شبكة ذي قار
عـاجـل










من‮ ‬يلاحق من؟ ليس هذا السؤال واحداً‮ ‬من قصص جيمس بوند ولا من أفلام رامبو أو سؤال مستل من الأحداث الدراماتيكية الجارية في‮ ‬ليبيا الآن،‮ ‬بل هو سؤال فرضه علي‮ ‬ما أكتب عن حقيقة إيران من الداخل،‮ ‬قبل أن تتولى أكبر شركات التسويق الإعلامي‮ ‬تغليفها وتقديمها للمواطن العربي‮ ‬في‮ ‬أحلى صورها وأفضل ما عندها من مواقف،‮ ‬هذا إذا كان عندها موقف واحد‮ ‬يستحق أن‮ ‬يقال عنه جيد‮.‬


بعضهم‮ ‬يعاتبني‮ ‬على أنني‮ ‬أترك إسرائيل التي‮ ‬تحتل فلسطين التي‮ ‬فوق أنها أرض مغتصبة من أهلها الذين تم تشريدهم منها،‮ ‬فهي‮ ‬أرض مقدسة دينياً‮ ‬عند كل مسلم‮ ‬يؤمن بما جاء به النبي‮ ‬الكريم،‮ ‬وألاحق إيران التي‮ ‬خصص الخميني‮ ‬لها آخر جمعة من رمضان وأسماه‮ ‬يوم القدس‮.‬


ربما من المناسب مناقشة الفكرة كلها من الأصل كي‮ ‬تفهم الدوافع السياسية وراء السلوك الذي‮ ‬يطلق عليه أتباع إيران صفة الموقف المبدئي‮ ‬من القضية الفلسطينية‮. ‬الموقف من الاحتلال الإسرائيلي‮ ‬لفلسطين لا‮ ‬يختلف عليه عربيان إلا من وضع نفسه خارج الزمن العربي،‮ ‬وعلى الرغم من أن العراق ليس من دول المواجهة المباشرة بالأرض مع فلسطين،‮ ‬إلا أنه دفع أعلى ثمن من استقراره وسيادته ووحدة أراضيه وتدمير بنية الدولة فيه،‮ ‬لموقفه الراسخ من فلسطين والذي‮ ‬لو تغير موقفه المعلن على الأقل منها لكان العراق اليوم هو‮ ‬غير ما نعرف كما تحتله أمريكا اسماً‮ ‬وتديره إيران فعلاً،‮ ‬العراقيون هذا موقفهم وربما فيه بعض التطرف والتشدد والحدية التي‮ ‬لا تحظى بدعم واسع النطاق حتى من بعض الفلسطينيين أنفسهم‮.‬


من المعروف أن حركة المقاومة الفلسطينية التي‮ ‬اضطرت للانتقال إلى لبنان بعد أحداث أيلول في‮ ‬الأردن عام‮ ‬‭,‬1970‮ ‬وضعت نفسها‮ ‬غير مختارة بين المطرقة الصهيونية التي‮ ‬تلاحق رموزها بلا هوادة وتستهدفهم جماعات أو فرادى،‮ ‬وسندان الحركات السياسية اللبنانية التي‮ ‬ارتدت ثياباً‮ ‬دينية،‮ ‬والتي‮ ‬ارتبطت بإيران الشاه على علم بتحالفاته ويقين من أنه ممثلها الديني‮ ‬والدنيوي،‮ ‬مثل حركة أمل التي‮ ‬أسسها رجل الدين الإيراني‮ ‬موسى الصدر،‮ ‬والذي‮ ‬استوطن لبنان في‮ ‬ظروف‮ ‬غامضة وخلال مدة قصيرة أصبح من اللاعبين الذين لا تفوتهم مباراة سياسية،‮ ‬ولكن العقبة الرئيسة التي‮ ‬كانت تحول دون تمدد الصدر على الساحة اللبنانية كلها،‮ ‬أنه كانت ثمرة استزرعها الشاه،‮ ‬وأنه لم‮ ‬يكن‮ ‬يحسن التحدث بالعربية إلا بصعوبة بالغة وبلكنة فارسية‮ ‬غير‮ ‬يسيرة التسلل للأذن،‮ ‬ومع هذه الموانع فقد تراصف معه معممون لبنانيون باعوا أنفسهم لشياطين قم،‮ ‬فناصبوا المقاومة الفلسطينية عداء تنقل بمرونة عالية بين المجالس السياسية وميادين المواجهة المسلحة،‮ ‬حتى تساءل المقاوم الفلسطيني‮ ‬ترى كم من الروم سوى الروم وراء ظهري؟ ولم‮ ‬يلتقط جواباً‮ ‬بقدر ما تلقى الرصاص،‮ ‬ولكن حركة أمل ورموزها عندما سقط شاه إيران الذي‮ ‬كان‮ ‬يشكل ثاني‮ ‬الضلعين الإقليميين لمثلث كراهية العرب بعد إسرائيل ليلتقي‮ ‬مع الضلع الغربي،‮ ‬خلعت ولاءها للشاه ولم تبرر سبب الخلع كما إنها لم تبرر سبب الولاء القديم،‮ ‬ومنحته إلى مركز صنع القرار الجديد في‮ ‬طهران،‮ ‬ولم تأخذ استراحة لدراسة المتغيرات التي‮ ‬يمكن أن تدخل على الخطاب السياسي‮ ‬المنطلق على أجنحة عمامة الخميني،‮ ‬وخاصة أن ثورة الخميني‮ ‬كانت ماتزال ذات برنامج محلي‮ ‬له عقد شخصية أيضاً‮ ‬لأن جهاز استخبارات الشاه‮ (‬السافاك‮) ‬كان اغتال مصطفى الخميني،‮ ‬أكبر أبناء آية الله الخميني‮ ‬ويبدو أن لهذه العقدة دوراً‮ ‬مؤثراً‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يحمله من كراهية للشاه تتجاوز حدود السياسة‮.‬


لم تحاول حركة أمل في‮ ‬ثوبها الفضفاض الجديد أن تسأل،‮ ‬عما إذا كان‮ ‬يتعارض مع خطابها السابق أم‮ ‬يتطابق معه وما هو مصير التحالفات السابقة التي‮ ‬فرضتها التبعية للشاه،‮ ‬وعما إذا كان الولاء المتجه البوصلة نحو الخميني‮ ‬سيفرض التزامات تجاه أعداء تحولوا إلى أصدقاء وأصدقاء سابقين انتقل الموقف منهم نحو الرصيف الآخر،‮ ‬وتغيرت لهجة الخطاب تدريجياً‮ ‬وإن كان النمط التجريبي‮ ‬به حاجة إلى وقت أطول من النمط المجرب في‮ ‬قياس حجم النجاح في‮ ‬البدائل الجاهزة للتطبيق الواحد تلو الآخر،‮ ‬وتم تبني‮ ‬الشعارات الجديدة بلغة تحاول التنصل من الماضي‮ ‬برفع الصوت عالياً‮ ‬والطعن في‮ ‬الشعارات السابقة على طريقة الريمونت كونترول،‮ ‬وكأن من كان‮ ‬يتبناها أو‮ ‬يدافع عنها هو طرف ثالث وكأن الناس جميعاً‮ ‬يعانون من ضعف الذاكرة أو الخرف السياسي‮ ‬المبكر،‮ ‬وتغير الموقف المعلن من القضية الفلسطينية أو في‮ ‬الأقل من قضية القدس،‮ ‬وكأن من‮ ‬يطرح المسألة على هذا النحو‮ ‬يحاول اختزال القضية الفلسطينية بموضوع القدس وحده،‮ ‬مع‮ ‬يقيني‮ ‬الثابت أن للقدس خصوصية عند كل عربي‮ ‬ومسلم،‮ ‬بحيث إن شاه إيران وهو من هو في‮ ‬التحالف مع إسرائيل،‮ ‬وبعد إحراق المسجد الأقصى في‮ ‬أواخر ستينات القرن الماضي،‮ ‬لم‮ ‬يتمكن من السباحة ضد التيار المستنكر لتلك الجريمة،‮ ‬فدعا إلى عقد مؤتمر إسلامي‮ ‬تحول مع الوقت إلى منظمة المؤتمر الإسلامي‮ ‬ثم استقرت على اسم منظمة التعاون الإسلامي‮.‬


لماذا نهمل الملفات كلها ونلاحق إيران؟‮ ‬

هناك من‮ ‬يهمل ملفاً‮ ‬يستحق الاهتمام ويركز على ملفات عديمة الأهمية وما هي‮ ‬الحكمة والمصلحة من ذلك؟ تبدو تلك أسئلة نزيهة وبريئة في‮ ‬ظاهرها،‮ ‬ومن أجل دعم حجة من‮ ‬يطرحها،‮ ‬فإنه‮ ‬يقول لقد استبدل الخميني‮ ‬السفارة الإسرائيلية وأنزل العلم الإسرائيلي‮ ‬ورفع محله العلم الفلسطيني‮ ‬ألا‮ ‬يستحق الشكر على ذلك؟ حسنا لنفترض أن هذا كله صحيح مائة بالمائة وأن دوافعه مبدئية تماماً،‮ ‬فهل في‮ ‬عرف هؤلاء تجوز مقايضة الموقف اللفظي‮ ‬من دون تضحيات من قضية القدس أو قضية فلسطين،‮ ‬وغض النظر عن جهود إيران من أجل التوسع في‮ ‬الأراضي‮ ‬العربية؟


‮ ‬حسنا إذا كان موقف الشاه خاطئاً‮ ‬في‮ ‬علاقاته مع إسرائيل،‮ ‬وهو خاطئ قطعاً،‮ ‬فلماذا لا‮ ‬يتم الحديث عن مواقف خاطئة أخرى للشاه في‮ ‬مواقع أكثر خطورة في‮ ‬نتائجها،‮ ‬مثلاً‮ ‬احتلال الجزر العربية الثلاث أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى والتابعة لدولة الإمارات العربية بعد قرار بريطانيا الانسحاب من شرقي‮ ‬السويس مطلع عقد السبعينات من القرن العشرين،‮ ‬فلماذا لم‮ ‬يصحح الخميني‮ ‬ذلك الخطأ الاستراتيجي‮ ‬الذي‮ ‬أقام جداراً‮ ‬عالياً‮ ‬من الكراهية والتحسس بين العرب والإيرانيين،‮ ‬والأنكى من ذلك أن النظام الإسلامي‮ ‬الجديد في‮ ‬إيران عدّ‮ ‬قرار نظام الشاه القبول بنتيجة استفتاء الشعب البحريني‮ ‬واختيار الاستقلال ورفضه الانضمام لإيران،‮ ‬قراراً‮ ‬خاطئاً‮ ‬ولا‮ ‬يجوز الاعتراف به وبدأت المطالبات الشوفينية الطائفية،‮ ‬ترتفع تدريجياً‮ ‬في‮ ‬أوساط السلطة الجديدة،‮ ‬التي‮ ‬وجدت دعماً‮ ‬مؤكداً‮ ‬من الخميني‮ ‬شخصياً‮ ‬لهذا التوجه المتنامي‮ ‬في‮ ‬جمهورية إيران الإسلامية التي‮ ‬ترفع تارة شعار تصدير الثورة وتارة تتحدث عن علاقات ودية مع دول المنطقة،‮ ‬فبمن نثق وبمن نصدق؟ وأي‮ ‬الخطابين نعده هو المعبر الحقيقي‮ ‬عما‮ ‬يفكر به رجل حسينية جمران؟


المواقف لا‮ ‬يمكن مقايضتها،‮ ‬فلا‮ ‬يجوز أن نقبل أن نسير وراء الخميني‮ ‬مغمضي‮ ‬العيون وهو‮ ‬يسعى لقضم أرضنا العربية جزءاً‮ ‬بعد جزء،‮ ‬لمجرد أنه ركب قطار فلسطين،‮ ‬التي‮ ‬يعرف كم لها من الرصيد النفسي‮ ‬والسياسي‮ ‬والأخلاقي‮ ‬والديني‮ ‬لدى كل مواطن عربي،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإنه وهو لم‮ ‬يقدم لها شيئاً‮ ‬غير آخر جمعة من كل رمضان والذي‮ ‬يزورنا كل عام وله قدسيته عند المسلمين،‮ ‬فهو حتى في‮ ‬هذا الموقف لم‮ ‬يقدم لا للقدس ولا لفلسطين شيئاً،‮ ‬بقدر ما قدم لنفسه من رصيد متخيل بأن أجهزة الإعلام ستكرر أن هذا اليوم اختاره آية الله الخميني‮ ‬ليكون‮ ‬يوماً‮ ‬للقدس،‮ ‬وكأن رمضان لم‮ ‬يكن‮ ‬يمر على العرب بهذه القدسية من‮ ‬يوم فرض الله فيه الصيام،‮ ‬أو كأن رمضان‮ ‬يمكن أن‮ ‬يمر من دون جمعة في‮ ‬بدايته وأخرى في‮ ‬نهايته،‮ ‬هذه هي‮ ‬المقايضة التي‮ ‬يدفع فيها الخميني‮ ‬وحالياً‮ ‬أحفاده وعوداً‮ ‬جوفاء مقابل حصولهم على وجاهة ورصيد سياسي‮ ‬ومعنوي‮ ‬يبتزون به أعداءهم والذين‮ ‬يرفضون السياسة الإيرانية الإقليمية التي‮ ‬تحمل هذا الموروث البغيض وتريد تنفيس بعضه في‮ ‬وجوه العرب‮.‬


الخميني‮ ‬وحرب أكتوبر‮ ‬1973؟

حتما سيبادر أحفاد الخميني‮ ‬إلى القول وأين كان الخميني‮ ‬في‮ ‬هذا الوقت؟ أما أنا فأعرف أين كان وماذا كان‮ ‬يعمل،‮ ‬ولهذا قصة أخرى‮.‬
أذكر في‮ ‬حرب رمضان،‮ ‬أو حرب تشرين الأول‮/ ‬أكتوبر‮ ‬1973‮ ‬وحينها كنت أظهر على شاشة تلفزيون بغداد‮ ‬يومياً‮ ‬لأقدم تحليلاً‮ ‬سياسياً‮ ‬لما تشهده المنطقة من تطورات خطرة،‮ ‬مع عرض لآخر المستجدات الميدانية على الجبهتين المصرية والسورية،‮ ‬وكان حاييم هيرتزوك مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مدة من الزمن ثم مندوباً‮ ‬لإسرائيل في‮ ‬الأمم المتحدة وبعدها أصبح رئيساً‮ ‬لدولة إسرائيل على ما أظن،‮ ‬هو الذي‮ ‬يحلل من تلفزيون إسرائيل وإن كان ليس بصفة مستمرة،‮ ‬وكنت في‮ ‬حينها أتعمد أن أجعل وقت حديثي‮ ‬المباشر بعد حديث هيرتزوك كي‮ ‬أتعرف على آخر المستجدات الميدانية‮. ‬بتوجيه من الرئيس الراحل صدام حسين الذي‮ ‬كان‮ ‬يشغل منصب نائب الرئيس العراقي،‮ ‬استدعى محمد سعيد الصحاف الذي‮ ‬كان مديراً‮ ‬عاماً‮ ‬للإذاعة والتلفزيون،‮ ‬استدعى عبد الأمير قاسم وهو مدير الإذاعة الفارسية من بغداد،‮ ‬وأبلغه أن‮ ‬يذهب إلى النجف لإجراء مقابلة مع رجل دين إيراني‮ ‬معارض،‮ ‬اسمه روح الله الموسوي‮ ‬الخميني،‮ ‬لأن العرب‮ ‬يخوضون معركة ضد عدو العرب والمسلمين الأول،‮ ‬إسرائيل،‮ ‬وخاصة أن هناك توجهاً‮ ‬لدعم استخدام النفط كسلاح في‮ ‬المعركة،‮ ‬وهذا‮ ‬يتطلب دعم إيران لموقف العراق والسعودية في‮ ‬هذا التوجه،‮ ‬ثم أن العراق الذي‮ ‬أرسل صفوة قواته المسلحة إلى الجبهة السورية لحماية دمشق،‮ ‬يتطلب توجيه رسالة تحذيرية من الشعب الإيراني‮ ‬إلى الشاه،‮ ‬كي‮ ‬تبقى حدود العراق مع إيران هادئة،‮ ‬لأن ذلك سيعزز من حماسة المقاتل العراقي‮ ‬في‮ ‬التصدي‮ ‬للصهاينة على جبهات القتال،‮ ‬ذهب الرجل ولكنه لم‮ ‬يتأخر بالعودة في‮ ‬اليوم نفسه مما أثار دهشتنا،‮ ‬ولكنه قال‮: (‬لقد رفض الخميني‮ ‬أن‮ ‬يعطي‮ ‬تصريحاً‮ ‬بشأن الحرب أو حماية دمشق أو خط بارليف أو استخدام النفط في‮ ‬المعركة أو حتى توجيه نداء للشعب الإيراني‮)‬،‮ ‬حينما حاولنا تكوين فكرة عن أسباب الرفض،‮ ‬قال لنا مدير الإذاعة الفارسية العراقية‮: ‬إن الخميني‮ ‬غير متحمس لأن‮ ‬يعطي‮ ‬رأيا‮ ‬يصب في‮ ‬غير إنائه،‮ ‬ويعتقد أنه إن نفذ ما طلبه منه العراقيون فإنه قد لا‮ ‬يوثر في‮ ‬الشارع الإيراني،‮ ‬ولكن النظام في‮ ‬العراق سوف‮ ‬يوظف الموضوع لصالحه سياسياً‮ ‬وإعلامياً،‮ ‬حينما علم صدام حسين بموقف الخميني‮ ‬تأسف على أن معمماً‮ ‬قبله العراق على أساس أنه معارض للشاه‮ ‬يرفض اقتناص فرصة مناسبة لمعركته،‮ ‬ولم‮ ‬يقتنع أحدنا بمبررات الخميني‮ ‬تلك‮.‬


هنا تكمن المعادلة السياسية للخميني‮ ‬وإيران كلها في‮ ‬عهدها الجمهوري‮ ‬الذي‮ ‬أقامه الخميني‮ ‬فالخميني‮ ‬سيئ ظن بالجميع وهذا من حقه فيما لو أحس أن بعضهم‮ ‬يستهدفه،‮ ‬ولكن لو كان النظام في‮ ‬العراق‮ ‬يستهدفه لما أبقاه،‮ ‬وهذا ما فعله عندما طلب منه صراحة أن‮ ‬يترك العراق عند بدء الاحتجاجات في‮ ‬إيران،‮ ‬المبدأ الذي‮ ‬يتعامل به رهط الخميني‮ ‬هو تحقيق الربح الصافي‮ ‬سياسياً‮ ‬على أن‮ ‬يكون فورياً‮ ‬وملموساً‮ ‬على الأرض،‮ ‬ومن دون أن‮ ‬يدفعوا مقابلاً‮ ‬للطرف الآخر،‮ ‬وهذه خاصية‮ ‬يتميز بها رجال الدين الإيرانيين الذين‮ ‬يلاحقون الخمس والحقوق المالية عبر شبكة من الوسطاء المنتفعين،‮ ‬واستطاعوا نقل هذه التجربة بآلياتها وحرفياتها إلى العراق في‮ ‬الزمن الأمريكي‮ ‬حتى تحول المعممون إلى طبقة اجتماعية ربما تعيد إلى واجهة الأحداث في‮ ‬العراق في‮ ‬يوم من الأيام الحبلى بالمفاجآت ما حصل ضد الكنيسة في‮ ‬أوروبا،‮ ‬لأنهم طبقة طفيلية على المجتمع تمتص ما فيه من موارد وخيرات ويريدون الكسب من دون جهد أو دفع ثمن،‮ ‬بل‮ ‬يظنون أن تصريحاً‮ ‬هنا وآخر هناك من دون أن‮ ‬يلزمهم بشيء كفيل بطي‮ ‬الوسادة لهم والسير على البساط الأحمر،‮ ‬شرط أن‮ ‬يصب ذلك في‮ ‬رصيدهم السياسي‮ ‬حصراً،‮ ‬وليس في‮ ‬رصيد القضية التي‮ ‬يتم تناولها أو رصيد أي‮ ‬طرف آخر حتى أقرب الأصدقاء إن كان لهم أصدقاء‮. ‬ولنستل مفارقة واحدة من تاريخ الخميني‮ ‬بعد أن قفز على تضحيات الإيرانيين وأصبح حاكماً‮ ‬مطلقاً‮ ‬ومنزهاً‮ ‬من المساءلة من أحد لأنه نائب الإمام الحجة ويحكم باسمه،‮ ‬بعد وصول الخميني‮ ‬إلى الحكم عد موافقة الشاه على نتائج استفتاء البحرين بالاستقلال‮ ‬غير شرعية،‮ ‬وكذلك توقيع الشاه على اتفاقية الجزائر لعام‮ ‬1975‮ ‬مع العراق‮ ‬غير شرعية أيضاً،‮ ‬ولكن حينما تتحول البوصلة نحو الجزر العربية الثلاث،‮ ‬فلا أحد‮ ‬يستطيع القول إن الشاه الذي‮ ‬أراد أن‮ ‬يتحول إلى شرطي‮ ‬للخليج العربي،‮ ‬كان في‮ ‬احتلاله للجزر‮ ‬ينفذ استراتيجية‮ ‬غربية وحصراً‮ ‬أمريكية واضحة المعالم تهدف إلى الهيمنة على المنطقة بأدوات محلية،‮ ‬وأن تلك السياسة كانت مرسومة للشاه من دوائر استكبارية من الشيطان الأكبر،‮ ‬على وفق المصطلحات التي‮ ‬يكثر الخميني‮ ‬من استخدامها في‮ ‬خطابه السياسي‮ ‬والديني‮ ‬والإعلامي،‮ ‬فهل هناك امكانية للتوفيق بين الموقفين الرافض لسياسة الشاه في‮ ‬العراق والبحرين والمتمسك بها في‮ ‬الجزر الثلاث؟ وماذا‮ ‬يريد من اعتماد هذه المعايير المزدوجة مع العرب؟


قد‮ ‬يعتقد راكبو سفينة الخميني،‮ ‬أن إغلاق السفارة الإسرائيلية في‮ ‬طهران ورفع العلم الفلسطيني‮ ‬فوقها،‮ ‬يعد سبباً‮ ‬وثمناً‮ ‬كافيين لحصولهم على أراض عربية أخرى‮ ‬يراد قضمها ومؤشر عليها في‮ ‬أدراج رئاسة الأركان الإيرانية من عهد الشاه السابق ومن عهد أبيه،‮ ‬ومن عهد العائلة القاجارية،‮ ‬ومن سبقها من عائلات حكمت بلاد فارس،‮ ‬على أنها أهداف مرشحة للضم في‮ ‬العراق أو البحرين أو في‮ ‬الخليج العربي‮ ‬فتلك قسمة ضيزى وسيواجهها العرب بمقاومة مؤكدة،‮ ‬لأن نظام الحكم في‮ ‬إيران رابح في‮ ‬كلا الأمرين،‮ ‬هو ربح عندما استخدم القضية الفلسطينية قطاراً‮ ‬للعبور فوق جسر الحدود النفسية إلى الوطن العربي‮ ‬وكسر جدار العزلة الفارسية،‮ ‬وسيربح في‮ ‬حال تحقق ذلك الحلم التوسعي‮ ‬المجنون،‮ ‬في‮ ‬إيران عقد تاريخية مركبة وراسخة في‮ ‬الضمير الفارسي،‮ ‬تمتد إلى أن بلاد فارس أرض شهدت حضارة لا تنكرها العين،‮ ‬بصرف النظر عما إذا كانت أصيلة أو هجينة أو ملفقة أو مستوردة بالكامل،‮ ‬إلا أن حضارة فارس على علو شواهدها تقوضت على‮ ‬يد العرب الذين جاءوا من جزيرة العرب ولم‮ ‬يسجل لهم سبق في‮ ‬التاريخ على ما‮ ‬يزعم اعداء العرب،‮ ‬سواء في‮ ‬فن العمارة أو الفلسفة أو الفنون،‮ ‬وإن كان الشعر العربي‮ ‬واحداً‮ ‬من أعظم افصاحات حضارتهم الممتدة من‮ ‬يوم بنى سيدنا إبراهيم عليه السلام الكعبة المشرفة فوق أرضهم،‮ ‬والتي‮ ‬توجت بنزول رسالة السماء الأخيرة على رجل منهم هو النبي‮ ‬الأكرم صلى الله عليه وسلم وبلغتهم،‮ ‬دون سواهم من الأمم الأخرى لخصال فيهم لا‮ ‬يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى،‮ ‬الذين نقلوا إليها الدين الإسلامي‮ ‬في‮ ‬بضع سنين،‮ ‬على حين أن حضارتها التي‮ ‬كانت قائمة على تخومهم وأحيانا داخل أراضيهم لم تتمكن من إقناع عربي‮ ‬واحد بالتحول من عبادة الأوثان على ما فيها من جاهلية مقيتة إلى عبادة النار،‮ ‬وتحولت فارس خلال عقد أو‮ ‬يزيد عن ديانتها إلى الإسلام ولو ظاهرياً‮ ‬وهنا تكمن قوة الإسلام الغلابة،‮ ‬هذه واحدة من عقد كثيرة،‮ ‬وربما تأتي‮ ‬بعدها عقدة لا تقل عنها تأثيراً‮ ‬في‮ ‬صياغة سلوك الشخصية الإيرانية الحاقدة والمعقدة في‮ ‬حقيقتها والمتظاهرة بالتسامح والمتعايشة بوجه ثان أو ثالث أو أكثر مع الآخر،‮ ‬وهي‮ ‬عقدة عدم قدرة الفرس على حكم العرب حتى الآن وتستنهض فيهم الرغبة في‮ ‬الوصول إلى هذا الحلم الجميل،‮ ‬على حين أنهم‮ ‬يظنون أنهم أصحاب حضارة أعرق مما‮ ‬يمتلك العرب،‮ ‬يضاف إلى هذا أن القبائل التركية التي‮ ‬شكلت نواة للدولة العثمانية،‮ ‬كانت قبائل همجية ومتخلفة وبلا رصيد حضاري،‮ ‬فجاءوا من المجهول وتحولوا من القتل إلى بناء دولة جديدة أصبحت مع الوقت إمبراطورية تدق أبواب فينا بقوة،‮ ‬وحكموا الشرق والغرب،‮ ‬ولهذا أججت هذه الفكرة أحقاد فارس التي‮ ‬لا دواء لها فالعقد تتركب عند الإحساس بالعجز عن تنفيذ أحلام مريضة،‮ ‬فخرج الفرس على الدولة العثمانية وتعاضدوا مع الصليبين في‮ ‬حروبهم ضد الدولة العثمانية بعد أن انسلخوا عنها،‮ ‬مما‮ ‬يعد مأخذاً‮ ‬أخلاقياً‮ ‬ودينياً‮ ‬على بلاد فارس لن تستطيع الدفاع عنه أبداً‮ ‬أنها عقدت حلف مصلحة مقدس وغير مكتوب مع أوروبا المسيحية،‮ ‬لتشتيت جهد الدولة العثمانية ومنعها من مواصلة نشر الإسلام في‮ ‬أوروبا،‮ ‬حينما كانت قوات الدولة الفارسية تستغل أحرج وقت تمر به الدولة العثمانية عندما تكون قواتها مشتبكة مع الدول الأوروبية،‮ ‬فتشن عليها هجمات تضطر العثمانيين إلى إعادة انتشار قواتهم وتعيد جزءاً‮ ‬من قواتها من‮ ‬غرب أوروبا إلى حدود الدولة العثمانية في‮ ‬العراق مع الدولة الفارسية،‮ ‬على هذا فإن فارس لن تتوقف خططها الهادفة إلى محاولة إخضاع العرب لحكم أعجمي‮ ‬جديد وهذه المرة حكم فارس في‮ ‬إمبراطورية الولي‮ ‬الفقيه التي‮ ‬يجب أن‮ ‬يخضع لها العرب من دون استثناء،‮ ‬ولا‮ ‬يهم من‮ ‬يقع إلى الشمال من إيران أو من‮ ‬يقع إلى شرقها،‮ ‬فلا عقدة تفوق أو دونية بين فارس وتلك الأمم‮. ‬ومن هذا‮ ‬يمكن فهم الإمبراطورية الإيرانية التي‮ ‬ترفع شعار تصدير الثورة تحت لواء نظرية الولي‮ ‬الفقيه،‮ ‬أنها لا تفكر بالتمدد الجدي‮ ‬شرقاً‮ ‬أو شمالاً،‮ ‬لأنها لا تجد الحافز لذلك على الرغم من أن أفغانستان على سبيل المثال كانت لحقبة‮ ‬غير قصيرة جزء من الدولة الصفوية حتى خرج مير محمود في‮ ‬مدينة قندهار على الشاه الصفوي‮ ‬حسين بن سليمان واحتل عاصمة الدولة الصفوية أصفهان وأسر الشاه وأسرته في‮ ‬العام‮ ‬‭,‬1727‮ ‬ثم أن اللغة الفارسية منتشرة على نطاق واسع في‮ ‬أفغانستان،‮ ‬ولكن لا‮ ‬يوجد الدافع للتمدد شرقاً،‮ ‬أما الشمال فمن المفارقات العجيبة أن الجمهورية الإيرانية الاسمية الجعفرية الإثنا عشرية وقفت إلى جانب أرمينيا المسيحية في‮ ‬حربها ضد جمهورية أذربيجان الشيعية الإثنا عشرية،‮ ‬فهل‮ ‬يجد أحد تفسيراً‮ ‬لهذا السلوك المنحرف؟


ربما كانت عيونهم المتجهة نحو الشرق أو الشمال قد فقأت،‮ ‬وبقيت العيون المتجهة نحو الوطن العربي‮ ‬وسيحين وقت فقئها‮. ‬

 

 





الخميس١٠ شـوال ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٨ / أيلول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة