصل مع اليونان، وكما هو مرشح لأن يحصل مع إسبانيا والبرتغال والدول في الشرق الأوروبي.

 

الاتجاه الثاني : هو الضغط لدفع دول الحوض الأوروبي الصناعي وخاصة المانيا وفرنسا، للعودة إلى زيادة إنفاقها العسكري، بعدما تحفظت هذه الدول على زيادة هذا الإنفاق أثر تفكك الاتحاد السوفياتي، ولم تبد ارتياحاً لتمدد حلف الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية سابقاً.

 

كما أنه ضمن سياقات هذه الاستراتيجية، أطلقت أميركا العنان لقدراتها العسكرية وتأثيراتها السياسة لإعادة السيطرة على مصادر الطاقة التي لو بقيت خارج الهيمنة الأميركية إنتاجاً وتسويقاً، لكان ذلك سيعطي تأثيراً سلبياً على استراتيجيتها الدولية، لجهة تمكين الكتل الاقتصادية ذات القدرة التنافسية من التحرر من هيمنة السيطرة الأميركية على مصادر الطاقة.

 

وعلى أساس هذا البعد الكوني للاستراتيجية الأميركية، خلقت عدواً وهمياً أعطته بعداً دولياً تحت عنوان الإرهاب. وقد استغلت لهذه الغاية بعض الأحداث المأساوية التي حصلت في أكثر من موقع من العالم والتي تحوم شبهات كبرى حول دور أميركي في تهيئة آليات التنفيذ لهذه الأحداث، لتبرير تدخلها السياسي والعسكري في العديد من المناطق من العالم تحت حجة مواجهة الإرهاب كمنظومة فكرية وسياسية وعسكرية تهدد السلم والأمن الدولييـْن.

 

وإنه ضمن سياق هذه الاستراتيجية جاء العدوان على أفغانستان بحجة ضرب طالبان،وضمن سياقها جاء العدوان على العراق، بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل ولعلاقة مزعومة مع القاعدة، وضمن هذا السياق أيضاً جاء تحركها المكثف وضغطها المتعدد الأوجه الذي أدى إلى تقسيم السودان.

 

إن الاحتلال الأميركي لأفغانستان أياً كان الهدف المعلن، فإن الهدف الأساسي، هو أن تكون أميركا على تخوم مخزون النفط في بحر قزوين وآسيا الوسطى، ولملء الفراغ الأمني في هذا المنطقة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

 

وإن العدوان على العراق واحتلاله كان الهدف منه إسقاط نظامه الوطني، وبالتالي شطبه من معادلة الصراع مع المشروع الصهيوني الاستيطاني، وإعادة السيطرة على نفط العراق ثأراً لقرار التأميم قبل أربعين سنة.

 

وإذا كان الضغط قد كـُثـِّف لتقسيم السودان، فلأن هذا البلد يحتوي على مخزون نفطي واعد ولموقعه المؤثر على منابع النيل ومجراه، وهو شريان الحياة للسودان ومصر.

إن أميركا التي لم تخف أهدافها وإن سعت لتقديمها تحت عناوين أخرى، كانت تعلن أن أية خطوة عسكرية أو سياسية تحدث في الشرق الأوسط بحوضه العربي والإقليمي، إنما تدرجه تحت يافطة خلق شرق أوسط جديد، وعليه وضعت العدوان على العراق ونتائجه ضمن سياق هذا المفهوم، وأيضاً الحرب على أفغانستان والحرب على لبنان وغزة عامي 2006 و2008.

 

إن أميركا التي اندفعت تارة منفردة، وتارة قائدة لتحالف دولي عسكري واقتصادي لتحقيق أهداف استراتيجيتها، تبين أن هذه الاستراتيجية تختصر بثلاثة عناوين، أمن النفط وأمن "إسرائيل" وأمن الدولار، وهذه العناوين مترابطة فيما بينها، بحيث أن أمن "إسرائيل" مرتبط بأمن النفط وأمن النفط مرتبط بأمن الدولار، وكل ذلك لإبقاء العالم تحت السيطرة الأميركية عبر الحؤول دون قيام مراكز دولية استقطابية ذات قدرة اقتصادية تنافسية خاصة بعدما أصبح الصراع الدولي محكوماً حالياً وبشكل مكشوف بصراع المصالح الاقتصادية بعدما كان مغلفا بالصراع الأيديولوجي خلال حقبة الحرب الباردة.

 

إن مؤتمر الحزب الذي شخـّص هذا البعد السياسي للاستراتيجية الأميركية يرى أن أميركا التي تجهد لجعل أقانيم الأمن الثلاثة،النفط "إسرائيل" والدولار، أقانيم آمنة، تركز بشكل أساسي على إحكام سيطرتها على المنطقة العربية حيث تعتبر ان السيطرة عليها هو مصدر قوتها،وتفـَلـُت هذه المنطقة من السيطرة هو مصدر ضعف لها، وفشل لاستراتيجيتها، لأنه يوجد فيها أكبر مخزون للنفط في العالم، وعلى أرضها يتصارع مشروعان، المشروع النهضوي العربي ذو الأبعاد التحررية والتوحيدية والمشروع الصهيوني المحتضن دائماً من مراكز التقرير في النظام الاستعماري، قديمهِ وجديده.

 

إن العرب من خلال وجودهم في الخندق الصراعي على ثروتهم النفطية، وفي الخندق الصراعي مع كيان الاغتصاب في فلسطين، ولأهمية موقعهم الجيوساسي على ضفاف المتوسط مركز التوازن الدولي، يلعبون دوراً في تقرير معالم النظام الدولي الجديد الذي تسعى أميركا لإرساء دعائمه. وبالنظر لهذه الأهمية الجيوسياسة للوطن العربي فإن أميركا عملت وتعمل لإسقاط مكوِّنه القومي ومراكزه الجاذبة، إن عبر الاحتواء السياسي كما حصل مع مصر في اتفاقيات كمب دافيد، وإن عبر الاحتلال كما حصل مع العراق متناغمة ومتعاونة ومتفاهمة مع دول إقليمية متاخمة للوطن العربي من مشرقه وشماله وجنوبه لكي تكون لهذه الدول ركائز سياسية للمنظومة السياسية الإقليمية الجديدة،تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد بحيث تحتل إيران وتركيا وأثيوبيا كمواقع محيطة بالوطن العربي من مداخله و"إسرائيل" كموقع مؤثّر في داخله وأصحاب أدواراً تنفيذية للاستراتيجية الأميركية التي تلعب أميركا دور القيادة الاستراتيجية لهذا المشروع.

 

انطلاقاً من هذا التصور العام للمشهد الدولي في ظل الاندفاعة الأميركية لتحقيق ثلاثية أمنها، النفط "وإسرائيل" والدولار، يرى الحزب أن التصدي لهذه الاستراتيجية، لا يستقيم إلا إذا كان في الاتجاه المعاكس، وعليه فإنه يرى بأن نجاعة المواجهة مع المشروع الأميركي وأياً كان الشكل الذي يقدم نفسه من خلاله، لا بد أن تكون مرتكزة على الأسس التالية:

 

1- إعادة الاعتبار لشعار نفط العرب للعرب كعنصر أساسي من عناصر مرتكزات الأمن القومي العربي، ورداً على المقولة الأميركية: إن أمن النفط هو من مرتكزات الأمن القومي الأميركي.

2- إعادة الاعتبار لمنطلقات الكفاح الوطني الفلسطيني المحتضن قومياً وخاصة شعار تحرير فلسطين كل فلسطين، وعلى قاعدة أن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع وجود وليس صارع حدود.

3- إعادة الاعتبار لدور الجماهير في النضال الوطني بأبعاده ألقومية والنضال الديموقراطي بحيث لا تكون لواحدة أولوية على الأخرى بل إن الاثنين يتكاملان ويتفاعلان فيما بينهما.

 

إن الحزب وانطلاقاً من مركزية الاستهداف الأميركي للعرب أمة ووطناً، يرى أن للعرب دوراً مركزياً في عدم تمكين أميركا من إيجاد بيئة آمنة لمصالحها الاقتصادية وخاصة النفطية، وعدم تمكينها من توفير بيئة آمنة للأمن الصهيوني، وعليه فإن على الحركة الوطنية العربية أن تدرك حجم الخطر الذي يجسده المشروع الأميركي، وحتى تستطيع أن ترسم لنفسها معالم استراتيجية مقابلة، قوامها مقاومة الاحتلال الأجنبي للأرض العربية،وبلورة إطارات تحالفية تشكل رافعة المشروع العربي الهادف إلى تحرير الأرض وإعادة توحيد الأمة على أسس الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

 

وإذا كانت الإمبريالية الأميركية قد واجهت عوائق جدية أمام نفاذ مشروعها، وأدت إلى بروز مظاهر الأزمة، التي بدأت ترخي ظلالها السياسية والاقتصادية على الواقع الأميركي، فهذا لم يأتِ من فراغ بل لأن الشعوب التي ظنت أميركا أنها سوف تخضع عبر اعتماد أسلوب الصدمة والرعب، استطاعت أن تمتص اندفاعة الهجمة الأميركية، وتمكنت من الصمود والمقاومة ورفع سواتر أمام المشروع الأميركي.

 

إن هذه المقاومة انطلقت من حيث اعتبرت أميركا أنها استطاعت فرض واقع جديد، ولهذا وقعت في الحسابات الخاطئة وانعكس الأمر سلبياً عليها، والفضل في الحد من الاندفاعة الأميركية الهجومية ومن ثم جعل السياسة الأميركية تعيش مأزقاً كبيراً، هو المقاومة التي انطلقت في العراق والتي استطاعت وفي ظروف غير متكافئة أن تفرض واقعاً جديداً، على المحتل الأميركي وتدفعه لأن يضع الانسحاب من العراق في اولوية أجندته السياسة، وهذا يقودنا إلى استعراض الواقع العربي وتحديد أبرز ملامح معطياته خلال الفترة الفاصلة عن المؤتمر السابق.

 

على الصعيد العربي

لقد استعرض الحزب الواقع العربي خلال المرحلة الفاصلة عن مؤتمره السابق، فرأى أنه في هذه المرحلة حصلت عدة تطورات، بعضها ذو تأثيرات سلبية على الأمن القومي العربي، والبعض الآخر ذو تأثيرات إيجابية، وإذا كان المظهر السلبي قد تمثل بالتقسيم الذي تعرض له السودان، من انفصال لجنوبه وبدء التخطيط لفصل غربه، ومحاولة الكيان الصهيوني إيجاد مواطئ قدم له في الدولة الجديدة، التي رأت النور بدعم دولي وإقليمي دون التقليل من مسؤولية النظام السياسي السوداني لما آلت إليه الأوضاع، فإن المظاهر الإيجابية التي برزت على الساحة العربية كانت عديدة وتموضعت في أكثر من موقع في العراق ولبنان وفلسطين، وفي الانتفاضة الشعبية التي تعم ساحة الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه.

 

ففي العراق استطاعت المقاومة العراقية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي أن توحد قواها في جبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني وتمكنت أن تمنع المحتل الأميركي من تحويل احتلاله إلى وجود دائم، وهي التي فرضت عليه إعادة النظر في تموضع قواته تحت عنوان إعادة الانتشار من ثم وضع الانسحاب في أجندة السياسة الخارجية الأميركية. وإذا كانت المقاومة العراقية قد حققت إنجازاً نضالياً هاماً، فلأنها كانت مقاومة مستلهمة في أداء عملها كل الخبرة النضالية لحزب البعث في ظروف النضال السري قبل ثورة 17/30/تموز 1968م ومن ثم تجربته في قيادة المسيرة النهضوية، والتي استفزت بأهدافها وبرامجها قوى الاستعمار والصهيونية، وكل من يناصب الأمة العربية العداء. كما أن هذه المقاومة التي سلمّت إمرتها لقيادة نضالية مجربة، استلهمت كل القيم الوطنية والإنسانية والوطنية الأصيلة لشعب العراق، والعروبة المتجذرة في نفوس أبنائه، وعليه استطاعت المقاومة أن تتصدى لأعتى آلة عسكرية دولية، وأن تجعل هذا الاحتلال يواجه ليس فقط بدايات السقوط السياسي بل أيضاً السقوط الأخلاقي. حيث انكشف الزيف الأميركي بوجود أسلحة دمار الشامل والكذب في وجود علاقة مزعومة مع القاعدة، والسقوط المدوي للادعاء الامريكي بالدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية الحريات الديموقراطية والسياسية، وبروز سادية عنصرية في التعامل مع شعب العراق من خلال الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان ومن خلال سن قانون بريمر، الذي ارتكز على تطييق الحياة السياسة وعلى قاعدة الغاء الآخر تحت عنوان "الاجتثاث للبعث".

 

إن المقاومة العراقية التي تعتبر أول مقاومة في التاريخ المعاصر، تقاوم محتلاً يملك أقوى آلة عسكرية وتقنيات إعلامية ومؤثرات نفسية، دون أن تكون متوفرة لها قاعدة خلفية، هي أنموذج فريد وهي دلالة واضحة على أن الأمة في نضالها للدفاع عن وجودها وحقوقها قادرة على التكيّف مع أقسى الظروف والمعطيات، والمقاومة إذ برزت بهذا الحضور والفعالية، فلأنها انخرطت في نضالها على أساس برنامج سياسي متكامل، ألِفـُه دحر الاحتلال وكل المتعاونين والمتحالفين معه، وياؤه إعادة توحيد العراق على الأسس الوطنية والديموقراطية،وحمايته وإعادة الاعتبار لدوره الرائد كرافعة للنضال القومي العربي. ولهذا فإن المقاومة في العراق وإن استطاعت بنضالها أن تضع المحتل الأميركي على سكة الانسحاب، إلا أنها تعتبر أنه ما زال أمامها مهمات جسيمة. أولها اعتبار أن الاحتلال لا يتحدد بطبيعة الوجود العسكري وحسب، بل أيضاً بالوجود السياسي ولذلك فهي معنية بإسقاط كل الإفرازات السياسية التي أفرزها الاحتلال. وأن المقاومة سوف تستمر لمواجهة كل من يحاول ان يستفيد من الاحتلال بوجوده، أم بعد انسحابه لملء ما يسميه فراغاً أمنياً أو وضع العراق تحت وصاية جديدة، وأن المشروع الإيراني الخاص بالعراق والذي بدأ يكشف عن نفسه عبر أشكال مختلفة، من التدخل في الشؤون الداخلية العراقية، سيكون هدفاً لمقاومة الشعب العراقي، لأن العراق يرفض أن يستبدل محتلاً بآخر وأياً كانت الشعارات التي يقدم نفسه من خلالها المحتل الجديد.

 

إنّ المقاومة التي استطاعت أن تلحق الهزيمة بالمحتل الأميركي قادرة على الحاق الهزيمة بكل من يطمح للسيطرة على العراق، لأنه يكون سائراً بعكس اتجاه المسار التاريخي للنضال الوطني العربي، وعكس منظومة القيم الفكرية والسياسية القومية التي تشكل امتلاء نفسيا لشعب العراق.

 

وعليه فإن الحزب يعتبر أن انطلاقة المقاومة، وصمودها، واستمراريتها، هي من العلامات المضيئة في هذا الفضاء العربي، وهي إثبات على أن الأمة إذا أرادت فعلت، وإذا قررت الصمود استطاعت، وإذا انخرطت في المواجهة، قادرة على إنتاج وضع سياسي إيجابي.

 

وفي تقدير الحزب أن هذه المقاومة، هي الثابت الأساسي في صياغة أوضاع العراق السياسية المستقبلية، وكل ما عدا هذه المقاومة إنما هو متحرك ومتغير ومرتبط بالقوة التي أنتجته ولهذا فان أحداً لا يستطيع القفز فوق دور المقاومة في صياغة الوضع السياسي لعراق المستقبل.

 

فلسطينياً: رأى الحزب، أن استمرار الانقسام الفلسطيني من شأنه أن يطيح بكل الإنجازات الوطنية التي تحققت، وهو إذ لا يعفي الأطراف الفلسطينية من مسؤولية استمرار هذا الانقسام الذي انعكس سلباً على الواقع الشعبي الفلسطيني في داخل فلسطين وخارجها، فإنه يحمّل مسؤولية استمرار هذا الانقسام أيضاً إلى النظام العربي الرسمي الذي انخرطت مرجعياته في مسار التسوية،كما في محاولات التضييق والحصار الذي تعرضت له المواقع الفلسطينية، والذي كان مكمّلاً في نتائجه للاحتلال والاعتداءات الصهيونية. وإذ يرى الحزب، أن المحاولات الأخيرة لإجراء مصالحة فلسطينية، ما تزال محاولات خجولة، لعدم تقديم الأطراف الأساسية تنازلات جديّة متقابلة، ولعدم توفر قوة ضغط عربي للمصالحة، ان بسبب طبيعة النظام العربي السائد حالياً وان بسبب عدم بلورة هيكلية سياسية عربية جديدة بعد انطلاقة الانتفاضات العربية فإنه يؤكد على وجوب أن يأخذ الحوار الوطني الفلسطيني الداخلي بعداً شاملاً بحيث تنخرط فيه كل قوى المقاومة الفلسطينية وعلى قاعدة صياغة برنامج سياسي يأخذ بالاعتبار الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن تكون من أولى أوليات هذا الحوار إعادة إنتاج مرجعية وطنية فلسطينية تحت مظلّة منظمة التحرير تكون قادرة على إدارة الصراع بأشكاله السياسية والعسكرية، وعليه أن يحمي أولاً الإنجاز الوطني الفلسطيني الذي تمثل بالصمود البطولي والمواجهة للعدوان على غزة عام 2008/2009، ووضع نتائجه في سياق تصليب الموقف الوطني الفلسطيني، وثانياً، أن يعتبر أي إنجاز سياسي يتحقق للقضية الفلسطينية، خطوة غير معزولة عن أهداف التحرير الشامل والكامل، وضمن هذا السياق يرى الحزب أن طرح موضوع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 1967، يجب أن لا يكون هدفاً نهائياً على حساب الحق التاريخي في فلسطين، وعلى قاعدة أن هدف تحرير فلسطين وإزالة الاغتصاب يجب أن يبقى هدفاً ثابتاً لقوى الثورة الفلسطينية وقوى الثورة العربية، باعتبار أن تحرير فلسطين لا يعيد الحق لاصحابه وحسب، بل أيضاً يسقط واحدة من أهم مرتكزات الاستراتيجية الاستعمارية التي تحمل لواءها وتدافع عنها حالياً الولايات المتحدة الأميركية.

 

إنّ الحزب يرى في صمود غزة، واستمرار فعاليات المقاومة في الأراضي المحتلة هو أيضاً من العلامات المضيئة في الفضاء العربي، والتي باضافتها الى ما حققته المقاومة العراقية، تكون بقعة الضوء قد اتسعت لتشع على أوسع مدى عربي في مشرق الوطن ومغربه، وعليه أن يخرج الفلسطينيون خاصة، والعرب، عامة من وهم تحقيق تسوية متوازنة، لان ّ كل ما هو مطروح هو مجرد ترتيبات أمنية وسياسية تضمن مصالح الكيان الصهيوني على حساب الحق التاريخي للعرب في فلسطين وعليه يجب الخروج من وهم هذه التسوية وإعادة الاعتبار للكفاح الشعبي بكل تعبيراته.

 

وإنه في سياق استعراض العلامات المضيئة يرى الحزب أن ما استطاعت المقاومة في لبنان أن تحققه من صمود وتصدّي للعدوان الصهيوني عام/2006، إنما هو إنجاز وطني ببعد قومي، إذ أن هذه المقاومة استطاعت أن تصمد في وجه آلة العدو أكثر من شهر، لا بل أكثر من ذلك فإنها استطاعت أيضاً أن تضع الكيان الصهيوني في مرمى نيرانها وأن تكبده خسائر اقتصادية وعسكرية لم يكن يتصورها.

 

ورغم أن أميركا حاولت بداية أن تضع هذا العدوان، وما كانت تتصوره من نتائج سياسة في سياق رسم مصالح نظام شرق أوسط جديد، إلا أن نتائج المواجهة أتت بعكس ما تصورته أميركا وما خطط له الكيان الصهيوني.

 

ومع أن هذا الإنجاز الوطني العظيم قد استغل، ووظف في تفعيل عوامل الفرز السياسي الداخلي وما أحدثه من تثقيل للوضع الداخلي، إلا أنه يبقى واحدة من العلامات المضيئة في هذا الفضاء العربي وإثباتاً على أن الأمة، قادرة على المواجهة، وأن كانت التكلفة كبيرة.

 

هذه المشاهد العربية، التي كان عنوانها ثلاث مقاومات في العراق ولبنان وفلسطين، شكلت مصادر ضخ تعبوي لجماهير الأمة التي وان واجهت، وما تزال تواجه تحدياً قوياً وخطيراً في انفصال السودان إلا أنها استطاعت أن تلعب دوراً هاماً في تحقيق الامتلاك النفسي للجماهير العربية، فكانت أن تفاعلت عوامل الاحتقان الداخلي مع عناصر الضخ التعبوي الذي أنتجه العمل المقاوم في العراق وفلسطين لبنان، ليفجر بركاناً شعبياً عبر عن نفسه بانتفاضات شعبية عارمة، عبّرت من خلاله الجماهير عن معاناتها، ورفعت شعارات واحدة، في تأكيد جديد، بأن هذه الأمة التي يريدون إعادة رسم خارطة وطنها الجغرافي على أسس مذهبية وطائفية وقبلية وعرقية، هي أمة واحدة من خلال وحدة الشعارات، ووحدة المعاناة التي كانت ترددها في المشرق فيسمع صداها في المغرب، والعكس صحيح. والحزب إذ أفرد في هذا التقرير بابا خاصا للانتفاضة الشعبية العربية أفاقاً وأبعاداً يحدد موقفه منها بالتالي:

 

1- أن الأنظمة العربية القائمة هي أنظمة فاسدة ومفسدة، يجب العمل على تغييرها وبما يتلاءم والطموح الشعبي في الديموقراطية والتعددية السياسية وتداول السلطة.

2- إن الحزب هو مع الحراك الشعبي السلمي الهادف إلى الإصلاح والتغيير.

 

3- إن الحزب يرى أن الحراك الشعبي يجب أن يكون محكوماً بثوابت ومسلمات، وهو أن لا يؤدي إلى تهديد الوحدة الوطنية، أرضاً، وشعباً، ومؤسسات، وأن يكون محصناً ضد أي منزلقات طائفية ومذهبية وأثنية، وأن يكون حاسماً برفض اي شكل من أشكال التدخل الأجنبي، وتحت أي مسمى كان.

 

4- أن الحزب يرى أن الأزمات السياسية لا يتم التصدي لها إلا عبر حلول سياسية وأن الحل الأمني يزيد الأمور تعقيدا، عندما يعتمد كحل لأزمة سياسية تستند في مكونها وعناصرها إلى مطالب مشروعة ومحقة.

 

هذه المشاهد العربية العامة حيث معطيات المقاومة وضروراتها ما تزال قائمة والمطلوب إيجاد أطر تنسيقية فيما بينها من ضمن برنامج سياسي متكامل، فإن الانتفاضة الشعبية التي استطاعت حتى الآن أن تسقط ثلاثة أنظمة بظروف ومعطيات وآليات مختلفة، وتستمر في أقطار أخرى، فإنها تبشر بولادة عربية جديدة، ولبنان الذي يشكل وضعه اختصاراً مكثفاً لمعطيات الوضع العربي وتقاطعاته مع الوضعين الاقليمي والدولي ما يزال ينوء تحت عبء أزمته والتي سجلت رقماً قياسياً في مداها الزمني والأثمان السياسية والاقتصادية والبشرية التي دفعت وما تزال مفتوحة على مزيد من التداعيات.

 

الوضع اللبناني:

إن الحزب ولدى استعراضه للوضع اللبناني رأى أن ثمة تطورات كبرى قد حصلت خلال الفترة الفاصلة عن المؤتمر السابق وقد تمثلت أبرز هذه التطورات بالعناوين التالية:

 

1- انسحاب القوات السورية من لبنان، بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وتحت مظلة القرار 1559 الذي تحول إلى مشكلة وعامل تأزيم في معطى الوضع الداخلي.

2- بروز تكتلات سياسية كبرى تحت عنوانّي 14 و8 آذار وكل منهما مرتبط بمواقع التأثير من الخارج العربي والاقليمي والدولي.

3- حصول موجة من الاغتيالات السياسية طالت رموزاً سياسية ونيابية وصحفية.

4- تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للتحقيق باغتيال الرئيس الحريري وجرائم قتل أخرى , وقد شكلت هذه المحكمة عنصر تجاذب سياسي داخلي من موقعي التأييد والرفض.

5- انعقاد طاولة الحوار في ربيع 2006 واستئنافها عام 2009، وعدم تمكنها من الخروج بتوافقات جدية حول القضايا الخلافية، وخاصة حول موضوع السلاح وبعدها المحكمة الخاصة بلبنان.

6- عدوان تموز عام/2006، وما أسفر عنه من نتائج إن لجهة تبدّل موازين القوى في الداخل، وإن لجهة التعامل مع القرار 1701 لجهة إرسال الجيش إلى الجنوب وتقرير دور القوات الدولية.

7- الفراغ الرئاسي الذي استمر لسبعة أشهر من 24/تشرين الثاني إلى أواخر أيار/2008 عندما حصلت الانتخابات الرئاسية كنتيجة لمحصلة التفاهم في الدوحة.

8- أحداث السابع من أيار 2008 وما تركته من انعكاسات على الواقعين السياسي والشعبي، حيث وضع البلد على حافة انفجار سياسي بمحتوى مذهبي.

 

9- اتفاق الدوحة في ايار 2008 الذي انعقد برعاية عربية وإقليمية ودولية لاحتواء مضاعفات الأزمة، وإفرازه جملة تفاهمات من بينها تشكيل ما سمي بحكومة اتحاد وطني واعتماد عرف دستوري هو الثلث المعطل في تشكيل الحكومة.

 

10- عودة التفاهم السوري- السعودي على إدارة الشأن السياسي اللبناني، والتي كانت حكومة سعد الحريري عنوانه السياسي وشعار السين – السين (عنوانه الحركي).

 

11- انهيار التفاهم السوري – السعودي في لبنان بعد الخلاف حول الوضع السياسي في العراق، وانعكاس هذا الانهيار على ملف التعاطي مع المحكمة الخاصة بلبنان والذي أدى إلى إسقاط ما سمي بحكومة الوفاق الوطني.

 

12- تبدل مواقع الإدارة السياسية للأزمة في لبنان، بعدما تحوّل معارضة 8 آذار إلى موالاة من خلال الحكومة التي شكلها الرئيس ميقاتي، وتحول موالاة 14 آذار إلى المعارضة السياسية والبرلمانية، بعد الملابسات التي أعادت تركيب الاصطفافات السياسية عشية الاستشارات النيابية، لتشكيل حكومة جديدة عقب استقالة حكومة سعد الحريري.

 

13- تأثيرات المشهد السوري على الواقع اللبناني، في ظل التجاذبات السياسية السلبية والإيجابية من معطى الوضع السوري.

هذه التطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية خلال المرحلة الفاصلة عن المؤتمر السابق، تدل على أن الأزمة اللبنانية التي انفجرت عام 1975/على نطاقها الواسع لم تنفجر بسبب معطى الوضع الداخلي لمكونات هذه الأزمة وحسب، بل تداخلت فيها عوامل داخلية وخارجية، وأن العوامل الخارجية كانت الأكثر تأثيراً نظراً لكون لبنان يقع على خط التصادم بين الاستراتيجيات المتقابلة ببعديها الاقليمي والدولي ووجوده على خط التماس الجغرافي والسياسي مع الكيان الصهيوني فضلاً عن كون تركيبة بنيتة الداخلية تجعل منه أرضاً خصبة مهيأة لاستقبال تأثيرات الخارج، والأزمة التي انفجرت وتوالت فصولاً وما تزال مستمرة ومفتوحة على كل الاحتمالات، نظرا لوجود إشكاليات سياسية،اجتماعية،اقتصادية وفكرية تتوافر عناصرها في ساحة لبنان، وأبرز هذه الاشكاليات:

 

1- علاقة لبنان مع العروبة، وهل لبنان في موقع الحياد في الصراع مع العدو الصهيوني والخلاف حول مفهوم السيادة الوطنية؟

2- هل التعددية الطائفية في لبنان تساعد على بناء وطن بمفهوم المواطنة الكاملة؟

وهل الديموقراطية التوافقية تندرج ضمن مفهوم الديموقراطية السياسية أم أنها محاصصة طائفية بلبوس ديموقراطي؟

 

3- أية مقاييس تكسب المعارضة شرعية سياسية، تنطبق عليها المواصفات المطلوبة لأداء دورها في الحركة السياسية العامة؟

 

4- أية رؤية يجب أن تحكم الوجود الفلسطيني في لبنان، وأية رؤية يجب أن تحكم العلاقة مع سوريا، باعتبارها بوابة لبنان الجغرافية إلى العمق العربي، واية رؤية لمقاربة عنوانّي السلاح والمحكمة؟

5- أي نظام سياسي هو الأمثل للبنان في ظل معطاه الخاص والمحيط به؟

 

هذه الإشكاليات التي اعتبر الحزب، عدم الوضوح في تحديد المواقف منها، هو من مسببات تفجر أوضاع لبنان واستمرار أزمته التي ثبت خلال 40 عاماً تقريباً، وأن كل الذين تبوأوا موقع القرار في السلطة الرسمية ومارسوا سلطة الأمر الواقع، كانوا يديرون هذه الأزمة مرة تحت عناوين اقتصادية ومرة تحت عناوين أمنية ومرة تحت عناوين قضائية.

 

والحزب باعتباره، واحداً من مكونات قواه السياسية وأحد الأطراف التي ساهمت وتساهم في تعميم ثقافة وطنية، معني ببلورة برنامج وطني سياسي شامل لمواجهة مشاريع الاصطفاف المذهبي وعليه فهو يحدد رؤيته من هذه الإشكاليات بالتالي:

 

الإشكالية الأولى، وهي علاقة لبنان بالعروبة، فالحزب يعتبر أن هوية لبنان القومية هي خارج أي التباس وفوق أي خلاف سياسي. وأنه إذا انتاب البعض التباس حول عروبة لبنان بالاستناد إلى ما نص عليه الميثاق الوطني عام 1943 على أن لبنان بلد ذو وجه عربي، فإن هذا الالتباس أسقط نهائياً عند حسم النص الدستوري هوية لبنان القومية، بالنص عليها في مقدمة التعديل الدستوري الصادر بموجب القانون الدستوري رقم 18/90، حيث جاء في مقدمة الدستور (فقرة ب): "لبنان عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس وعامل في الجامعة العربية وملتزم مواثيقها."

 

إن تثبيت هذا النص حسم الجدل الذي يثار حول هوية لبنان القومية وهذا التحديد يؤكد بأن علاقة لبنان بالعروبة ليست علاقة بين مكونيين منفصلين، بل علاقة عناصر المكون الواحد فيما بينها، وبالتالي انتماء لبنان للعروبة ليس انتماء باللصق، بل انتماء بالوجود، وأنه لا يجوز بعد هذا الوضوح، أن تبقى مسألة انتماء لبنان إلى عروبته، موضع خلاف، لانها باتت من المسلمات الوطنية والقومية، ولا يجوز استحضارها في الخلافات والصراعات السياسية.

 

أما عن السيادة الوطنية، فهي سيادة القانون الناظم للحياة العامة، وسيادة الدولة التي تمارس سلطتها تحت سقف القانون، وكل ما عدا ذلك إنما يندرج في سياق السجال السياسي.

الإشكالية الثانية: هل التعددية الطائفية تساعد على بناء وطن بمفهوم المواطنة الكاملة؟

ان الحزب يرى أن لبنان يمتاز بتركيبة بنيوية خاصة تقوم على التعددية الدينية والمذهبية الإيمانية لمواطنيه.

 

هذا التعدد في الانتماءات الدينية والمذهبية، بدل أن يكون مصدر غنى فكري وسياسي، تحول إلى أزمة بنيوية نظراً لإسقاط المكون السياسي على المكونات الطائفية، وهذا ما أنتج نظاماً سياسياً هو نظام الطائفية السياسية، بحيث أدى هذا الإسقاط إلى جعل المكونات الطائفية مكونات ذات كيانية سياسية، وجعلت لبنان الدولة الواحدة، دولة يقوم نظامها على فيدرالية طائفية، وأنه في ظل هذا النظام القائم على المحاصصة الطائفية، في السياسة، والأمن، والاقتصاد، والإدارة، أسقط مبدأ المساواة في المواطنة، والتي تعتبر ركيزة من ركائز الدولة ذات النظام الديموقراطي، وأصبح اللبنانيون المحكومون بمبدأ المساواة في إطار المكون الطائفي، محرمين من هذه الميزة في إطار المكون الوطني الواحد. وعليه يرى الحزب أنه لا يمكن قيام كيان وطني متماسك في ظل هذه التعددية الطائفية، التي تحولت إلى كيانية سياسية في إطار تقاسم السلطة، وكيانية تربوية في ظل قيام مؤسسات تربوية ملتحقة بالمرجعيات الطائفية، بحيث لم يتم حتى اللحظة كتابة تاريخ موحد للبنان.

 

إن انعدام مبدأ المساواة الفعلية القائمة على أساس المساواة في المواطنة، حوّل مفهوم الديموقراطية كناظم للحياة السياسية، إلى مسمى شكلي، وجعل الممارسة السياسية التي كرّسها نظام الطائفية السياسية بالنص والعرف، هي القاعدة لضبط الايقاع السياسي، وهذا ما أدى إلى إصرار المرجعيات السياسية ذات التركيب البنيوي الطائفي، على اعتبار حق الطوائف بممارسة حق النقض السياسي على التركيب السلطوي، إنما يتلاءم مع النص الدستوري استناداً إلى الفقرة "ي" من الدستور، وهذا ما أدى إلى ابتداع مقولة سياسية جديدة أطلق عليها الديمقراطية التوافقية.

 

إن الحزب يرى أن مفهوم الديموقراطية التوافقية، التي أدرجت مؤخراً في التداول السياسي، هي الاستبطان لمبدأ حق الطوائف في ممارسة النقض السياسي. وهذا بطبيعة الحال يسقط مفهوم الديموقراطية بمدلولها الدستوري ولهذا فإن الحزب يعتبر ذلك بدعة سياسية، لا تستقيم أصلاً، والممارسة الديموقراطية التي تقوم على أساس تداول السلطة وقبول الأقلية لحكم الأكثرية، التي يفترض أن تكون منبثقة من عملية سياسية محكومة بآليات ديموقراطية، وعليه فإن الحزب يرفض أن تكون الديموقراطية التوافقية هي الناظم للحياة السياسية،لانها تناقض مبدأ دستوريا من جهة وتشكل تكريساً لنظام الفيدرالية الطائفية من جهة ثانية.

 

وحول الإشكالية والتساؤل حول المقاييس التي تكسب المعارضة شرعية سياسية، فإن الحزب يرى أن وجود معارضة هو من صلب النظام الديموقراطي، لكن هذه المعارضة كي تحوز صفة المعارضة السياسية الوطنية، يجب أن تكون قواها محكومة بأدائها السياسي بمبدأ أن لا تكون من الطينة نفسها للقوة الحاكمة ممارسة سياسية، وخلفية فكرية، لأن القوى السياسية ذات التركيب البنيوي الطائفي وأن تمايزت أو تنوعت في انتمائها الديني، والطائفي، أو المذهبي، تبقى محكومة بنفس قواعد اللعبة، وهؤلاء جميعاً ركاب قاطرة واحدة، يتناوبون قيادتها ومواقع الجلوس فيها، ولذلك فإنه من الخطأ بمكان تصنيف القوى المتمسّكة بمفاصل السلطة في لبنان بأنها قوى موالاة أو معارضة، كونها كلها قوى موالية لهذا النظام السياسي القائم على الطائفية السياسية.

 

وعلى هذا الأساس، فإن المعارضة السياسية، والتي تكتسب صفة الشرعية الوطنية اسما وبرنامجاً، هي التي تحمل قواها، مشروعاً سياسيا وطنياً متكاملاً لإدارة شؤون حكم البلاد، ويكون نقيضاً للمشروع السياسي الطائفي الذي تتناوب القوى السياسية ذات التركيب النبوي الطائفي على حمله.

 

إن المشروع الوطني النقيض للمشروع الطائفي، هو الذي تديره قوىً، بوسائل التعبير الديموقراطي، في إطار أحكام الدستور وعبر وسائط الحراك الشعبي ومنه ينطلق الحزب ليحدد العناوين العامة لبرنامجه السياسي والذي اندرج تحت عنوان أي نظام سياسي نريده ونعمل لتحقيقه.

 

أما حول موقف الحزب من الرؤية التي يجب أن تحكم الوجود الفلسطيني في لبنان والعلاقة مع سوريا وعنواني المحكمة والسلاح فإن الحزب يرى ما يلي:

 

1- حول ما يعتبره الحزب رؤية وطنية لعنواني السلاح والمحكمة.

إن الحزب ولدى مقاربته لهذا الموضوع يرى أن هذه القضية، لم تقارب بموضوعية وذلك من خلال تأكيد الطرفين الأساسيين اللذين يشكلان القاطرة السياسية لتكتلي 14 و8 آذار، بأن السلاح مقدّس، لا يجوز مقاربته والمس بهِ، والمحكمة منزهة وفوق اي التباس أو شبهة، وبتقدير الحزب أن إعطاء السلاح صفة القداسة، وإعطاء المحكمة صفة النزاهة المطلقة، تعني أن كلا الطرفين لا يريدان النقاش فيهما.

 

فمن يعتبر أن السلاح مقدس، فهو بنظره بمثابة المنزّل، ومن يعتبر المحكمة منزّهة بالمطلق فهو يضعها فوق الشبهة وهنا الغلط في نمطية التعامل مع هذين العنوانين بهذه الصيغة ومصدر الإشكالية في التعاطي السياسي مع هذين الملفين.

 

مما لا شك فيه، أن السلاح لعب دوراً في مقاومة العدو، إبان احتلاله الواسع لأراضي لبنان، وعبر التصدي للعدوان والذي بلغ ذروته عام/2006، وأن هذا السلاح الذي أدى وظيفة وطنية لا غبار عليها، تحوزه قوة سياسية واحدة لا تتوفر لها ميزة التمثيل الوطني الشامل بحكم مرجعيتها الفقهية، وبنيتها التنظيمية، والانتماء المذهبي لأعضائها، فضلاً عن علاقات تحالفية تربطها مع مواقع عربية ودولية.

 

وبذلك بدا من خلال هذه العلاقة، أن لهذا السلاح وظيفة تتجاوز وظيفة التصدي للعدو الصهيوني، وأنه يمكن أن يكون عنصر خلل في معادلة الوضع الداخلي إذا ما استعمل فائض القوة لهذا السلاح، في كسر التوازنات الداخلية، إضافة إلى إمكانية تحريكه لمعطيات ترتبط بالوضعين الإقليمي والعربي.

 

ولما ثبت أنه في ذروة التأزم السياسي استعمل هذا السلاح في الداخل، وكاد يؤدي إلى نتائج كارثية، زاد الضغط السياسي عليه وفي المقابل ازداد التمسك به، وعدم القبول أو النقاش حوله خارج رؤية الحزب الذي يمتلكه. أي أن حزب الله عندما قبل النقاش حول هذه المسألة، فقد قبلها على قاعدة تثبيت وجهة نظره، وتحت عنوان الاستراتيجية الدفاعية، التي قدّمها على طاولة الحوار.

 

إن موقفنا من هنا يتحدد بالآتي:

إنه لا يوجد في السياسة شيء يرتقي إلى مستوى القدسية، وطالما أن السلاح يؤدي وظيفة سياسية، فإنه موضوع قابل للنقاش لتحديد أفضل السبل لإدارته وتوظيفه.

وطالما أن كثيرين يرون أن هذا السلاح يلعب دوراً في تعديل ميزان القوى الداخلية، ويمنح الحائز عليه ميزة التحكم بالقرار السياسي، فإن هذا يكون موضوع إشكالية وبالتالي مادة سجالية وعليه لا يجوز اعتبار مقاربة النقاش لهذا السلاح، تطاولاً على أمر مقدس.

 

وطالما أن هذا السلاح موجود كقوة أمر واقع، وطالما أن العدو الصهيوني ما يزال يحتل بعضا من الاراضي اللبنانية ويقوم باعمال عدوانية يومية من خلال انتهاكه للأجواء اللبنانية، والتوثب للانقضاض مجدداً على لبنان، الذي ليس حيادياً في الصراع مع العدو الصهيوني فإن هذا السلاح ما يزال ضرورة وطنية لكن شرط أن لا يبقى عنصر تأزيم داخلي، ولهذا فإن الحزب يقدّم المقاربة الموضوعية لهذه القضية وتكون على الشكل التالي:

 

1- الزام والتزام سياسي وأدبي، من القوة التي تحوز هذا السلاح، أن لا يؤدي وظيفة سياسية في الداخل لأن وجهته الأساسية يجب أن تكون العدو الصهيوني فقط.

2- سحب هذه القضية من التداول السياسي، عبر وضع هذا السلاح تحت الأمرة السياسية لمجلس الدفاع الأعلى، وهي القيادة التي تدير شؤون الحرب إذا ما نشبت، وبحيث لا يتحرك هذا السلاح إلا بآمرة هذا المجلس ويعود لهذا المجلس تحديد تحديد آلية الاستيعاب التدريجي لهذا البسلاح في اطار المؤسسات الشرعية.

 

أما موضوع المحكمة، فإن الأمر لم يقارب بموضوعية، لأن بعضاً يعتبرها فوق الشبهة، والبعض الآخر يرفضها ويرفض التعامل معها.

واللاموضوعية التي انطلقت من الرفض المطلق للسلاح، والرفض المطلق للمحكمة، أضافت عناصر تأزيم جديدة على المعطى اللبناني بكل تشابك وتداخل علاقاته.

وإذا كان حل موضوع السلاح لم يعد شأناً لبنانياً وحسب، فإن المحكمة أيضاً لم تعد شأناً لبنانياً، لأنها ارتبطت بظروف إنشائها وتشكلها بقرار مجلس الأمن الدولي 1757.

إن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي جريمة سياسية بامتياز لكن هناك فرق أن تكون جريمة سياسية بطبيعتها، وجريمة تكون المحاكمة فيها سياسية.

إن هذه المحكمة التي أصبحت مادة خلافية، ستدفع أطراف عدة دولية وداخلية للتعامل معها، كورقة ضغط تسعى للاستفادة منها إن وجدت مصلحة لها في ذلك.

 

إن الحزب يرى أن هذه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أصبحت واقعاً، رغم ما يشكله ذلك من مساس بالسيادة الوطنية باعتباره شكلاً من أشكال التدويل القضائي، للجرائم المرتكبه على أرض لبنان.

وعليه انّ المقاربة الموضوعية للمسألة، تقوم على أساس تشكيل لجنة قانونية لبنانية تتصف بالحيادية، يناط بها تلقي القرار الدولي الصادر عن المحكمة الدولية، أو غيره من القرارات اللاحقة، وتقوم بدارسته بمهنية بعيدة عن القراءة السياسية، وتعتبر بمثابة هيئة تحكيم تلزم قراراتها كل القوى المعينة بهذا الملف.

 

إن في لبنان رجال قانون على درجة عالية من الكفاءة، والمهنية، وبالإمكان الركون إليهم لإعطاء الرأى القانوني، في قضية قانونية يتم التعاطي معها على أرضية المواقف السياسية وليس على أرضية المعطيات القانونية. إن ذلك يشكل مخرجاً وحلاً ويضع كل معني بالأمر أمام مسؤولياته، ويجنب البلاد مزيداً من التأزم السياسي ويجب أن يكون هذا الحل مترافقاً مع موضوع السلاح وفق الآلية التي جرت الإشارة إليها.

 

اما حول الرؤية للتعامل مع الوجود الفلسطيني، فإن الحزب يرى أن يكون هذا الوجود تحت أمرة مرجعية وطنية فلسطينية واحدة، وأن فتح سفارة فلسطين في لبنان تساعد على حل العديد من المشاكل، التي يعاني منها الفلسطينيون في لبنان مع توفر الإجماع اللبناني على رفض التوطين وتمسك الفلسطينيين بحق العودة باعتباره من الحقوق غير القابلة للتصرف.

 

إن الحزب يؤكد على وجوب تمكن الجماهير الفلسطينية المتواجدة في لبنان، من الاستفادة من سلّة متكاملة من الحقوق المدنية، كحق العمل السياسي في نطاق المخيمات وفي مديات الانتشار الفلسطيني، وحق العمل وحق التملك أسوة بالعرب والأجانب وتمكينهم من تشكيل نقاباتهم المهنية والسماح لهذه النقابات ممارسة نشاطاتها وفق أحكام القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، أما لجهة السلاح الفلسطيني، فإنه لا يوجد ما يبرره خارج المخيمات وفي داخل المخيمات يجب أن يكون تحت الأمرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما أنه يجب الإسراع بإعادة إعمار مخيم نهر البارد، وتمكين الذين نزحوا من العودة إليه.

أما حول العلاقة مع سوريا، فإن الحزب يرى أن هذه العلاقة، يجب أن تكون مميزة وإيجابية بحكم الرابطة القومية الواحدة والتاريخ والتواصل الاجتماعي بين البلدين. لكن هذه العلاقة يجب أن تكون بعيدة عن منطق التبعية، والالتحاق أو الوصاية، وأن تقوم هذه العلاقة على قواعد المصالح الوطنية والقومية المشتركة، وبهذا يجب على القطرين العمل معاً، لإرساء قواعد لمواجهة الفرز الطائفي والمذهبي والإثني، ودعم الأهداف الوطنية والقومية. وعليه يجب رفض منطق السيادة المتسلح بموقف الحياد في قضايا الصراع مع العدو الصهيوني، كما في مواقف بعض الفئات كما يجب التعاطي بين البلدين خارج الثنائية الفئوية بين القوى والأحزاب مع المرجعيات السورية. وأن الحزب يطالب المرجعيات في كل البلدين باعتماد المعايير التي تؤدي إلى تفعيل الثقة المتبادلة عبر رفض شعارات العداء لسوريا من جهة ورفض الإملاءات على لبنان من جهة أخرى وذلك لا يتحقق إلا عبر الحوار الصادق والهادف وكان أفضل لو تم خروج القوات السورية بالتفاهم بين لبنان وسوريا تجنباً لارتفاع نشوب التوتر السياسي وحتى لا يصور بأن هذا الخروج كان بسبب الضغط الدولي وتنفيذ القرار 1559.

 

أما حول التساؤل الخامس، وهو أي نظام سياسي هو الأمثل للبنان فإن الحزب الذي طرح في وقت سابق برنامجاً متكاملاً لإحداث إصلاح جدي في بنى النظام اللبناني يتلاءم والطموح والحاجات الشعبية والتي سبق أن عبّر عنه منفرداً أو في إطارات العمل الوطني وخاصة برنامج الإصلاح السياسي للحركة الوطنية، يعود ويؤكد بأن المفاصل الاساسية لبرنامجه الإصلاحي للنظام السياسي تندرج تحت العناوين التالية:

 

في البعد الوطني

التأكيد على التمسك بما ورد في مقدمة الدستور اللبناني، لجهة هوية لبنان القومية، ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته، وسيادة دولة القانون على كافة أراضيه وحماية الحقوق الأساسية، كحق العمل، والتنقل، والتعبير، واحترام الحريات العامة، وحقوق الإنسان التي كفلها الدستور، ودور فاعل للبنان في قضايا النضال العربي واحترام المواثيق الدولية، التي سبق ان التزم بها لبنان ولا تتعارض وأحكام السيادة الوطنية.

 

في البعد السياسي:

1- أن يكون نظامه جمهورياً برلمانياً، يقوم على أساس الفصل بين السلطات، وأن تكون الديموقراطية ناظمة لحياته السياسية.

2- أن يكون هذا النظام غير محكوم بقواعد التوزيع الطائفي لمواقع السلطة فيه وأيضاً الإدارة وكل ما له علاقة بإدارة الشأن العام.

3- أن يكون اللبنانيون متساوين أمام القانون في الواجبات والحقوق.

 

إن هذه المسلمات والمبادئ الثلاثة، تتطلب إسقاط نظام المحاصصة الطائفية، والمدخل إلى ذلك بنظر الحزب يكون عبر الآليات الاتية.

 

أ- إصدار قانون انتخابي جديد، يلغي القيد الطائفي عن العملية الانتخابية ترشحاً وانتخاباً.

 

ب- جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة وعلى أساس النسبية لاحتساب الأصوات، واعتماد مبدأ الترشح على أساس الكيانات الحزبية. واستتباعاً يرى الحزب ضرورة منع إعطاء تراخيص لجمعيات سياسية تمارس عملها على أساس طائفي أو ديني أو مذهبي.

 

وتعطى الجمعيات التي تمارس العمل السياسي على اساس طائفي، فرصة لتصحيح أوضاعها لجهة إعادة النظر بمواثيقها وبناها التنظيمية، وإلا تسحب تراخيصها.

ج- سن قانون اختياري للأحوال الشخصية والغاء المحاكم الروحية والشرعية والمذهبية، وحصر البت بقضايا الأحوال الشخصية بالقضاء المدني، الذي يفصل بها وفق ما تنص عليه أحكام الأديان والمذاهب بالنسبة لهذه القضايا.

 

وكخطوة تندرج في إطار احتواء ما تراكم من سلبيات، من جراء الممارسة السياسية القائمة على أساس الطائفية السياسية، وللانتقال إلى مجتمع مدني بهدوء، يشكل مجلس للشيوخ تمثل فيها الطوائف، وفق النسب المعمول بها حالياً في نصاب المجلس النيابي، الذي يتولى التشريع في القضايا العادية ويكون لمجلس الشيوخ دور في :

 

1- مناقشة الميزانية العامة والتصويت عليها.

2- انتخاب رئيس الجمهورية بالأكثرية الموصوفة للمجلسين.

3- إعلان حالة الحرب والسلم.

4- تعديل الدستور وفق نصاب الأكثرية الموصوفة في الدستور.

 

هذا فيما يتعلق بالأسس التي يجب أن يقوم عليها النظام السياسي أما في الجانب المتعلق بأداء الحكم وأجهزة الدولة فالحزب يرى أن إقامة المجتمع المدني القائم، على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص توجب:

 

إدارياً:

إعادة الاعتبار لدور المؤسسات الرقابية، عبر تفعيل هذا الدور مراقبة ومسآلة، ولهذا يجب أن تكون هذه المؤسسات بعيدة عن وسائل الضغط السياسي، كي تكون قادرة على وضع مبدأ الشفافية موضع التطبيق والتنفيذ العملي وللحد من استشراء ظاهرة الفساد والإفساد المالي والإداري.

 

اقتصادياً:

اعتبار مبدأ الاقتصاد الحر اقتصادا غير متفلّت من ضوابط وقيود وإجراءات لا بد منها وهي:

 

أ- تدخل الدولة في حماية الأمن الاقتصادي من خلال ضبط الأسعار عبر قمع المضاربات والحد من الاحتكارات، وهذا يتطلب حماية السلة الغذائية للمواطن التي باتت تستنزف الحيز الأكبر من دخله.

ب- حماية الصناعة والزراعة من المنافسة الخارجية، وتطبيق مبدأ التعامل بالمثل مع الدول الموردة للبنان، وتوفير الدعم للزراعة والصناعة الوطنية إنتاجاً وتسويقاً، وترشيد استغلال الموارد المائية عبر إقامة السدود والبحيرات الاصطناعية.

 

ج- الإسراع بوضع المراسيم التطبيقية لقانون النفط موضع التنفيذ، نظراً للدور الذي يلعبه في توفير ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، بما يساعد على حل مشكلة أزمة الدين العام والذي ينعكس إيجاباً على مستوى دخل المواطنين وبالتالي تعزيز قدرتهم على تلبية حاجاتهم الأساسية من خلال قدرة الدول على التدخل في حماية الخدمات الأساسية.

 

صحياً واجتماعياً:

أ- تعميم نظام البطاقة الصحية وتفعيل نظام ضمان الشيخوخة وتوفير نظام استشفائي عام، يمكّن الشريحة العريضة من المواطنين الاستفادة من الاستشفاء العام.

ب-تفعيل دور المجلس الاقتصادي – الاجتماعي، الذي بدل أن يكون له دور ملموس في التخطيط والمتابعة لمنظومة العمل الصحي والاجتماعي، تحوّل إلى مؤسسة مشلولة، وأصبحت عبئاً مالياً على الخزينة.

 

تربوياً:

أ-إيلاء أهمية لقطاع التعليم الرسمي بكل مراحله، والحد من تفريخ الجامعات والمعاهد الجامعية، التي أصبحت أشبه بالمؤسسات التجارية، التي تمارس التجارة لكن في حقل التعليم. ثم إن إبعاد الجامعة اللبنانية عن التجاذبات السياسية يبقيها صرحاً علمياً وطنياً قادراً على المنافسة، وعلى ضخ أفضل الكوادر البشرية إلى سوق العمل.

 

ب-فرض الكتاب المدرسي الموحد،على كافة مؤسسات التعليم الأساسي والثانوي الخاص والعام، ووضع ضوابط تمنع مؤسسات التعليم الخاصة، من رفع الأقساط المدرسية بشكل غير منطقي وغير معقول.

ج-الإسراع في أنجاز كتاب التاريخ الموحد، حتى لا يبقى كل فريق يقدم تاريخ لبنان استناداً إلى وجهة نظره السياسية.

 

إن الحزب وهو يحدد رؤيته ضمن إطار وطني عام لما يعتبره مدخلاً لإقامة نظام سياسي وطني، تسود فيه قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وعلى قاعدة برنامج شامل يتناول جميع جوانب الحياة العامة، يرى أن تحقيق ونجاح برنامج الإصلاح السياسي بإبعاده ومضامينه الوطنية، لا يمكن تحقيقه إلا بوجود قوى وطنية تكون قادرة على حمل لواء هذا البرنامج السياسي وتأطير أوسع اصطفاف سياسي وشعبي حوله لوضعه موضع الإقرار والتطبيق العملي.

 

ولهذا فإن الحزب سيبقى يولي أهمية، لفتح أوسع حوار سياسي، لصياغة برنامج وطني ينقل لبنان من حالة المحاصصة الطائفية إلى الحالة الوطنية الجامعة والشاملة. وأنه لأجل هذه الغاية فإن الحزب يؤكد على وجوب أن تنتقل القوى السياسية الوطنية والديموقراطية من حال الاعتراض بالموقف إلى حال الفعل عبر تشكيل إطار عمل وطني تجتمع فيه كافة القوى التي تتقاطع مع الحزب في رؤيته لإقامة نظام وطني ديموقراطي.

 

والحزب الذي يرى أن الحركة الوطنية اللبنانية التي استطاعت أن تصوغ برنامجاً سياسياً واحداً في غمرة أحداث ما عرف بحرب السنتين، مدعوة بكل أطرافها لاستحضار تلك التجربة، التي استطاعت من خلالها أن تؤكد حضورها السياسي، وتطرح رؤية موحدة للإصلاح الشامل، وإذا كانت ظروف تلك المرحلة تختلف عن ظروف هذه المرحلة، حيث يشتد حالياً الإطباق المذهبي والطائفي على الحياة السياسية، فإن المشهد ليس سوداوياً كما يصوره البعض، كونه يحمل في طياته معطيات ايجابية تتمثل بظاهرتين.

 

الظاهرة الأولى: المأزق السياسي للقوى التي شكلت وتشكل قيادة للقاطرة السياسية التي يتناوب أصحابها على إدارة الحياة السياسية.

الظاهرة الثانية: تنامي حجم التذمر الشعبي من سياسة الإطباق، التي مارستها القوى الطائفية القاطرة للحياة السياسية، وكانت مؤشرات هذا التذمر باتساع دائرة المؤيدين والمتبنين لشعار إسقاط النظام الطائفي. وأن الحزب الذي يرى في المحاولات التي بدأت وأسفرت حتى الآن عن بلورة صيغ أولية لإطارات عمل وطني، تحت شعار الحركة الوطنية للتغيير الديموقراطي، يؤكد على وجوب توسيع هذه الدائرة لتضم أوسع اصطفاف سياسي، يكون قادراً على تكوين حالة استقطابية، لمواجهة حالات الاستقطاب الطائفي والمذهبي، أياً كانت الشعارات السياسية التي تتستّر وراءها، وأنه ضمن هذا السياق سيبقى الحزب داعياً مستمراً لتنشيط العمل الوطني ومنخرطاً في تفعيل الحركة الشعبية والشبابية التي انطلقت تحت شعار إسقاط النظام الطائفي، وإن استعادة الحركة الوطنية لدورها السياسي على مستوى البرنامج الموحد، وأطر العمل المشتركة يؤدي وظيفتين في آن واحد:

 

الوظيفة الأولى : وضع حدأ للتشرذم السياسي في مجال العمل الوطني.

الوظيفة الثانية: تشكيل حاضنة للنضال الوطني ورافعة للحركة النقابية، التي لا يمكن أن تستعيد حضورها وفعاليتها إلا بحضور وفعالية دور وطني يطرح قضايا الجماهير المطلبية، بدءاً من رفع الحد الأدنى للأجور إلى توفير فرص العمل وقضايا السكن والنقل المشترك، وقانون عادل للإيجارات.

 

لاجل ذلك، يرى الحزب ضرورة الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني، يجمع القوى السياسية والوطنية والفعاليات، والنقابات والقطاعات المهنية، والمؤسسات الأهلية، والفكرية الوطنية المفترقة عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية، والانطلاق لتأطير حركة شعبية معارضة تكون قادرة على أحداث تحول في موازين القوى الداخلية.

 

إن لبنان قد اختبر ما فيه الكفاية عقم الاعتماد على معطى النظام الطائفي في ادارة الحياة المدنية، فلا الحكومات التي سميت فئوية، ولا الحكومة التي سميت حكومات اتحاد وطني، استطاعت العبور بالبلد نحو الدولة الحقيقة، والدليل على ذلك، أن المطالب الشعبية أصبحت أكثر إلحاحاً والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ازدادت سوءاً. والخلاف بقي الثابت الدائم حول تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية، وحول الاستراتيجية الدفاعية وعلاقة المقاومة بالدولة وقانون الانتخاب والتجنيس والتوطين والحقوق المدنية للوجود الفلسطيني والعلاقة مع سوريا وعنواني السلاح والمحكمة. وأنه في ظل هذه الطبقة السياسية التي تتبادل المواقع والأدوار لا يمكن المراهنة عليها لاحداث الإصلاح في بنية النظام، لأن إسقاط النظام يشكل إسقاط لهذه القوى، فهل يقدم أحد إسقاط أو إلغاء نفسه؟

 

هنا تكمن أهمية بروز قوى التغيير الوطني لأن تتقدم لتأخذ مواقعها والعمل لتأمين أوسع اصطفاف سياسي وشعبي حول برنامجها الوطني والمطلبي والذي جرت الإشارة إليه، لأنه بدون بلورة كتلة شعبية وازنة تكون قادرة على حمل برنامج التغيير الديموقراطي على كاهلها، عبثاً القول بإمكانية اختراق بنى هذا النظام، وإحداث التحول الإيجابي لمصلحة الشريحة الأوسع من الشعب. ولهذا فإن الحزب لا يرى خياراً بديلاً عن ذلك، لأن الخيار الوطني الوحيد المتاح أمام الشعب لتحصيل حقوقه وتوفير مستلزمات حياة حرة وكريمة،وسوف يبقى الحزب يناضل لتحقيق هذا البرنامج الوطني لأجل الانتقال من لبنان المحكوم بنظام المحاصصة الطائفية إلى لبنان الوطني الديموقراطي.

 

ان الحزب الذي يطرح برنامجه السياسي، لاحداث تغيير نوعي في بنية النظام السياسي في لبنان، سوف يبقى يناضل لتحقيق الاهداف القومية الكبرى، في الوحدة والحرية والتقدم الاجتماعي لقناعة ثابتة، بان النضال الوحدوي هو أحد مبررات وجود الحزب، والنضال الديمقراطي هو ركيزة العمل السياسي لتحقيق أهدافه المرحلية والنهائية، والتقدم الاجتماعي لاقامة نظام العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص هو المضمون الاجتماعي والاقتصادي لبرنامجه السياسي، وانه اذ يؤكد مجددا على العلاقة الجدلية بين اهداف الوحدة والحرية والاشتراكية فانه سيبقى يعتبر أن النضال الوحدوي بمضامينه الديمقراطية يحتل ارجحية معنوية بالقياس للأهداف الاخرى.

 

القسم الثاني

الانتفاضات العربية ذات الطابع الثوري

 

اولا :المقدمة والثوابت

إن ولادة البعث من صلب الأمة ومخاضها العسير ضد الجهل والتخلف والاستعمار ومعاناتها القاسية في مقاومة كل أشكال التخلف والتبعية، جعله على الدوام يجيد تحديد اتجاه بوصلة الأحداث على الأرض العربية من المحيط إلى الخليج بدقة، إنه ليس حزباً مراقباً يرى الأشياء من خارجها، وإنما كان البعث ولا يزال المعبر الحقيقي عن فكر الأمة العربية وروحها وحركة أعماقها الحضارية وأحداثها التاريخية، وكان في الطليعة دائماً وفى قلب الحدث فكراً وسلوكاً واستشرافاً للمستقبل المتولد من طاقات الأمة التي كادت تختفي على المراقب العادي بسبب طول سنوات التآمر والتغريب ومحاولات الحذف والتشويه التي لم تهدأ يوماً واحداً على البعث الذي هو بحق سراج الأمة لمستقبلها في هذا الظلام الطاغي، وما يحدث اليوم في الوطن العربي من ثورات وانتفاضات، كان لرؤية الحزب واستشرافه لقدرة الأمة على استعادة فعلها الحضاري في التحرر والعطاء الفكري وتجاوز الخلل. منذ بدايات البعث كان يدرك إمكانيات الأمة على اختراق ما يعيق نهضتها، ففي مقال للقائد المؤسس ميشال عفلق سنة 1953، وكأن المقال مكتوب اليوم ما يلي: "الآن تنطوي صفحة الضعفاء من تاريخ نهضتنا العربية وصفحة جديدة تبدأ، تنطوي صفحة الضعفاء الذين يقابلون مصائب الوطن بالبكاء، وصفحة النفعيين الذين ملؤا جيوبهم ثم قالوا (لا داعي للعجلة، كل شيء يتم بالتطور البطيء) وصفحة الجبناء الذين يعترفون بفساد المجتمع إذا ما خلوا لأنفسهم حتى إذا خرجوا إلى الطريق كانوا أول من يطأطئ رأسه لهذه المفاسد... وتبدأ صفحة جديدة، صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعاً، ويسيرون في الحياة عراة النفوس. هؤلاء هم الذين يفتتحون عهد البطولة.

 

عهد البطولة وأكاد أقول عهد الطفولة لأن النشء الذي يتأهب اليوم لدخول هذه المعركة،له صدق الأطفال وصراحتهم، فهو لا يفهم ما يسمونه سياسة، ولا يصدق أن الحق يحتاج إلى براقع والقضية العادلة إلى تكتم وجَمْجَمة.... لا يقودون في الصباح مظاهرة ويأكلون في المساء على مائدة الظالمين...... لسنا نصبو إلى الحرية لنعيش في الفوضى، أو نرجع إلى ظلام القرون الوسطى. إننا نطلب الاستقلال والحرية لأنهما حق وعدل قبل كل شيء، ولأنهما وسيلة لإطلاق مواهبنا العالية وقوانا المبدعة..... وكيما نحقق على هذه البقع من الأرض الإنسانية الكاملة".

 

هذا هو البعث بروحه وفكره، في قلب الانتفاضات الثورية، التي تعصف اليوم بكل ما هو غير ملائم لمسيرة النهضة الحضارية القومية الإنسانية التي كوّنت منطلقات حزب البعث العربي الاشتراكي.

ولا بد من التأكيد على نقطة هامة، وهى أن المقاومة العراقية كانت من الأسباب القوية المُلهِمة للمنتفضين العرب، الذين كسروا جدار الخوف والتردد وراحوا يثورون على القيود والظلم والفساد والعمالة، بهذا المعنى كان فكر البعث يترجَمُ عملياً على أرض العراق، لقد كان معظم العرب يعتقدون أن قوة أمريكا لا رادع لها، وأنها حين احتلت العراق فإن كل مقاومة ستنهار، وقد أثبت فكر البعث في العراق والذي تُرجم فعلاً ثورياً أن أمريكا ومشاريعها ليست قدراً مقدوراً على الشعوب التي تنطلق للدفاع عن حقوقها بدماء أبنائها وتضحياتهم.

 

وان الجماهير العربية التي تظاهرت ضد العدوان على العراق ومشاركة غالبية الانظمة العربية في هذا العدوان "الاول والثاني" ومن ثم الاشتراك في الحصار، والتظاهرات التي عمت المدن العربية ضد العدوان الصهيوني على لبنان 2006 وغزّة 2008 عادت ووجدت نفسها في انتفاضاتها، وهي بما تتطرحه وما ترفعه من شعارات إنما تعبر عن مكنون موقفها من كل أشكال العدوان والتحديات التي تواجه الامن القومي العربي، وهي بالتالي تثأر لنفسها من التحاق هذه الانظمة بالإمبريالية الامريكية والتي لم تقم اي اعتبار لموقف الجماهير الرافض لسياسة الالتحاق والتبعية.

 

ثانيا : الانتفاضات العربية / الآفاق والأبعاد

إن حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي يحدد موقفه من هذه الانتفاضات الثورية بالمبادئ الأساسية الآتية :

 

1- الأنظمة العربية القائمة غير معنية بالتقدم لأنها أنظمة فاسدة إداريا وسياسيا وثقافيا، ويجب العمل على تغييرها.

2- نحن مع كل حراك شعبي يهدف إلى الإصلاح الجذري والتغيير الشامل.

3- أي حراك شعبي يجب ألاّ يهدد وحدة البلد الذي يكون فيه الحراك.

4- عدم انزلاق أي تحرك شعبي نحو الطائفية والمذهبية والإثنية.

5- رفض أي تدخل خارجي تحت أي مسمّى.

6- ما هو البديل؟

 

وسلفاً نقول: إن أية انتفاضة ثورية تنطلق من القضايا الإنسانية المحقة، ويكون الشعب أساسها وأداتها لا بد وأن تفرز بديلاً صحيحاً، فإذا كانت الانتفاضات الثورية القائمة في الوطن العربي شعبية، وضد الظلم والجوع وقمع الحريات والدولة الأمنية وتأبيد السلطة وتوريثها فهي بلا شك ستفرز بديلاً ثورياً صحيحاً من الناحية المبدئية، فالشعب أداة الثورة، وأهدافه القضاء على الفساد والظلم والطغيان والجوع والقهر وتأبيد السلطة وتوريثها، هذا هو منطق التاريخ، ولكن الثورة لتكتمل ستمر بقطوعات ومصاعب وتآمر عليها، وسيحاول كثيرون سرقتها أو حرفها عن أهدافها الإنسانية العميقة، ولذلك فالثورة تكون باكتمال تحقيق أهدافها التي انطلقت منها.

 

صراع الأضداد:

لقد كانت الانتفاضات العربية أشبه بالإعصار في قدرتها على اقتلاع جذور أنظمة فاسدة وظالمة وعميلة، وكنا نظن أن عمر هذه الأنظمة كعمر الأموات طويل، فإذا بالشعب العربي يصحح مفاهيمنا جميعاً حين أراد الحياة فاستجاب له القدر، وكانت البداية من تونس الخضراء التي جعلها اللهب المحيط بجسم "محمد بو عزيزي" خضراء حقاً، واندلع اللهب المقدس في مصر الكنانة، وأنصت التاريخ جيداً للصوت العربي الشعبي الهادر: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وبذلك أصدر الشعب حكمه ولم يتراجع عنه، لأن حكم الشعب كان نتيجة معاناة مزمنة، وهذه المعاناة هي التي جعلت قهر الشعوب ينقض ليهدم جدار الرعب. فمواجهة آلة القمع الجبارة التي تمتلكها أنظمة الحكم، والذي حدث على الساحة العربية منذ ثورة تونس لم يكن حدثاً سياسياً فقط، وإنما كان زلزالاً ثقافياً واجتماعياً بكل أبعاده التغييرية والسلوكية التي بدأ الوعي العربي الجديد يعبر عنها بروح جديدة. إنها "عودة الروح" لهذه الأمة حقاً. لقد كان الشعب المصري يستقبل رصاص السلطة الظالمة وبلطجيتها بصدور عارية إلا من الإيمان بحتمية انتصاره، وظل الشعب مصراً على إعطاء الطابع الحضاري لثورته، رغم كل وسائل القتل التي لجأت لها السلطات الجائرة،ولم تلجأ الثورة المصرية للعنف أبداً رغم محاولة الأجهزة الفاسدة جرها إلى السلوك الخطأ. لقد صعقت الإدارة الأمريكية من الثورة التي انفجرت في تونس، ومن بعدها في مصر وهي تشاهد قبضات أجيال الشباب المحتقنة والتي ورثت قهرها وغضبها جيلاً بعد جيل. لقد هدمت هذه القبضات المؤمنة بحريتها وكرامتها كل ما بنته أمريكا من وهم على ديمومة أنظمة تخاف من شعوبها أكثر مما تخاف من الموت وانتقل الخوف إلى كل ما تراه أمريكا ثابتاً لا يتحرك، إلى تلك الأنظمة الغارقة في ظلام القرون الوسطى وهي تعيش في القرن الواحد والعشرين، ولذلك لا بد للفعل الثوري العربي من أن يستمر في اندفاعه القوي، لأن المؤامرة ضده كبيرة ومذهلة، ونتوقع أن تواجهه أمريكا والغرب والصهيونية بكل احتياطها التآمري لتحافظ على أمن الصهاينة واستمرار تدفق ثروات بلادنا ونفطها في أجواف ناقلاتها، لتبيعنا مقابلها أسلحة لنقتتل خدمة لمشاريعها التقسيمية، فليدرك الجيل العربي الجديد أن المؤامرات الداخلية والخارجية لن تهدأ لأن انتصار الثورة دحرٌ لكل المؤامرات التي تحوكها.

 

رابعا :أسباب انفجار الانتفاضات

أ- بوليسية الأنظمة:

 

لقد أنشأت هذه الأنظمة أسيجة أمنية حولها تعتمد على القمع لتحميها، ومن أجل استمرارها راحت عبر أجهزتها القمعية تنشر الرعب والخوف بين الناس، فإذا ظهر معارض نكلت به هذه الأجهزة أبشع تنكيل لتلقي الرعب في قلوب الشعب، وقد وصل الرعب إلى درجة صار الأح يخاف أن يكون أخوه رقيباً عليه، ونتيجة لذلك قل التعاون بين الأطراف المعارضة، وصارت المسافة بين الشعب والأنظمة تمرُّ عبر جُدُر عالية من التسلط والدموية والظلم، وخضع كل شيء لحكم الأجهزة الأمنية البوليسية التي خلقت في الشعب ما يسمى "بالخنوع الجمعي" والذي يتولد في المجتمعات نتيجة حكم ظالم يطيل عمره بالسجون والمعتقلات والاغتيالات والتعذيب وكمِّ الأفواه وإلغاء الحريات. وذكر تقرير التنمية العربية للعام 2009 أن "التدابير التي تتخذ في كثير من دول المنطقة بحجة حماية الأمن القومي، كإعلان حالة الطوارئ تمهِّد لتعليق الحقوق الأساسية، وإعفاء الحكام من القيود الدستورية، ومنح أجهزة الأمن سلطات واسعة"، وانتقد التقرير استمرار إعلان الأحكام العرفية لفترات طويلة في بعض البلدان التي تحوّلت فيها الإجراءات المؤقتة أسلوباً دائماً لتوجيه الحياة السياسية وحين أدركت هذه الأنظمة المتسلطة أن الشعب بدأ يحس ما يلحق به من ظلم راحت تحاول إجراء بعض الإصلاحات الشكلية وبعض أشكال الديموقراطية المزيفة كما كان في مصر قبل ثورة الشباب المصري الخالدة، وقد ذكر الباحث التونسي "العربي صدِّيقي" أستاذ العلوم البريطانية في معهد كارنيجي لأبحاث السلام الدولي أن: "أنظمة الحكم المستبدة في الدول العربية اتقنت مهارات العلاقات العامة ومفردات الديموقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر، في حين احتفظت بكل الآليات الاستبدادية في صناعة القرار" وأضافت دراسته أن النزعة الاستبدادية في الأنظمة الجمهورية العربية وصلت إلى تحويل الدول إلى "وسيلة لتحقيق مصالح عائلية محددة وليست مصالح عامة" وصولاً إلى محاولة إقامة أسر حاكمة في أنظمة جمهورية إنها حقاً "طبائع الاستبداد".

 

ورغم الخنوع الشعبي الجمعي فإن القهر بدأ يتراكم في هذا الوجدان الجمعي المقهور، وبدأ يقترب من مرحلة الغليان، وكان تمادي الأنظمة وأجهزتها القمعية عنصراً مساعداً لبلوغ حالة الغليان وبدْءِ الثورات، وكان من أمثلته رفع أسعار مواد لا يستطيع الشعب تحمل نتائجها، أو حادثة اغتيال علنية تثير تقزز النفوس وتجعلها تخرج عن طورها، أو دفع شاب للانتحار كما حدث مع محمد محمد بو عزيزي في تونس، أو القمع العنيف لأي حالة احتجاج أو مظاهرة سلمية، أو تزوير نتائج انتخابات برلمانية كتلك التي قام بها الحزب الحاكم في مصر في الدورة الأخيرة، وهذا أدى إلى إفلاس بنوك القمع العربية، فقد ذكر أحد الباحثين أن أجهزة القمع أشبه ما تكون بالبنوك التي تظل فعالة ما دامت تحتفظ باحتياطي متوفر ومعتبر، وحين يهجم كل المودعين على البنك في نفس الوقت لسحب ودائعهم فإن البنك يتعرض للإفلاس الحتمي كذلك أنظمة القمع فهي تظل متماسكة حتى تواجه بهجوم شامل وتحرك جمعي وقتها تنهار وتتلاشى كبيت من التبن. وهذا الإفلاس لم يأت فجأة وإنما صمد عقوداً وصار واقعاً، لأنه بعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة بدأ الخوف الشعبي يخف تدريجياً عبر النشر الذي لا يمكن السيطرة عليه أبداً، والذي هو متاح في كل بيت لمن ألقى السمع وهو شهيد، وبدأ النظام العربي الرسمي يثير الاشمئزاز، وصار الناس يتندرون بحكامهم، وحين تضخم الخطأ والخطيئة حدث الانفجار. وحكمة التاريخ تؤكد وتحتم أن أي نظام لا يمكن أن يستمر بقوة القمع وحدها، وإنما تطيل عمره أوهام ضحاياه من الشعوب المظلومة التي كانت تعتقد أنها لا تملك القدرة على مواجهة نظام ثابت لا يحول ولا يزول، فإذا زالت هذه الأوهام صارت الطريق سالكة للتغيير الحتمي.

 

ب- تبعيّة معظم الأنظمة العربية:

لقد خدمت هذه الأنظمة العميلة أمريكا والعدو الصهيوني أكثر من الأمريكان والصهاينة أنفسهم، وإلا ماذا يمكن أن نسمي بيع المتر المكعب من الغاز المصري في عصر مبارك المخلوع للصهاينة بثلاثة دولارات في الوقت الذي كان الفقير المصري يشتريه بعشرة دولارات، وقد أشار دبلوماسي أمريكي إلى أن: "السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ترتكز على النظام المصري خلال الأربعين عاماً الماضية"، وهذا صحيح، فقد خططت أمريكا لسياستها الجديدة في الشرق الأوسط معتمدة على ديمومة النظام المصري بكل رموزه الفاسدة والملحقة بالسياسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة، واعتبرت نظام مبارك المخلوع حليفاً استراتيجياً لتنفيذ سياستها ورسم خارطة جديدة لـ "شرق أوسط جديد" وإبقاء مصر خارج دائرة الصراع العربي الصهيوني، وهذا أهم ما أرادته الدوائر الأمريكية والصهيونية من مصر. لقد كانت هذه الأنظمة العميلة القمعية تتوهم أنها محمية من الغرب الإمبريالي، وأنها ستهب لنجدتها إذا ضاقت بها السبل، وقد تبين بعد انفجار الغضب الشعبي في الشارع أنها واهمة لأن القوى الإمبريالية كانت تدعم هذه الأنظمة ليس حباً لها وإنما لأنها كانت تعتقد أن هذه الأنظمة قادرة على البقاء والخدمة. ولم تتعظ هذه الأنظمة بحقائق التاريخ البعيدة والقريبة التي بيّنت كيف تخلت القوى الكبرى عن عملائها عندما قرر الشعب إسقاطهم.

 

ج- الفساد:

لقد استباحت الأجهزة الأمنية والبطانة الفاسدة والمفسدة المحيطة برئيس النظام البلاد والعباد ونهبت حتى أتخمت وبَشِمتْ، ولم تكن عائلة الطرابلسي في تونس وبطانة الرئيس المصري المخلوع على سبيل المثال لا الحصر وأجهزته الفاسدة وأبناء ومن دار في فلكهم إلا نماذج عن زمر الفاسدين المفسدين الذين جوّعوا الناس بتخمتهم وسرقاتهم وتهريب أموالهم خارج بلادهم، وقد ظهرت سرقات هذه الطبقة بعد الانتفاضات المذهلة التي فجرها الشعب لاستعادة ذاته أولاً واستعادة ما سرق منه ومحاسبة السارقين والذين حموهم باسم استقرار البلاد ونموها الاقتصادي، لقد أفاد تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2009 "أن معدلات الفقر في مصر تبلغ 41% من إجمالي عدد السكان" منهم أربعون مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، وذكر التقرير أن 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر ما عدا الذين يعيشون حالة ما تحت الفقر، باستثناء مجموعات قليلة محيطة بالنظام تتعيش من ضروع الفساد وتنهب ثروات البلاد دون حسيب أو رقيب، مشيراً "إلى أن البطالة من المصادر الرئيسية لانعدام الأمن الاقتصادي في معظم البلدان العربية"، ولاحظ التقرير الذي أعده نحو مئة من المفكرين والباحثين العرب بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي انتشار نسبة الفقر والجوع "اللذين يمتدان على الرغم من وفرة الموارد المالية في المنطقة العربية ككل، لافتاً إلى أن واحداً من كل خمسة أشخاص في المنطقة العربية يعش تحت خط الفتر المعترف به دولياً المتمثل بدولارين في اليوم بينما نسبة الذين يعيشون على أكثر من ذلك بقليل ولا يستطيعون تحمل تكاليف الحاجات الأساسية يفوقون هذه النسبة بأشواط".

 

د- التأبيد والتوريث في السلطة:

لا يمكن للعرب في كافة أقطارهم أن يصلوا إلى مفهوم الدولة الحديثة ما دام الحاكم العربي يمارس تأبيد السلطة في شخصه وبعده توريثها لأحد أبنائه، لأن الدولة الحديثة هي دولة مؤسسات ذات صلاحيات دستورية لا يستطيع الحاكم تجاوزها أو نقضها، ومشكلة تأبيد السلطة بيد الحاكم وتوريثها لاحقاً هي مشكلة اجتماعية وثقافية وسياسية في الفكر العربي، ولعلها مرتبطة بمفهوم القبيلة وعاداتها وتقاليدها، لقد دخلت العشيرة تاريخياً إلى المدينة فأصبح الحكم وراثياً، وهذا ما أطلق عليه البعض اسم "بَدْوَنَةٍ" الوضع العربي، وإذا كان صحيحاً أن معظم شعوب الأرض قد مرت بهذا النهج السلطوي إلا أنها تخلصت منه مبكراً وظل سائداً في الفكر العربي السلطوي حتى اليوم، ففي بريطانيا مثلاً فقد النظام الملكي خصائصه السلطوية منذ سنة 1215م، وتحولت الملكية إلى رمز لا علاقة له بالسلطة أبداً، الدولة الحديثة اليوم هي تنظيم قانوني يقوم على فكرة المؤسسات، ولا يقوم على الحاكم الفرد مهما كانت إمكاناته عالية، مشكلة الوضع العربي أن الحاكم كان كل شيء، "لا ينطق عن الهوى" وإرادته هي الفاعلة، ولا يستطيع أحد مهما علا شأنه أن يتطاول على إرادته، وهو المعلم وهو القاضي، وقوله القانون والدستور، وهو كل شيء، وربما هذا مرتبط بسببين في وضعنا العربي الراهن حتى لحظة انفجار الغضب الشعبي، السبب الأول داخلي والسبب الثاني خارجي، أما السبب الأول فيتعلق بهشاشة أوضاع مجتمعاتنا العربية التي أوصلها النظام العربي إلى ما سميناه "الخنوع الجمعي" وهذا الخنوع الجمعي أتاح للحاكم الفرد المتسلط أن يمزق مفهوم الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، وابتعد الناس عن النقد اللازم والضروري لتصحيح مسار العمل السلطوي وتصويبه وإخراجه من العقل الفردي إلى العقل الجماعي، وتحولت المجتمعات العربية إلى كتل يربطها المذهب أو القبيلة أو العائلة، وحتى في لبنان الذي يستطيع فيه الإنسان أن يقول ما يريد، فقد لبس التوريث الطائفي والعائلي فيه حلة دستورية، وظلت عائلات معينة تهيمن على أقدار الناس عبر ممارسة السلطة على أسس طائفية وعشائرية وعائلية لا علاقة لها على الإطلاق بمفهوم المواطنة.

 

إن هشاشة النسيج الوطني، والضعف المهيمن على الناس أفشل العرب في التأسيس للدولة الحديثة، سواء أكان ذلك على الصعيد القطري أم القومي، ولذلك فثبات التوريث والتأبيد مرتبط بتسلط الدولة والمجتمع.

 

أما السبب الخارجي فيتعلق بإرادة القوى الخارجية وعلى رأسها أمريكا في إبقاء أوضاعنا العربية هكذا على ما هي عليه، من التخلف لتسهل مهمتها في نهب بلادنا وخيراتها وحماية الكيان الصهيوني، وفي الوقت نفسه تخشى القوى الخارجية من البدائل التي يمكن أن تصل إلى الحكم وقد لا تكون على وفاق معها. إن الوضع العربي الراهن حتى لحظة الانفجار الشعبي الثوري كان مريحاً للقوى الخارجية ومناسباً لاستراتيجياتها، وتحديداً لأمريكا والعدو الصهيوني، وقد تكون البدائل نقيضاً لهذه الاستراتيجيات كظهور حالة وطنية واعية تعمل لامتلاك ناصية البلاد بمنأى عن التدخل الأجنبي وساعية لبناء دولة تتصالح فيها الحكومات مع شعوبها، وقتئذ لا بد أن تكون هذه الدولة ذات قدرات عالية على كافة المستويات، وهي بالتالي ستعطل المشروع الإمبريالي الهادف إلى بقائنا مستهلكين وبقائهم منتجين.

 

ومن التعليقات اللاذعة على الجمهوريات العربية وصفها بالجمهوريات الملكية، فالجمهوريات العربية جمهوريات بالاسم وممالك متسلطة ومستبدة في حقيقتها، لأن الجمهوريات تعني تداول السلطة وسيادة القانون والحكم للأكثرية الناتجة عن انتخابات حرة ونزيهة. إن فكرة تأبيد السلطة ثم توريثها ورفض تداولها هي ما يخيم على النظام العربي الرسمي، وهي ليست كالممالك الدستورية التي تكون في النهاية خاضعة لسلطة الدستور، وهكذا كانت فكرة التأبيد والتوريث مأساة الواقع العربي وسبباً قوياً من أسباب انفجار الثورات الحالية.

 

هـ - تصاعد الأخطاء والخطايا إلى مرحلة الانفجار:

يتساءل الكثيرون لماذا الآن، وليس قبل؟ وهذا السؤال على الرغم من أهميته يحمل أحياناً عند كثير من السائلين غمزاً واتهاماً لهذه الثورات الشعبية حتى لكأن هذه الجماهير الجائعة والمقهورة والمظلومة مرتبطة بوكالة الاستخبارات الأمريكية والموساد الصهيوني، والحقيقة أن الثورات هي حالة تخضع لقوانين الطبيعة كالحقائق الفيزيائية والكيميائية، فالماء لا يصل إلى مرحلة الغليان إلا بعد وصول درجة الحرارة الدافعة لغليانه إلى المئة، والضغط الكمّي يؤدي إلى تغيير نوعي، ولو نقلنا هذا المفهوم إلى السياسة فإن الظلم والفساد وعمالة النظام في مصر مثلاً كانت بمثابة النار تحت مرجل الثورة، وجاءت الانتخابات الأخيرة التي قادها الحزب الحاكم، وزور فيها إرادة الشعب تزويراً فاضحاًَ بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، مضافاً إلى ذلك إلقاء المعارضين في غياهب السجون والمعتقلات، وكانت حركات الاحتجاج على حصار غزة تأخذ أبعاداً عميقة في وجدان الشعب المصري، ولم يكن لرأس النظام شغل في كل هذه الأزمات سوى إعادة انتخابه أو توريث ابنه، ومن أجل هذا الهدف الرخيص تنازل النظام عن كرامة مصر ليبقى هو وأسرته حاكماً لمصر وفوق كل ذلك كان الجوع يجتاح المدن والقرى المصرية بشكل كبير، وما يقال في مصر يمكن تعميمه على معظم الأقطار العربية، حيث القمع والظلم والفساد واستهانة الأجهزة البوليسية بالقانون وأعمار الناس وحيواتهم، كل ذلك كان بداية النار في هشيم الأنظمة اليابسة، والفاقدة لأدنى مقومات الشرعية. وكان لثورة تونس إشعاعات حارقة وخارقة في المجتمعات العربية كلها، وهذا التأثر بالثورة التونسية يخضع أيضاً للقوانين الفيزيائية بحكم الجوار والملاصقة وقوة التأثير، وفي هذا دليل واضح على وحدة الشعور القومي في الوطن العربي كافة وفي تونس لم يكن الوضع الشعبي أقل غضباً من مصر، واتسعت كتلة النار التي لفت بدن "محمد بو عزيزي" لتشمل الساحة العربية كلها. وربما هذا ما يفسر لنا قصور الأحزاب في الوطن العربي عن الشعب للحاق بالثورات، لأنها لم تكن تعاني بالمستوى الذي كانت تعانيه الطبقات الجائعة المسحوقة.

 

و- التفاف جماهير الشعب حول الشعارات المرفوعة:

استجابت الجماهير بفطرتها للحراك الثوري ونزلت إلى الشارع لأن الشعارات التي رفعها الثوار كانت تمس صميم أوجاعهم، وكانت تعبيراً عما يحكيه الناس في حلقاتهم الضيقة، وكانوا ينتظرون المخلص. لقد رفع الثوار قضية الجوع، وحمل بعض المتظاهرين الثوار في مسيراتهم أرغفة خبز، وكان لهذا الشعار تأثير قوي في الالتحاق بالثوار لأن الجوع يعصر معظم بطون الشعب، ورفع الثوار أيضاً شعار محاربة الفاسدين والمفسدين الذين جمعوا ثرواتهم وكدسوها من جوع الناس ومن رغيفهم المسروق، ورفعوا أيضاً شعار محاربة أجهزة القمع البوليسية التي جعلت الوطن سجناً كبيراً للشعب، ورفعوا شعار محاسبة النظام وبطانته وأزلامه المسؤولين الحقيقيين عن مأساة الشعب المزمنة. لقد لاقت هذه الشعارات المتعلقة بحياة الناس وأقواتهم وكرامتهم استجابة سريعة من الجماهير التي تحدت الحصار والبلطجية والقتل والملاحقات ونزلت إلى الشارع كاسرة جدار الخوف.

 

ز- وسائل التنظيم

إنّ الاتصالات الحديثة وتحديداً "الفيس بوك" دفع كثيرين للتساؤل: من قاد هذه الانتفاضات الثورية في مجتمعاتنا العربية الراكدة!! وما هو دور الأحزاب المنظمة في قيادة الجماهير!! وبخاصة حين رأى الشعب من خلال وسائل الإعلام المرئية تدفق المواكب الشعبية المحتجة والمنتفضة رغم كل وسائل القمع الوحشية التي تمتلكها الأنظمة الحاكمة، ومن خلال هذه المرئيات والتي بيـَّنت تخلف مواقف الأحزاب الموجودة على الساحات المنتفضة، والتي كانت مقصرة عن مدى اندفاع الشعب الصادق والثوري لحسم المنازلة مع الطغيان والفساد والاستبداد، فالإخوان المسلمون في مصر مثلاً ظلوا يفاوضون النظام، ويحاولون اللعب في المساحات الضيقة والزمن الضائع، والأحزاب الأخرى لم تكن أبداً في مستوى الفعل الشعبي المتحول سيلاً جارفاً، لقد كان "الفيس بوك" في هذه الثورات أكثر حضوراً وفاعلية من أي حزب آخر، بل كان له صفة الموجه الجمعي عبر سهولة الاتصالات ووفرتها، لقد برزت أسماء شبابية كانت تشرف على "الفيس بوك " أكثر من أي قائد حزبي آخر، وقد يسّر "الفيس بوك" كل وسائل إنجاح الثورة من خلال التفاهم على توحيد الشعارات وتحديد أمكنة التجمع وزمن الانطلاق، والرائع أن جمهور الفيس بوك كان جمهوراً شبابياً متحمساً ومندفعاً ومستمراً في توجيه كل مرحلة بما تقتضى من ضرورات. لقد صار شيئاً من الماضي القول إن الأحزاب هي التي قادت الانتفاضات الثورية في الوطن العربي، فحركة "الإخوان المسلمين "، وهى أكبر قوى المعارضة في مصر التحقت بالثورة التحاقاً هي وباقي الأحزاب الوطنية المعارضة في مصر وأكثر من ذلك فقد بدأت أحزاب أخرى بالتساقط كأوراق الخريف لأنها فقدت تجاوب الشعب معها لالتحاقها بالسلطة.

 

خامسا : خصائص هذه الانتفاضات العربية

1- تميز محركو هذه الانتفاضات الثورية العربية بالذكاء، من خلال وحدة الرؤيا مما جعل هذه الانتفاضات تحافظ على لبوسها الثوري في معظم مراحل تقدمها، ما عدا ألاستلاب الواضح لحركة الشباب الليبي، فلم تنخدع الثورة في تونس ومصر مثلاً بسقوط رأس النظام بل لا تزال إلى الآن مصرة على إلغاء مواقع هذا النظام في جميع مرافق الدولة من الجامعة والقضاء والأمن والمناصب الحساسة في الاقتصاد وغيره، ولأجل منع النفاذ إلى جسد الثورة

 

بعدما انتقلت من الشارع إلى البيوت السياسية ظلت هذه الثورات تنزل إلى الشارع بعد سقوط النظامين في تونس ومصر، وحين وصل بعض المشبوهين إلى الحكم بعد سقوط الأنظمة لم تستسلم الثورة للواقع الجديد بل أصرت على إلحاقه بالنظام البائد.

 

وقد سبب هذا للثورتين متاعب كثيرة، ولكن لا بد من مواصلة الطريق، والوصول إلى الهدف المنشود وفاء لتلك الدماء الطاهرة التي غسلت الأرض من النظام والفساد والمفسدين. وهكذا لم تكن الثورات العربية هبات عاطفية تثور لتخبو بسرعة.

 

2- كانت سلمية في منطلقاتها وممارساتها في معظمها، ولم تلجأ إلى العنف وهذا كان في كل حراك شهدته الساحات العربية الغاضبة، وحتى في ليبيا كانت سلمية في بداياتها، ثم سرقت عبر مجموعة ملتحقة بالأجنبي ومشروعاته المشبوهة، ولا بد من التأكيد على أن سلمية هذه ألأنتفاضات أكسبها احترام العالم. ومن الجدير بالذكر أن الأنتفاضة في اليمن ظلت سلمية حتى الآن رغم كل الممارسات القمعية التي مارسها النظام بحق المنتفضين، ما عدا بعض الاشتباكات القبلية التي لم تكن معبرة عن روح الحراك الشعبي بحال من الأحوال. إن إصرار النظام اليمني على التشبث بالبقاء هو الذي أشعل الفتنة وأدخل إلى هذه الانتفاضة السلمية "القبيلة،القاعدة والإمبريالية " بكل خططها وأهدافها.

 

3- انطلقت من شعارات أجمع عليها الشعب باستثناء الفاسدين المفسدين المنتفعين المتخمين من موائد الأنظمة البائدة. لقد رفعت الثورة المصرية مثلاً شعار محاربة الفساد والمفسدين وطالبت بمعاقبة الذين جمعوا ثرواتهم الفلكية من أقوات الفقراء وجوعهم، وطالبت برفع الظلم والقمع، وإطلاق سراح معتقلي الرأي وإزاحة النظام الفاسد. وهذه الشعارات جعلت العالم يقف أمامها باحترام، ولم يجد ثغرة واحدة للطعن بشرعيتها.

 

4- التدرج في رفع وتيرة الشعارات عبر المراحل المتقدمة، ففي مصر وبعد سقوط النظام رفعت الثورة مطلب إلغاء اتفاقية الغاز الخيانية بين النظام السابق وبين العدو الصهيوني، وأجرت مصالحة تاريخية بين حماس وفتح لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، ثم فتحت معبر رفح أمام الآتين من قطاع غزة، وبدأت مظاهرات الشباب المصري تحاصر السفارة الصهيونية في القاهرة رغم محاولات السلطة الحؤول دون ذلك. لقد كان شعار الحراك العربي "يجب أن تتعدد القاهرات" لعظمة الثورة المصرية وتأثيرها في الوضع العربي والإقليمي برمته. كان لا بد من التدرج في الشعارات لأن التركات التي أورثها النظام المخلوع لمصر والعرب كانت كبيرة.

 

5- لأول مرة تدخل وسائل الاتصال الحديثة في قيادة الثورات الشعبية، وبعض المعلقين الغربيين أطلق على الثورة التونسية الرائدة اسم "أول ثورة الكترونية في العالم" وأثبت هذا قدرة الشاب العربي على استعمال وسائل الاتصالات الحديثة رغم كل المحاولات التي بذلتها الأنظمة لمنع تواصل فئة الشباب لإنجاز فعل الثورة في المكان والزمن المحددين، وفي هذا رد واضح على الذين زعموا أن الثورة كانت تحتاج إلى قيادات حزبية لتدلها على معالم الطريق. لقد ذهل العالم وهو يسمع الشباب العربي مخترقاً الحصار الإعلامي و "محاصراً الحصار".

 

6- وكان لافتاً في هذه الثورات نزول المسنين إلى جانب الشباب، ومشاركة المرأة أيضاً كانت كثيفة حتى في المجتمعات القبلية كاليمن مثلاً، وإن دل هذا الحضور على شيء فإنما يدل على مدى القهر والغضب الكامنين في أعماق الشعب العربي من طول مدة ارتهان الأنظمة للمشيئة الغربية الهادفة لنهب بلادنا وحماية العدو الصهيوني الاستيطاني في فلسطين العربية. وقد رأينا نماذج في الفضائيات تعبر عن هذا الحضور بتعبيرات تحمل وجعاً تاريخياً طالت مدته في جسد هذه الأمة المبتلاة بأنظمة عميلة لا تملك من أمرها غير تنفيذ أوامر غيرها، وقد كان هذا الحضور يحمل تأكيد الشعب العربي على حتمية انتصاره على كل الذين سرقوا رغيف خبزه وباعوا كرامته للأجنبي وخلقوا حولهم بطانة فاسدة ومفسدة ستظل الأجيال تذكر مفاسدها أزمنة طويلة لشدة تأثيرها على مصائر الشعب ومستقبل الأجيال اللاحقة.

 

7- لقد كان من تأثيرات مصر وثورتها تحديداً في الوطن العربي استعادة الحضور العربي الفاعل على أكثر من مستوى، وربما كان التأثير الأقوى لعودة مصر إلى العرب بداية محاصرة الدور الإيراني تمهيداً لإلغائه، ذلك الدور الذي كان يهدف إلى السيطرة على المنطقة عبر إمساك أكثر من ورقة عربية بيديه، وكان غياب مصر وتقزيم دورها في المنطقة على يد الرئيس المخلوع سبباً قوياً لدخول إيران على الوضع العربي والتأثير فيه، ذلك لأن التاريخ لا يقبل الفراغ، ويبدو أن الجغرافية لا تقبل الفراغ أيضاً، وإذا أنت تخليت عن دورك في قضية ما فسيأتي غيرك لملء الفراغ، لو لم تكن مصر رهينة للإرادة الأمريكية والصهيونية في عهد الرئيس المخلوع لكان الأمر مختلفاً منذ زمن طويل، لقد كانت مدة استرهان مصر أمريكياً وصهيونياً طويلة، وغياب مصر الطويل عربياً سمح لإيران بالتسلل لملء انفراغ وما يقال عن المشروع الإيراني الهادف لإمساك أوراق قراراتنا المصيرية يقال في الدور التركي وإن أتى متأخراً، لقد كانت محاولات تركيا الأخيرة محاولة لإعادة العثمانية بأثواب جديدة تناسب العمر الاستعماري الجديد.

 

سادسا: آفاق هذه الانتفاضات الثورية العربية وأبعادها المستقبلية

لا شك أبداً في قوة الاندفاع الثوري الشعبي وأصالته وصدقه مع مطالبه المحقة في الحرية والكرامة ورفع الظلم والفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وكلها مطالب أخلاقية تشكل المكونات الحقيقية لكل ثورة، فعندما نزل الشعب إلى الساحات في المدن العربية كان في قمة نقائه الثوري واندفاعه باتجاه التغيير الهادف إلى تحطيم كل القيود التي تكبل الإنسان العربي وتمنعه من النهوض والانخراط الفاعل في ركب الحضارة الإنسانية. لقد كانت الثورة والمنطلقات بلا حدود. الثورات العربية مؤمنة بحتمية التغيير، وهذا صار واضحاً بما لا يقبل الجدل أبداً.

 

هذا شيء لا جدال فيه أبداً، ولكن عندما تنتقل الثورة إلى "البيوت السياسية" تبدأ - "لحظة الارتباك"، وهي مرحلة وصول الحلم إلى الواقع، وترجمته السياسية تعني مسألة تداخل الداخلي مع الخارجي. إن الثورة حين تصل إلى مرحلة الدولة عليها أن ترى ما لها وما عليها، وكيف تتخلص من أعباء ما يتناقض مع منطلقاتها الثورية، وإذا أردنا مثالاً على علاقة الداخلي بالخارجي نذكر اتفاقية تصدير الغاز المصري إلى "العدو الصهيوني"، فالاتفاقية رغم أنها مرفوضة وطنياً وقومياً بحكم الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية، كانت فوق ذلك مجحفة بحق مصر إلى درجة مربحة ومريحة جداً للاقتصاد الصهيوني، ولذلك جعلها العدو الصهيوني مرتبطة باتفاقية كمب ديفيد عبر ملحقات سياسية ووثائق عُرضت على فضائية الجزيرة في مقابلة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، وليس المهم فيها الكسب المالي الذي تحققه الاتفاقية للعدو الصهيوني، وإنما أهميتها أنها أصبحت خاضعة للقانون الدولي الذي لا يمكن تجاوزه بسهولة، وصارت محمية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا سترى الثورة أنها مضطرة للتفتيش عن سبل ذكية وغير متعارضة مع القانون الدولي للخلاص من هذه الاتفاقية التي لا تنسجم مطلقاً مع تطلعات شباب الثورة المصرية العظيمة. على الثورة بعد انتصارها أن تعرف حجم الحقائق التي ستتعامل معها حين تدخل إلى البيوت السياسية، هناك حقائق لا يمكن تجاوزها، وحقائق يجب أن تتجاوزها لأنها تتناقض مع أصالة الثورة ونقائها.

 

ب- على الثورة ألا تصاب بالإحباط بحكم قصر تجربتها، واضطرارها للتعامل مع العالم بأسلوب الدول ذات النظم والقوانين وليس بأسلوب الثورة، إن الإحباط يشل روح الثورة، ويحرفها، وعلى الثورة أن تقضي على الإحباط كنقيض لحركتها وتطلعاتها، وعليها أن تدرك أن النصر الحقيقي لا يتمثل بإسقاط النظام وحده بل بالوصول إلى الهدف الاستراتيجي النهائي الذي كان محركها وملهمها والحاضر باستمرار في تصرفها وشعاراتها. فالحفاظ على الهدف النهائي هو أصعب ما يعترض الثورات أثناء مسيرتها، وعلى الثورة حين تصبح دولة عليها أن تدرك أن الديموقراطية هي النهج السليم لديمومتها، وهي التي تحمي الثورة، لأن الديموقراطية هي الأسلوب الممارس لتحقيق حرية الإنسان عبر وعيه والتزام القانون الذي يضبط سلوك الجميع، إن غياب الديموقراطية بعد انتصار الثورة يجعلها تحمل في رحمها بذور فنائها، لا بد للثورة أن تظل سامعة لصوت الشارع الذي انطلقت منه، وعليها باستمرار محاولة الملاءمة بين الثورة وضرورات الدولة. إن العمل الدائب والواضح باتجاه الهدف يملأ النفس بالثقة ويدحر الإحباط الذي هو عدو كل عمل تقدمي.

 

ج- الثورات العربية التي تعصف بالأنظمة الحاكمة تحمل آمالاً كبرى، وفي الوقت ذاته تحيط بها مخاطر كبرى أيضاً، ومن هنا لا بد من الانخراط الواعي الملتزم بمفاهيم ما بعد الثورة التي يجب أن تستمر فيها روح الثورة من جهة وتستمر فيها الواقعية المحتفظة بالثوابت من جهة أخرى، ففي الوطن العربي نرى أن الصهيونية والإمبريالية تتربصان بهذه الانتفاضات وبأساليب ملتوية ومختلفة من قطر إلى قطر، ولكن الغاية واحدة في النهاية، وهي محاولة حرف هذه الانتفاضات العظيمة عن نهجها وشعاراتها، وعلى الانتفاضات العربية أن تدرك أن الصهيونية والإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة لا تنفذان إلا عبر الأخطاء التي نيسِّرها لها، ومن هنا يكون الوعي والتصرف العاقل والديموقراطية والاتصال الدائم بالشعب وإقامة العدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن الناس والقضاء على الفساد والمفسدين درع الثورة الواقي من نفاذ المؤامرات إليها، ولم يكن مخطئاً من شبَّه الثورات بالسمك والشعب بالبحر، وهكذا تكون حياة الثورات بالتصاقها بهموم الشعب وآماله وطموحاته. أمريكا تحاول الآن النفاذ إلى جسد هذه الانتفاضات لتخريبها عبر الضغوطات الاقتصادية والإعلامية والنفسية، وأحياناً التدخل العسكري المباشر كما حدث في ليبيا، وحرف هذا التدخل الثورة التي انطلقت شعبياً ضد نظام غريب الأطوار، واستطاعت الدول الغربية تسليم قيادة الحراك الشعبي في ليبيا لزمرة متعاملة معها تلك التي صارت علناً تطالب قوات حلف الناتو بقصف منشآت ليبية، هذا غير مقبول ومرفوض أصلاً رغم أن نظام القذافي تصرف خلال أربعين سنة في حكم ليبيا تصرفاً أرعن وغوغائياً وغير سَوي مع كل قضايا العرب، فقد كان على سبيل المثال يرسل الصواريخ لإيران لقصف المدن العراقية أثناء الحرب بين العراق وإيران، ورغم كل فساد هذا النظام فليس مقبولاً على الإطلاق الاستعانة بالأجنبي للتخلص منه، هذه مهمة الشعب الليبي وحده، وقد جاء في البيان الصادر عن القيادة القومية بتاريخ 20/5/2011 ما يلي: "إن الحزب يرفض رفضاً قاطعاً ويقاوم التدخلات الأجنبية في الشؤون العربية كافة وشؤون ثوراتها وانتفاضاتها المشروعة خاصة، كما يرفض استقواء بعض القوى السياسية التي ركبت موجة تلك الثورات والانتفاضات بالأجنبي ودعوته للتدخل العسكري كما هو حاصل اليوم في ليبيا، حيث تخلت جامعة الدول العربية عن أداء واجبها في إيجاد مخرج ديموقراطي سلمي للصراع في ليبيا وسلمت مقاليد الأمور للإمبريالية وحلف الناتو للعدوان على ليبيا، تحت ذريعة حماية المدنيين، وهى ذات القوى المعادية للأمة العربية وللإنسانية والتي ارتكبت وترتكب بمشاركة الطغمة الحاكمة في إيران جرائم غير مسبوقة في العراق حيث قتلت وهجرت الملايين من أبنائه وبناته فضلاً عن دعمها وتواطئها مع العدو الصهيوني في اعتداءاته الوحشية على المدنيين داخل فلسطين وخارجها.. وإننا إذ نواصل دعوتنا لكل القوى الخيِّرة والمحبة للعدل والسلام في العالم لشجب العدوان على ليبيا، والمطالبة بإيقافه خاصة بعد أن تجاوز المعتدون تفويض مجلس الأمن بحماية المدنيين، فإننا ندعو البعثيين والوطنيين والشرفاء كافة من أبناء شعبنا العربي الأصيل في ليبيا لفرز الخنادق وعزل قوى العمالة والتبعية والردة وتصعيد النضال للحيلولة دون سيطرة الغرب الاستعماري على مقدرات شعبنا ونهب ثرواته وتقسيمه والدفاع عن الثوابت الوطنية في الاستقلال ووحدة الأرض والشعب والحرية والديموقراطية والتقدم حتى يتمكن شعبنا في ليبيا من التحرر من الوصاية والتسلط وإنفاذ إرادته الحرة". إذا كان هناك من مخاطر كما أسلفنا فلأن الأجنبي يقدم المساعدة ليرهن كل شيء لمصلحته، ولأن ليبيا تعني له الشيء الكثير فهي بلد نفطي غني، وحدود ليبيا على الأطلسي تقارب ثلاثة آلاف كيلومتر، ولأن الغرب يريدها إسفيناً بين ثورتين عظيمتين وهما ثورة تونس الرائدة وثورة مصر العظيمة. ومن تصرفات الناتو في ليبيا يكاد المرء يلمح بوضوح إرادة التقسيم في الموقف الغربي من القضية الليبية.

 

4- لاشك إن التغيير لن يترك قطراً عربياً خارج إرادته، إن السعودية نفسها تتأهب للتغيير، والتغيير فيها لن يكون في القشرة كبعض الإصلاحات التي يحاولون الآن إدخالها في الممارسة، كانتخابات المجاس البلدية وإشراك المرأة في الانتخابات، إن عوامل التغيير التي تجتاح المنطقة العربية أعتى بكثير، ولن تتوقف عند حد يمكن أن يرضاه النظام العربي الرسمي سواء أكان ملكياً أم جمهورياً، وهذا يثبت أن الروح العربية في جوهرها روح وحدوية في الحالات الكبرى كحالة صنع الحراك الثوري وتفجير المستنقع الراكد الذي يغطي أنفاسنا وقدرتنا على الانتفاض، ولأن الغرب بدأ يعي وحدة المشاعر التي تحرك الشعب العربي من المحيط إلى الخليج فإنه سيركز اهتمامه الأول على مصر، لأن مصر هي التي "تضبط الإيقاع في الوضع العربي كله" بحكم عمقها التاريخي والفكري والحضاري، وهذه الانتفاضات التي تحدث اليوم في الشارع العربي هي فعل ثقافي قبل كل شيء، وعلينا تثبيت سبق مصر وتقدمها في هذا المجال، ثم إن مصر تشكل ثلث مجموع السكان العرب في موقع جغرافي هام جداً، ولأن النظام المصري السابق ترك مصر رازحة تحت تركات ثقيلة فإن ثورتها تحتاج صبراً وحنكة متميزة وقدرة على اتخاذ القرار الصحيح والجريء.

 

ولأن القوى الغربية "وإسرائيل" بالذات عجزت عن إيقاف اندفاع السيل الهادر في مصر، ولأنها عجزت أيضاً عن مساعدة النظام العميل الذي تهاوى أمام إصرار شباب الثورة في مصر فقد بدأت هذه القوى تسلك سبيلين معاً لتدجين هذه الثورة المصرية العصيَّة، فمن جهة بدأت تلوِّح بالمساعدات المادية لمصر نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي أحدثها الحراك الثوري بسبب تعطيل كثير من المنشآت الصناعية، ومن جهة أخرى - ويبدو أن بعضها كان قد وضع سلفاً لشعور هذه القوى الإمبريالية أن التغيير هو حتمي لا ريب فيه في مصر - حاولت تطويق مصر، والذي ينظر اليوم إلى الجغرافية المحيطة بمصر يدرك ذلك بوضوح، فما حدث من تدخل غربي سافر على الحدود الغربية لمصر في ليبيا كان من أهدافه تطويق مصر، وكان تفتيت السودان وإثارات الفتن فيه جنوب مصر كان يهدف إلى تطويق مصر، إضافة إلى الوجود الصهيوني في فلسطين المتاخمة لمصر شمال شرقي مصر، وهذه الجغرافية المصنوعة جديداً كان الهدف منها تطويق مصر مضافاً لأهداف استعمارية أخرى، ومنعها من التأثير في الوضع العربي كله، ويريدونها وكأنها موضوعة في صندوق محكم الإغلاق. ورغم هذا التآمر الداخلي والخارجي على مصر فإن ما يحدث في مصر يثبت بوضوح وبثقة أصالة الثورة المصرية وحصانتها وذكاءها، ونتوضح ذلك من خلال الوعي الدائب واستمرار التحرك الشعبي لحماية الثورة ويومياتها السريعة الحاسمة.

 

سبب هذا التآمر كله هو قدرة مصر التاريخية والحضارية على ضبط إيقاع حركات الثورات في الأقطار العربية الأخرى.

 

سابعا : ماذا على الانتفاضات العربية أن تفعله

1- يرى حزبنا أن على الثورات العربية قبل كل شيء أن تكون واعية ما تريد، مدركة مدى حركتها، وهذا يعني وحدة الشعار في المنطلق، وتحديد الهدف بدقة، فالشعب العربي في كل الأقطار المنتفضة، وحتماً في الأقطار التي ستنتفض رفع وسيرفع شعاراً محدداً وهو: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويخطئ من يظن أن المقصود بهذا الشعار إزالة الرئيس وحاشيته فقط، وإنما يعني هذا الشعار إسقاط مفاهيم وسلوكيات وممارسات واتجاهات بعينها ورفع مفاهيم أخرى وبناء مجتمع خال من عيوب الماضي وارتهاناته للغرب وفساد إداراته ومفاهيمه، ومحاسبة رموز الفساد فيه والمنحرفين عن الروح الحقيقية للشعب الذي حكموا باسمه ثم انقلبوا عليه.

 

2- أن تمارس الثورة ثقافتها ميدانيا فإن هذا يعني أن الثقافة الشعبية المحركة للثورة هي الإجماع الشعبي العام الناتج عن وحدة الإحساس بالظلم والقمع والقهر والفساد وارتهان السلطات الحاكمة لإرادة الأجنبي، هذه ثقافة يعيشها المجتمع في كل تفاصيل وجوده ابتداء من رغيف الخبز حتى الاعتقال الكيفي الناجم عن سوء تصرف الأجهزة القمعية التي لا يمكن أن يستمر وجودها إلا بحذف حرية الشعب ومصادرتها.إن هذا الشعور الشعبي العام هو الثقافة الحقيقية التي تجعل الثورة تنتصر مهما مارس الطغاة من قتل وتدمير، لأن ثقافة كهذه ليست ثقافة نظرية مجردة من قوة الدافع والمحرك، وهذا ما توضح في الممارسة الميدانية لهذه الثقافة الشعبية القادرة على إنجاز الثورة. ولقد كانت هذه الثقافة أكثر عمقاً وصلة بروح الإنسان من ثقافة الأحزاب التي التحقت بالثورة التحاقاً في مراحلها المتقدمة. إن الممارسات القمعية وتجويع الشعب وفساد البطانة وأجهزة الأنظمة هي العامل الذاتي لانفجار الثورة وتحويلها إلى ثقافة تمارس في الساحات الشعبية المتمردة. وقد يقول بعض مثقفي الثورات الكلاسيكية أن الثورة تحتاج إلى حزب طليعي يقودها، وإلى أنصار ومؤيدين، وأن يكون هنالك برنامج واضح يعبر عن رؤية الحزب لإنجاز الثورة، كل هذا صحيح، ولكن الثورات ليست قوالب جاهزة ومصنوعة سلفاً، لأن كل ثورة في المجتمعات الإنسانية هي أفق مفتوح وإضافة تجارب جديدة للمعرفة الإنسانية، وهذا ما يستحق التوقف عنده في الثورات الحقيقية التي تعصف بالواقع العربي الجامد، إنما إضافة لتجارب الثورات الإنسانية السابقة، ولا يجب النيل منها بحجة افتقادها لحزب أو برنامج مسبق، المهم في كل فعل ثوري أحقية المسببات التي أنتجته، والقدرة العالية الملتزمة في مسيرة التنفيذ، على الثورات العربية ممارسة أحقيتها في هذا المجال وضبط إيقاعها لكي لا تنحرف وتقع في المناطق المشبوهة التي تحيل الثورة إلى فوضى تأكل نفسها قبل أكل أعدائها.

 

3- على الثورات العربية ألا تصاب بالإحباط، وأن تكون مستقبلية الرؤية والرؤيا لأن الإحباط هو الوصول إلى حالة اليأس التي تعني انتحار الثورة، لأن الثورات ستواجه في يومياتها ومستقبلها أيضاً أوضاعاً صعبة وقاسية من تدهور اقتصادي ربما لفترة طويلة، وقد تُحاصر من قبل قوى خارجية ولها امتدادات وأذرع في الداخل، إن التآمر على الثورات الجذرية أمر طبيعي منذ كانت هذه الثورات، وقد تطول فترة المقاومة لإنجاز الثورة، وقد تحدث أمور كثيرة، فعلى الثورة ألا تصاب باليأس، وألا تتراجع مهما كانت التضحيات عالية، فليس هناك بديل للنصر إلا بدفع الثمن من الأرواح والممتلكات. إن هذه الثورات بمقدار ما استفاد شبابها من التكنولوجية الحديثة إلا أنهم في الحقيقة امتدادٌ للأجيال القديمة التي دمرها القتل والاعتقال والملاحقات، ولكنها رغم اندحارها كانت حجراً في بركة راكدة ما زالت دوائرها تتسع عبر الجيل الثوري الجديد. انتصار الثورات أمر حتمي، هذا ما يجب ألا يغيب عن بال الثوار أبداً، وهذا وحده يدفع اليأس والإحباط جانباً.

 

4- إن أخطر ما تتعرض له الثورة هو انجرارها إلى ممارسات مذهبية أو طائفية، لأن الهدف الأكبر لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تحلم الولايات المتحدة الأمريكية بإنجازه لا يكتب له النجاح إلا إذا تحولت المنطقة العربية إلى شظايا طائفية كما يرى كيسنجر في كتابه "كيسنجر وإدارة الصراع الدولي"، وانجرار الثورة إلى ممارسات مذهبية أو طائفية ينزع عنها مفهوم الثورة ويحيلها مافيات وجماعات سلب ونهب وقتل وترويع، إن الذي يجب أن يسود بين القائمين بالثورة هو مفهوم الانتماء إلى وطن واحد وأرض واحدة وهدف واحد، إن جميع الثوار ينتمون إلى جرح واحد ولهم حلم واحد، ويقاتلون في خندق واحد، ولا يجوز اتهام فئة بانتمائها إلى طائفة معينة أو مذهب معين تحت أي عذر أو ادعاء. الفاسدون والمفسدون والطغاة دينهم الفساد وربهم أموالهم وما يسرقونه من أفواه الجياع والمسحوقين. أي خلل في الفهم العميق لمعنى الثورة يحرفها ويعرضها للانهيار السريع، وقد تقع تجاوزات وأخطاء أحياناً ولكن الثورة يجب أن تصحح باستمرار لأن الصحيح دائماً يحتاج إلى تصحيح، إن الثورات التي نجحت عبر التاريخ هي التي كانت تمتلك القدرة علي نقد ذاتها وتقوم بما يسمى الثورة في الثورة، وهي بذلك تكسب حماية الشعب لها لأن للشعوب حاسة لا تخطئ في تقويم الأشياء بما تمتلكه من اختزان معرفي لا ينضب أبداً.

 

5- الثورة في حقيقتها هي تمرد على الظلم والفساد، إن هدفها الدائم هو الحرية التي تصل إليها عبر ممارسات ديموقراطية، وهذه الممارسات يجب أن تكون نقيضاً للسلطة التي قامت الثورة لتغييرها، وبمقدار ما تتخلى قيادة الثورة عن فرديتها وتشرك باقي العناصر والفئات الواعية في قياد المسيرة التحررية، فإنها تأخذ سمة الاتساع والديمومة، والحرية هي التي تعبر عن ذاتها وكينونتها عبر الديموقراطية الواعية، والديموقراطية هي ثقافة قبل كل شيء، والثورات التي لم تمارس فعل الديموقراطية أثناء مسيرتها وبعد استلامها الحكم عبر دستور وقوانين ديموقراطية تحتاج إلى ثورات أخرى لتستقيم مسيرتها، ولنا مثل واضح الدلالة في ثورة الجزائر العظيمة، ثورة المليون شهيد التي تواجه اليوم بوادر ثورة جديدة ربما بحكم العقلية المتفردة بقيادة الجزائر، وهكذا نستنتج أن الثورات قد تعقبها ثورات للوصول إلى حكم ديموقراطي سليم يؤمن بالرأي الآخر وبالتناوب على السلطة، ويؤمن بالتعددية الحزبية وعلمانية المجتمع التي تحترم التزام الناس الديني دون التورط في اعتباره وضعاً سياسياً يحتاج النقض والإلغاء. المهم اليوم أن الانتفاضات العربية وضعت مسيرة الأمة على السكة الصحيحة، وهي ستحمل إشكالات الأوضاع الاجتماعية الخاصة بكل قطر على حدة، إنما تجتمع بطرحها العام ضد الفساد والتسلط، والظلم والتفرد والأجهزة القمعية التي جعلت السجون في الوطن العربي أكثر عدداً من المدارس.

 

6- على الانتفاضات الثورية أن تركز في مراحلها الأولى على شعارات لاتدع مجالاً للتدخل الغربي في شؤونها، وبمقدار ما تكون هذه الشعارات مقبولة من معظم فئات الشعب فإن إمكانية نجاحها ستكون أعلى وأسرع، وهذا لا يعني عدم الانتقال إلى المراحل الأعلى كلما أنجزت نصراً، كما يحدث في مصر.

 

7- على الانتفاصات الثورية ألاّ تفسح أي مجال للتدخل الأجنبي في شؤونها، لأن مقتلها يكمن في استعانتها بالأجنبي، والذي حدث في ليبيا أخرج الحركة الشعبية الليبية من مفهوم الثورة، رغم أن انطلاقتها الأولى كانت ثورية وصحيحة، وكان على انتفاضة الشعب الليبي أن ترفض تدخل الناتو رغم كل الجنون الذي مارسه القذافي وقواته بحقها. الثورة النظيفة يقودها أبناؤها، أما الغرب فقد جعل من تدخله في ليبيا وسيلة للتدخل في الثورتين المصرية والتونسية على وجه التحديد كمرحلة أولى للتدخل في ثورات أخرى ولسرقة ثروات ليبيا.

 

8- على الانتفاصات الثورية ألاّ تنسى انتماءها القومي المؤيد لها والتي هي جزء منه رغم كل خصوصياتها القطرية. إن اتكاء هذه الثورات على عمقها القومي ضروري بحكم الجغرافية والتاريخ والوعي المشترك الذي هو روح هذا التحرك الثوري، فالجغرافية العربية كلها تقع تحت مرمى التآمر الإمبريالي والصهيوني لمنع العرب من التحكم بمصيرهم وصنع وحدتهم، ولسرقة الثروات الهائلة المختزنة بأعماق هذه الجغرافية العربية، وقد أثبتت هذه الثورات التي تحدث في أكثر من قطر عربي أن هناك وحدة في الشعور القومي المحرك لهذه الثورات والمناصر لها، فقد أصبح حديث هذه الثورات الشغل الشاغل للشارع العربي، وانحاز الناس بفطرتهم وخارج الوعي السياسي التفصيلي المسبق لهذه الثورات، حتى لكأن هذه الثورات كلها تحدث في بلد واحد. واجتاحت الشارع العربي موجات من الفرح العارم لأن هذه الثورات تؤشر باتجاه خروج الإنسان العربي من سجنه الكبير الذي تعدل مساحته مساحة الوطن العربي كله، ولأن هذه الثورات ستنقله إلى وضع إنساني جديد ينتمي فيه إلى حركة الإبداع الإنسانية حيث لا إبداع بلا حرية، وهذه هي مقولة التاريخ وفلسفته، وتاق العربي ليرى وجوهاً أخرى في السلطة تحكي بلغة العصر الجديد، وخارجة من منطق التوريث والعمالة والوصاية المقنعة وغير المقنعة. لذا لا بد لكل ثورة أن تعي أن استمراريتها تكمن بقدرتها على المواءمة بين قطريتها وقوميتها لتستطيع الانتقال وبشكل سليم إلى مفهوم الدخول الكلي في حالة الأمة الطامحة لبناء وحدتها الشاملة.

 

وإذا كانت قواسم مشتركة قد حكمت الحراك الشعبي في كافة أقطار الوطني من خلال وحدة الشعارات التي رفعت فإنه نظراً للعلاقة الخاصة التي تربط لبنان بسوريا على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن الحزب يفرد بنداً خاصاً للتأشير على أبعاد الحراك الشعبي في سوريا محدداً موقفه من هذا الحراك بالاستناد إلى مسلماته الوطنية والقومية.

 

ثامنا : المشهد السوري

لا شك أن المظاهرات السلمية التي اجتاحت المدن السورية كانت ذات مطالب محددة ومحقة تطالب بالإصلاح السياسي والاقتصادي ومقاومة الفساد، وإلغاء حالة الطوارئ المستمرة في سورية منذ أكثر من خمسة عقود، وإلغاء هيمنة الأجهزة على حياة الناس، وإطلاق سراح معتقلي الرأي والسياسيين المعارضين، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني واستقلال لقضاء، وقد اعترف النظام بنفسه بأحقية هذه الإصلاحات واعتبرها مطالب مشروعة يجب العمل على تنفيذها والانتقال بسورية إلى مرحلة جديدة على مختلف الصعد السياسية والفكرية والاقتصادية.

 

إن موقفنا مما يحدث في سورية واضح لا لبس فيه، إننا مع الإرادة الشعبية السلمية التي يمارسها المنتفضون بمنأى عن استعمال السلاح كأداة للتخاطب مع السلطة، لا يمكن لعاقل إلا وأن ينحاز للمظاهرات السلمية وتعبيراتها ومطالبها بالإصلاح ومحاربة الفساد ورفع القمع عن الناس وإلغاء قانون الطوارئ عملياً، وفي الوقت نفسه نرفض أي تدخل، ومن أية جهة في الشأن السوري، إن الإصلاح والقضاء على المظالم والفساد من اختصاص السوريين أنفسهم، وعلينا نحن اللبنانيين أن نكون في منتهى الوعي والحذر، وألا تندخل في الوضع السوري، وعلى كل منا مهما كانت مشاعره أن يتمنى الخير والسلام لسورية لشدة تداخل وضعها بوضعنا اللبناني ولأواصر القربى بين لبنان وسورية، وعلينا الالتزام بالميثاق الوطني الذي تم فيه الاتفاق مع سورية بأن لا يتم التعاطي من قبلنا بشؤونها الداخلية، وأن لا تتدخل هي بالشأن اللبناني الداخلي.

 

أما إذا ما حصل اعتداء على سورية من حلف الناتو أو أية جهة تريد تفتيت المنطقة فسنقف إلى جانب سورية لنقاتل دفاعاً عنها بكل قوتنا، وهذا نفسه ما أكدته المعارضة السورية التي أعلنت أنها ستقف إلى جانب الجيش السوري جيشها الوطني إذا حدث أي تدخل خارجي وعلينا الانتباه كثيراً للجغرافية السورية وأهميتها على أوضاع لبنان وأوضاع المنطقة التي يتواجد فيها العدو الصهيوني. سورية اليوم يحدها الكيان الصهيوني والعراق المحكوم من قبل أمريكا وعملائها، ولذلك سيؤدي استمرار الأحداث فيها إلى أوضاع خطيرة في المنطقة والمستفيد الأول منها هو العدو الصهيوني والإمبريالية المخططة لرسم شرق أوسط جديد. إن على سورية نظاماً وشعباً أن تدرك خطورة المرحلة لتفوت الفرصة على كل من يريد تنفيذ مشاريعه المشبوهة عبر البلاد العربية.

 

إن موقف الحزب هذا، نابع من إدراك عميق باننا نقف على ابواب مرحلة جديدة عنوانها انبعاث انتفاضات جماهيرية شعبية، ونحن معها على قاعدت الاصلاحات الجذرية وديمقراطية التعبير وسلمية الحراك ووطنية المضمون وقومية الابعاد، ورفض كل اشكال التدخل الاجنبي وحماية وحدة الارض والشعب والمؤسسات،بعيدا عن الانجرار الى اي نزاعات طائفية او مذهبية.

 

نهايةً نختم تقريرنا بقول القائد المؤسس المرحوم الاستاذ ميشل عفلق في تنبؤ مبكر لما ينتظر هذه الامة من مستقبل حضاري زاهر حين قال " نحن ننطلق من تقرير حقيقة، هي في مستوى البديهيات، بان الامكانات العربية الشعبية النضالية والامكانات الاقتصادية وكل ما يتمتع به الوطن العربي من امتيازات في الموقع وثروات في الارض والعمق الحضاري، كل هذا يؤهله، ليس للصمود بوجه المؤامرات والهجمات الامبريالية والصهيونية وعملائها وحسب، بل ايظا لبناء نهضة يدخل بها الشعب العربي دخولا ايجابيا،مبدعا في العصر الحديث،ولكن التجزئة اكبر آفة تعرض لها هذا الوطن، اعطت لاعداء الامة العربية واعداء نهضتها، وسائل وادوات متناحرة ومتشرذمة، ومكنت القوى المعادية من محاربة محاولات اليقظة والنهضة والوحدة والتحرير باكثر من اسلوب وعلى اكثر من خط، فثمّة العدوان المباشر، وثمّة التخريب والتعطيل من الداخل، بواسطة ادوات تقوم بمهمّة التخريب تحت شعارات مناقضة لحقيقة ممارساته "

إننا مع الحراك الجماهيري ولكن حذار انجراره الى التقسيم والتفتيت، لان ذلك يطيح بكل المعطى الايجابي للتحرك الجماهيري.

 

 

حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي

تشرين الاول ٢٠١١

 

 





الاثنين١٨ ذو الحجة ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٤ / تشرين الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة