ان طرح الموضوع بهذه الصيغة تفرضه عدة عوامل موضوعية ذات علاقة بالظرفية عامة و المكونات السياسية للتجربة من ناحية و من ناحية أخري الاعتبارات الذاتية لمكونات المشهد السياسي سواء علي مستوي كل مكون أو في علاقاتها ببعضها البعض أو بامتداداتها الخارجية . فما هي مفردات الظرفية العامة و اعتباراتها الموضوعية ؟ و كيف تبدو المكونات السياسية للتجربة سواء علي المستوي الداخلي أو في علاقاتها البينية محليا و طبيعة امتدادتها الخارجية ؟

I ـ مفردات الظرفية العامة ( العوامل الموضوعية):
ـ1ـ علي مستوي الداخل:
أـ علي مستوي المجتمع:

مجتمع عاني الحرمان المادي و المعنوي لحقبة تاريخية هامة مع هيمنة النظام التوتاليتاري خلال خمسة عقود في ظرفية اتسمت بزيادة وعي نسبي مكبوت نتيجة الحاجة المادية و التواصل مع الآخر بما جعله ينقسم الي ثلاث مكونات متفاوتة كميا و نوعيا يمكن تحديدها علي النحو التالي:

أ1. ـ شق هام التجأ للمطلق و اعتبر الحل لا يمكن أن يكون الا في علاقة بالارادة الالهية تحت تأثير الموروث الروحي و الثقافي السائد (ربك ما يخلق خليقة و يضيعها . الي عند ربي موش بعيد. الي يعطيه ربي لا مرد له. ربي يمهل و لا يهمل. الي عند ربي خير...) مفاهيم يرددها المتعلم و الأمي ...النتيجة أرضية خصبة لاستعادة الفكر الديني لنشاطه مستفيدا من الاهتمام الشكلي للنظام بتعميق هذا الاتجاه من خلال السماح لأنصار الدعوة و التبليغ بالنشاط العلني ( بطاقات تعريف وطنية تؤشر مهنة داعية و براتب رسمي غير معلن) و الذين استخدموا استخداما مزدوجا .

أ2. ـ شق ثاني متباين التصور و الانتماء الطبقي و الوعي المعرفي و الثقافي اتسع أفقيا مع تزايد خرجي الجامعات و المعاهد العليا العاطلين عن العمل تحت تأثير اليأس فقد الثقة في كل شيء ظاهريا لم يقطع مع الانتماء الروحي للمجتمع و عمليا اتجه اتجاه مادي بالكامل ( أعطيني اليوم و أقتلني غدوة... و غدا يكرر نفس الشعار) أي أنه يعيش لحظته بغض النظر عن أثر تلك الحظة و من خلقها و لماذا ؟.

أ3. ـ شق ثالث محدود جدا و محاصر تتجاذبه رؤي متعددة سواء علي مستوي التصور أو الفعل البعض منهم ينعت بالاصابع ... عدهم المجتمع في العديد من الحالات الحالمين حتي اذا تحركوا في عمل علني في تحد للسلطة (مظاهرات احتجاجية) تري فعلهم بمثابة العرض المسرحي المفتوح من قبل الشقين (أ.ب) لا للمشاركة و الدعم و انما للفرجة.
و ضع اجتماعي انعكس علي المشهد السياسي للبلاد غداة انتفاضة 14/01/2011

ب ـ علي مستوي المشهد السياسي :
أفضت الانتفاضة في وحدة شعاراتها و ما تميزت به من انسجام و تلقائية في التضحية و غياب الخطية الي ذهول النظام و الأطراف الخارجية ذات العلاقة به مما شل قدرتهم علي الفعل المضاد و دفعهم للتنازلات المتتابعة آخرها تخلي رأس النظام بشكل مؤقت عن السلطة(بيان الغنوشي الرئاسي) و من ثم التضحية النهائية به تحت ضغط الانتفاضةيوم 15/01/2011 لتبدأ مرحلة تشكل الخارطة السياسية. التي تبلورت في ثلاث اتجاهات تحكم المشهد السياسي الراهن:

ب1. خط مرتبط بما كان قائما قبل 14/01/2011 تتجاذبه قوي غربية رئيسية يري أن استمراره و بقاء امتيازاته و مواقعه مرهون بتنفيذ مشيئة العواصم الغربية...و يصطدم سواء من حيث الفعل أو التعبير عن نفسه بمسألة الاخراج تحسبا لرد فعل الشارع الذي لا زال محتقنا لذلك يعمل بصيغة التسويف و كسب الوقت....

ب2. خط لا يحرص علي السيادة الوطنية و الاستقلال و قد اصبح مرتبطا بقوي عالمية و اقليمية (شرق أوسطية) تحت ذرائع عقائدية لا يمكن أن تغطي حقيقته التابعة لتلك القوي مستعجلا ملأ الفراغ حتي و لو كان باستخدام أسلوب النظام الذي أسقطه الشعب.

ب3. خط وطني قومي تقدمي مستقل مؤمن بتغليب مصلحة الوطن و الشعب علي ما سواها و الدفاع عن الحقوق و الكرامة و التحرر و الانعتاق من أية قوالب فكرية جامدة أو شروط سياسية مسبقة تكبل ارادته الاستقلالية متماهي مع القاعدة الشعبية و يفتقد امكانات التعبئة المادية.

خطوط وظفت جملة آليات لتفعيل دورها في استحقاقات المرحلة طبقا لتصورها لمدايات الانتفاضة و اتجاهات تقدمها في علاقة واضحة بما هو خارجي مؤثر.

2 ـ علي المستوي الخارجي.
النتائج الميدانية للأنتفاضة( امتدادها سواء بشكل عفوي أو بفعل فاعل) جعلت من البلاد مختبر تجارب للقوي الدولية في تفعيل مشاريعها المستهدفة للمنطقة سواء اعلاميا: (التركيز المكشوف علي ممثلين من الخط الأول و من الخط الثاني مع اهمال تام للخط الثالث و ان استدعي فبصيغة مناقشة موضوع بما يخدم الخطين السابقين).قناتي الجزيرة و العربية بالنسبة للساحة العربية و قناة فرنسا 24 . سياسيا رسميا:الزيارات المكوكية للأطراف الدولية و الاقليمية و اللقاء مع مكونات الخط الأول و الثاني أو الدعوات الموجهة لهاته الأطراف و التفاوض معها ... بشكل غير رسمي : تعدد السيمينارات ( ندوات النقاش بمشاركة مؤسسات بحث) و اقتصار التشريك علي مكونات الخط الأول و الثاني. تدفق المال السياسي .

عوامل موضوعية تجعل من العملية الانتخابية تجربة ديمقراطية ناجحة من حيث الشكل مع تأجيل التنفيذ بالنسبة للمكونات السياسية. لماذا؟

II ـ تجربة ديمقراطية ناجحة من حيث الشكل مع تأجيل التنفيذ بالنسبة للمكونات السياسية:

1 ـ النجاح الشكلي للتجربة:
بحكم سنوات القهر و الكبت التي عاشها المجتمع عامة و قواه السياسية خاصة تولدت جملة من الدوافع منها ما هو غريزي و منها ما هو ذا علاقة بدرجة الوعي الجمعي للمجتمع بجميع مكوناته و أثر الأطراف الدولية أهمها:

أ ـ اللهفة الجامحة لممارسة هذا الحق الاشتراك في اللهفة بين مختلف المكونات جعلها تتصرف تلقائيا بما يجعل المجال مفتوحا للكل تصورا و فعلا
ب ـ الخوف من المجهول في حالة عدم التوافق نتيجة الحضور الدائم لصورة الدماء التي تسيل هنا و هناك علي الساحة العربية في حالة الفشل .
ج ـ حضور الأنفة الوطنية و القومية في أن التونسي ليس أقل من الآخر و ليس كما يصور من أنه لازال يتصرف بشكل غريزي.
د ـ الأطراف الدولية سواء بشكل معلن عن طريق الاعلام أو بشكل ثنائي للأطراف المتعاملة معها.

2 ـ تأجيل التنفيذ بالنسبة للمكونات السياسية:
أفضت التجربة في نتائجها الأولية الي :
أ ـ أقلية متغلبة من الخط الثاني (الاسلاميين)

ب ـ أغلبية مشتتة أكثرها من الخط الأول و جزء من الخط الثاني( علمانيين و يسار ماركسي). مع حالات محدودة جدا لا تكاد تحتسب للخط الثالث.
نتايج في حالة انتقالها الي التصريف العملي لما مطلوب منها ستجد نفسها أمام اختيارين ب1 ـ الاختيار الأول: التوافق أي العمل بصيغة الأواني المستطرقة بهدف المحافظة علي مكانة في الاستحقاق القادم أي الانتخابات التشريعية و الرئاسية ... مما يجعلها معرضة داخليا الي تجاذبات من نوع آخر قد يصل حد التقابل بين مكوناتها.

ب2 ـ الاختار الثاني : التوزيع النسبي مع تمسك كل طرف برؤيته مما يعني زيادة الاحتقان و تحول فعلها الي حالة مثبتة للتقسيم الأفقي للمجتمع بما يفتح البلاد أمام دوامات و أعاصير الطائفية السياسية التي لا يقل أذاها عن الطائفية الدينية أو العرقية .

قراءة أولية نتمني أن تنتهي فيها التجربة في تونس الي ما يجعلها مصدر خير و بناء لا مصدر تسويق للبذاءة.