شبكة ذي قار
عـاجـل










الصراع الإيديولوجي

 

انتهينا إلى حقيقة مكثفة في الجزء الأول من إن النظام السياسي العربي قد وُلد ليكون واهنا ومخترقا من جهة، وموكول إليه تدمير النسيج الاجتماعي للأمة عبر إدخال أنواع من العوق الذاتي فضلا عن عوامل الاختراق والتوجيه المسلطة عليه من القوى التي أوجدته وأعطته قوالبه السياسية والاقتصادية والبوليسية والمخابراتية. لقد كان وسيظل هذا النظام عامل إضعاف معنوي ومادي للعرب ما لم يتغير بثورة شعبية عربية شاملة أهدافها الوحدة والتحرر والانعتاق وإطلاق نوافذ الحياة الحقيقية للعرب أي بكسر قيود التبعية للغول الاستعماري الصناعي الصهيوني والتحرر نهائيا من التبعية السياسية والاقتصادية وهذا هو المعنى الوحيد للثورة العربية التي نعمل ومعنا كل القوى الوطنية والقومية والإسلامية غير الطائفية لتحقيقها. الأمة بحاجة إلى إعادة انبعاث تتمثل روح صدر الرسالة الإسلامية وما أدخلته من ثورة روحية ومادية عارمة في الهيكل العربي برمته.

 

وإذا كان النظام العربي ومعظم اللاعبين فيه من حكام قد صار احد مفاصلنا الرخوة التي تتحكم بها القوى الطامعة في كنوز امتنا وخيراتها المادية والبشرية، وصار الورقة التي تقلبها أدوات التخابر العالمية المتحكمة بسبب جبن هذا النظام وتخاذله واستعداده للتنازل عن ثوابت الأمة في الأرض والعرض والقرار، فان الصراع الإيديولوجي للقوى السياسية العربية قد تحول هو الآخر إلى سكين بيد الغول الامبريالي الصهيوني يمزق به خاصرة الأمة متى وكيفما شاء. وإذا كان اختراق الأمة عبر الأنظمة أمرا يمكن الإفلات من عقاله بانقلاب أو ثورة في هذا القطر أو ذاك فان دخول الأعداء علينا من فهم عميق لتشتتنا السياسي الناتج عن اعتماد الأمية أو شبه الأمية والانغلاق والتحجر كأسس وركائز للتأطير السياسي من جهة والأخطر من هذا هو الدخول على العرب من مقتل آخر هو التوزع الطائفي المتفجر والقابل لتحويل الاختلافات والخلافات العقائدية الدينية والطائفية إلى:

 

1-  مصدرا لتفتيت جغرافية القطر الذي أسسته اتفاقية التمزيق المسماة سايكس بيكو تحت إرهاصات حب وشهوة السلطة وتحت ذرائع المظلوميات المختلقة.

 

2-  اعتماد التوزع الديني والطائفي كمعاول لتشتيت الوحدة السكانية بعد أن تهدم قواعد التعايش الإنساني والاجتماعي بالتطرف الأهوج لحق الطوائف في تشكيل السلطة السياسية ونظام الحكم تبعا لاستحقاقات طائفية وليس طبقا لاستحقاقات وطنية كما هو معمول به في أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا ذاتها.

 

3-  الارتقاء بجدل الطوائف ومعتقداتها في الأحقية بتمثيل الإسلام من جدل نظري فكري إلى احتراب أهلي لتوفير أرضيات لمنطق الفيدراليات كخطوة أولية في طريق تنفيذ استراتيجيات التقسيم للمقسم أصلا.

 

صار واضحا الآن تماما ما نبهت له حركة الثورة العربية المعاصرة وطليعتها حزب البعث العربي الاشتراكي من إن التسييس للدين وللطوائف هو دخول للغول الصناعي الامبريالي الصهيوني من مفصل رخو في جسد الأمة، وان هذا الدخول هو الاختراق الأخطر على الإطلاق الذي منه يتم إخراج العرب من حلم الوحدة القومية ويضيعهم في عوالم الفيدراليات التفتيتية ويقوض أفق العروبة الواسع إلى دكاكين متحاربة تحت ستار حماية المذهب أو حق المذهب بالحكم بعد أن تثبت أحقيته بالجنة كفرقة فائزة ... الفوز بصفة الفرقة الفائزة هو المفتاح للفوز بالسلطة ويوم يفوز المذهب المسيّس بالسلطة يقابله عند ذاك استحقاق مقابل لعشرات الدكاكين التي لا يمكن أبدا جمعها في وزارة واحدة ولا ميزانية واحدة ولا جغرافية واحدة. انطلاقة جديدة وبعث لرميم روح الصراع الكنسي المندثر هو الذي أنجب الفكر اليميني المتطرف للصقور في أميركا وامتداداته في الدول العظمى والصغرى الصناعية التي تحركها سياسيا واجتماعيا ومخابراتيا شراهة السطوة على كنوز العرب وجاءت الولادة بخلايا سرطانية لا تعرف دربا للنمو إلا بالانشطارات الخبيثة. لقد أدركوا إن جهل العرب وفقر حالهم وضعف ثقافتهم وتعليمهم هي عوامل القتل التي ستركب أمواج الربيع العربي المزعوم إذا ما توزعت على مكوناتها الطائفية سياسيا فيصير عندنا في الإسلام 70 فرقة طبقا لقول ينسب إلى رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يكون زعيم واحدة من  زعماء هذه الفرق يقرأ قول الرسول من زوايا ايجابية تعبر عن تعدد الرؤى الخيرة في خدمة الدين وأهله ولا في احتمالية أن تكون هذه التعددية عنوانا لازدهار الحياة المرتبط بتنوع حديقتها الغناء ولا باحتمالات أن تمارس السبعين فرقة حياة ديمقراطية بأبهى صور الحرية التي ولدت في صدر إنسان الرسالة المحمدية ... فالدخول الامبريالي على هذه التعددية جاء في لحظة زمنية لا يمكن للإنسان الخاضع لسطوة أي من الفرق السبعين لا يرى في الفرق الأخرى إلا كفارا أو خارجين على الدين وهو لوحده .. الفرقة الفائزة ,وانه مستعد تماما أن يقاتل ويحترب تحت هذه اللافتة في حين انه يتمرد ويهرب ويدّعي المظلومية لو دُعي للقتال دفاعا عن الوطن والأمة !.

 

تعقد الدهشة لسان أي عاقل حين يفكر بحادثة عابرة في سطور الأيام السوداء التي تلت احتلال العراق وغمرت الأيام اللاحقة تفاصيلها دون أن تغرق كينونتها المعبرة عن عقلية الكهنوت الناتج من نطفة الغزو والاحتلال عندما زار أحد قادة الطائفية السياسية المملكة العربية السعودية منتقلا من كربلاء التي غزاها الوهابيون يوما من ارض المملكة لهدم أضرحتها ليكون محور وهدف الزيارة هو التباحث مع قادة المملكة لبناء أضرحة لائمة البقيع في السعودية!!. إن العمق الذي لا نظن إن هذا القائد الطائفي البغيض يدركه لهذه الزيارة لأنه ابعد بكثير من إدراكه الساذج البليد، هو أن الرد على الغزو الوهابي قد ولد من بين ثنايا الوضع الذي ساعدت المملكة على إنجابه بمساعدتها السافرة للغزو والاحتلال وان الصراع قد بدأ بين دولة الأضرحة وبين المملكة، وان شعب المملكة الشيعي قد بدأ يتنفس روائح الطائفية القادمة من العراق.  إن مَن يتمعن في فحوى ومضامين هذه الرسالة المبكرة من عمر الاحتلال سيدرك إن النفوذ الاستعماري من لجة الطائفية لم يكن مصمما لإغراق العراق فقط، بل هو وليد الفهم المتعمق لليمين الصهيوني المتطرف في أميركا وامتداداته في دول الغول الامبريالي المتوحش لاختراق الأمة من هذا المفصل الواهن وبالتأسيس على معطيات تاريخ الصراع الكهنوتي المعروف.

 

وإذا كانت حركة التدمير المعتمدة على الطائفية الدينية والسياسية قد وضعت موضع التنفيذ أول ما وضعت في التعاقد الإجرامي الخياني بين أحزاب الطوائف وبين أميركا في مرحلة إعداد خرائط غزو العراق فان ثمارها تنضج يوميا تحمل سموما مهلكة في ما سمي بالربيع العربي حيث اخترقت ثورة العرب الطامحة للتخلص من النظام السياسي العربي والبحث عن فرصة يستحقها العرب في حياة كريمة، وكانت نقاط الاختراق تعتمد على استثمار العداء العقائدي بين أحزاب الطوائف لإنتاج اقتتال في الشارع العربي قد يتطور، بل انه فعلا يحمل كل ممكنات التطور إلى حروب أهلية مدمرة يكون فيها بحر الدم العربي هو مسلك السباحة المجرمة لغول الصهيونية للوصول إلى أهداف تمزيق جديد وخنوع أكثر إذلالا لمواليد سايكس بيكو والأرحام التي أنجبتهم.

 

والمظهر الآخر من مظاهر الخرق الإيديولوجي هو هذا التبرعم العجيب الذي شهدته مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لأحزاب تحمل عقائد متقاتلة كالأحزاب اليسارية الشيوعية واليسارية القومية والرجعية والوطنية والقومية بمختلف درجاتها الاشتراكية والديمقراطية . إن معظم هذه الأحزاب لا تحترب مع بعضها البعض فقط لأسباب استلام السلطة والاستحواذ على القواعد الشعبية والسيطرة على خزائن الدول السايكس بيكوية، بل إن الأخطر من هذا هو إنها قد صممت حياتها لتحترب مع الطوائفيين من أحزاب الدين السياسي.

 

إننا نتساءل بعفوية مندهشة لم لا يوجد هذا الكم الهائل من الأحزاب العلمانية والدينية والعرقية والاجتماعية والبيئية والجنسية والمالية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية في أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا مثلا؟؟ حيث إن هذه البلدان يتداول فيها السلطة منذ عشرات السنين حزبين فقط لا أكثر ولا اقل وان حصلت ائتلافات حكم فلن تعبر ثلاث كتل سياسية أو أحزاب ، وإن وجد فيها حزب ثالث فانه سيقضي عشرات السنين يحبو حتى يُطال البرلمان! ولماذا لا نجد في هذه البلدان أحزابا دينية يُحسب لها أي وزن؟ ولماذا لا يوجد قناة فضائية لكل فريق كرة قدم ولكل دكان طائفي تبث سموم الخلافات الدينية والاجتماعية والعرقية؟ ولماذا لا يتصدر الحكم فيها زعيم يشبه مقتدى الصدر أو عمار الحكيم أو جلال الطالباني ممَن مهروا أصابعهم العشر بالولاء لغير بلدانهم واعتبروا الولاء الديني أو الطائفي هو مرجعهم الأعلى؟ ونحن نسال هذه الأسئلة المريرة ونحن نعرف إن الكهنوت الديني الكنسي مازال حيا يرزق ويحرك أعصاب بوش الكبير والصغير ويحرك أعصاب ليفني الصهيوني الفرنسي غير إن خيوط تأثيره لم تتحول بعد العصور الوسطى إلا إلى أداة لقتلنا وإعادة نشره بيننا في صيغة أحزاب طائفية وعرقية وأخرى تدعي اليسار واليمين .

 

الصراع الإيديولوجي بين الأحزاب المولودة من رحم الفتنة والتمزيق والمؤدلجة بعقائد دينية وطائفية، لا تمت إلى الدين ولا إلى المذاهب الإسلامية الكريمة بأية صلة غير القشرة الخارجية المبنية بناءا موحيا لا صلة له لا بالواقع ولا بإيحاءاته المعلنة وبينها وبين الأحزاب الوطنية والقومية والتشكيلات الدينية المؤمنة غير الطائفية وكذلك الصراع الإيديولوجي المدمر وغير المبرر بين القوى القومية والوطنية واليسارية الماركسية من جهة أخرى صار بؤرا للتوتر وفقدان الأمن الاجتماعي والسياسي ومناطق رخوة ليس للاختراق في مراحل لاحقة لتأسيسها، بل صارت قاربا جاهزا تركبه مكونات الغول لتحقيق غايات التآمر الذي يبقي العرب تحت مطرقتها ويحولهم إلى رصاص وقنابل وأحزمة ناسفة تقتل بعضها البعض في احتراب قائم أو مؤجل تحت الطلب ودرجاته تحددها لمسة يد أو إشارة من مركز من مراكز المخابرات لا أكثر ولا اقل.

 

وفي اللحظة التي انفجرت براكين الغضب العربي ثائرة على النظام السياسي المتهرئ الجبان الخائن العميل الفاشل المهزوم داخليا وخارجا والمتسلط بقبضات البوليس ورجال الأمن والمخترق والمحمي من ذات الجهات التي حولت الدين من عناوينه التي نعرفها حبا وإيمانا ووسطية وتسامحا إلى سموم ووسائط موت وتدمير والى استخدام القومية لإنتاج صراعات ايديولوجية بحيث يتيه العرب بين ولاء ديني وآخر ثقافي وآخر سياسي والخ، وحولت اليسار عموما إلى مواكب عزاء في قافلة لا ناقة له فيها ولا جمل .. في لحظة الرجاء التي أسس لها العرب عقودا من الزمن امتدت يد الغول لتستل معاول الإيديولوجيات المحتربة وتبدأ جرافات الفعل المضاد لثورة العرب بحراكها البغيض. ما حصل ويحصل يجعل بعض ثوار الأمة يمضون غير مكترثين بما ستؤول إليه النتائج فالمهم عندهم هو هدف إسقاط النظام، وبعضهم عاد أدراجه ليعيد قراءة المشهد فيتحفظ هنا وهناك بفعل إسقاطات وعي وذاكرة تختزن الكثير وبدا يسند ظهره إلى القوى القومية والوطنية المجربة بنقائها وإخلاصها وهي التي تحمل السلاح تقاتل الاحتلال وإفرازات الصراع الإيديولوجي, في حين عاد آخرين إلى بيوتهم يندبون حظ العرب العاثر ويتعاطون مع قدرية لا مناص من الركون إليها في تقديراتهم هي حدود إدراكهم من إننا هكذا أراد لنا القدر وعلينا أن نطيع وحسب!. الصحيح والمطلوب هو أن تدوم ثورة الأمة وان تخرج قواها الطليعية لتكون في صدارة الفعل والقيادة والتوجيه، وان تكون على الأقل بمستوى بعض أحزاب الدين السياسي التي دربت جيوشا وهيئت أموالا ضخمة لتستلم السلطة وتضع المتبقي من آمال امتنا بالتحرر والوحدة في مهب الريح. الدين السياسي هو الذي يحرك مشهد الربيع المفترض وهذه هي نقطة التحفظ الكبرى لدىبعض المفكرين والمثقفين وليس وقوف بوجه الثورة كما يحاول البعض تصويره وما ندعو إليه هو أن تثور الأمة على الدين السياسي لأنه سم زعاف يحرق شرايينها ويدمر وجودها تماما، تماما مثلما ينهي وجودها تخلي القوى التقدمية المختلفة عن دورها وترك حركة الجماهير الثائرة كاحتمال وحيد لإنتاج مخرجات ثورية يتمناها العرب دون صدارة لطلائعها الثورية ألمعروفه ... الثورة الحقة تحتاج إلى طلائع قيادية وتحتاج إلى شعب ثائر مثلما تحتاج إلى وضوح في الأهداف وضمانات حد أدنى لإنتاج حالة أفضل .. نحن عرب لا نرى في ما يقسم بلداننا ثورة, ولا في ما يمزق نسيجنا الاجتماعي بحروب أهلية ثورة, ولا في إنتاج حكومات من قوى متعاقدة مع الناتو ثورة حتى لو خالفنا كل مَن يدّعون الثورة والثورية أو أكاديميّ الفلسفة النظرية أو إعلاميو القيل والقال. ودعوتنا العملية الى إسناد المقاومة العراقية وتبني نموذجها لتحرير الأمة وأقطارها من نظام سياسي لقيط ومتخاذل ومنبطح ومن الصراع الإيديولوجي الطائفي والعرقي الذي نفذت منه الامبريالية والصهيونية والمد القومي الفارسي لتمزيق العرب أرضا وإنسانا.

 

 





الثلاثاء٢٥ شعبان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٦ / تمـــوز / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. كاظم عبد الحسين عباس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة