شبكة ذي قار
عـاجـل










ستكون كارثة رهيبة, أكبر من كارثة بقاء الأنظمة القمعية الفاسدة بكثير, لو إنحرف مسار "الربيع العربي" الى هاوية الفوضى وفقدان البوصلة. فما يحدث هذه الأيام في مصر وتونس على الأخص يؤشر على أننا دوشك على الدخول الى مرحلة إختلاط الحابل بالنابل وحرق الأخضر باليابس. ويبدو أن الجميع, أفرادا وأحزابا وتنظيمات ومؤسسات قديمة وجديدة, لديهم"فاتورة "حساب طويلة مستعجلة وغير قابلة للتأجيل, ربما لأنه تمّ تأجيلها لعدّة سنوات. يجب العثور على طرف ما لكي يسدّدها.


ولا ريب أن الفوضى بحدّ ذاتها, طبعا بغض النظر عمّا تعكسه أو تتركه من نتائج, هي "نظام"مفيد وملائم جدا للكثيرين, خصوصا لأولئك الذين تنقصهم قاعدة أو ركيزة صلبة للبقاء على مسرح الأحداث أو على الأقل للمساهمة ولو بحصّة متواضعة في صناعة الحدث. ومن الخطأ الاعتقاد, كما كان يتصوّر مجرم الحرب بوش الصغير, أن ثمّة فوضى خلاّّقة. فالفوضى لا معنى آخر لها سوى الفوضى. و قد تنتهي الى مرحلة خطيرة يصعب فيها حتى تسميتها بالفوضى.


إن جميع الثورات التي حصلت في العالم قديما وحديثا جاءت من أجل التغيير وبناء المستقبل. بينما ثورات العرب, أو البعض منها, ما زالت أسيرة الماضي. وكلّ همّ الثوار, مع إستثناءات تكاد لا تُذكر, هو محاكمة رموز النظام السابق. وكأن الهدف والغاية ومغزى الثورة هو فقط كيفية التعامل أو التخلّص من النظام السابق ورموزه. لا أحد من الثوار, لا في مصر ولا في تونس ولا في سواهما, يتحدّث مثلا عن الاقتصاد وعجلة الانتاج التي تكاد أن تتوقّف عن الدوران, أو عن إدارة الدولة وبناء مؤسسات عصرية حديثة, ولا أحد لحدّ هذه اللحظة, حسب معرفتي المتواضعة, طرح خطّة متكاملة أو مشروعا حديثا لحكم البلاد وإدارة شؤون العباد.


إن ثوراتنا تعيش, وهذا أمر محزن للغاية, مرحلة تصفية الحسابات مع بعضنا البعض ومع الآخرين, خصوم جُدد وقدماء. وليس مستبعدا أن يطول المخاض أو أن ينتهي بتشويه الجنين أو موته لا سامح الّله. وصحيح أن الأنظمة التي سقطت والعروش التي تهاوت لا يمكن أن تعود مرّة أخرى لكن الصحيح أيضا هو إن البديل, رغم جرعات التفاؤل التي نتناولها يوميا, لا يبعث على السرور ولا يُبشّر بالخير. وثمّة خوف كبير وإحساس متزايد بانّ البعض بقصد أو بدونه يسعى أو يحاول, بعد أن أغرته وخدعته ديمقراطية العراق "الجديد" الموبوءة بالأمراض المُعدية, إستنساخ تلك التجربة الخادعة. وهي والعياذة بالله شرٌّ ما بعده شرّ وبلاء لا بلاء من بعده .


إننا نتمنّى, بالرغم من أن التمنيّات شيء وواقع الثورات العربية شيء آخر, أن لا يأتي يوم نجد فيه أنفسنا صفر اليدين بعد أن قدّمنا مئات الشهداء وآلاف المصابين في أكثر من ميدان تحرير وشارع عام. وإذا إستمرّ "الثوار" في الخوض في صغائر الأمور والسعي المحموم من أجل مصالح حزبية أو فئوية أو طائفية ضيّقة, تاركين مصالح الشعوب والأوطان خلفهم, فاننا سنرى ثمار الثورات وقد سُرقت من أيدي أصحابها الحقيقيين الذين إنحرفوا, كلّ يغنّي على ليلاه, عن صراط الثورة المستقيم.


إن ثورات الشعوب التي سبقتنا لم تأتِ فقط لمحاكمة أقطاب ورموز النظام الذي أسقطته. فقد سبقتنا شعوب أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية في ثورات, بعضها سلمي وبعضها الآخر دموي باهض الثمن, الاّ أننا لم نسمع إطلاقا أن مظاهرة مليونية خرجت تُطالب بمحاكمة الرئيس السابق ورموز نظامه. ويُفترض أن يكن هذا الأمر واحدا من أهداف الثورة المتعدّدة, وليس الهدف الوحيد. ومن المؤلم حقا أن الأخوة الثوار في مصر مثلا, والذين لديهم قدرة على حشد وتنظيم آلاف الناس ودفعهم الى التظاهر في الشوارع, ما زالوا يراوحون في نفس المربّع الأول. وهو مربّع بدأ يضيق شيئا فشيئا وقد لا يتّسع للجميع مستقبلا.


تمرّ ايّام ُ الثورات ولياليها في مصر وفي تونس وفي سواها من بلاد العرب بين حراك وعراك وقصف عشوائي بشتى أنواع الكلمات والتعابير, بين ثوّار حقيقيين وثوار مزعومين وثوّار بالايجار وآخرين ركبوا قطار الثورة قبل دقائق من إنطلاقه. وأصبح التهديد بخروج "مظاهرة مليونية" ضد هذا الطرف أو ذاك, كما سمعنا مؤخرا من بعض الجماعات الاسلامية في مصر, سلاحا خطِيرا قد يقضي في النهاية على الجميع.


بل صار هدف غالبية الثوار تقريبا, والذي لا علاقة له أبدا باهداف أية ثورة حقيقية, هو الاستحواذ والحصول على أكبر حيّز ممكن على خشبة المسرح ذي الأنوار الخلاّبة, بدل الحفاظ على الثورة والسعي لتظافر جهود القوى التي فجّرتها لتحقيق أهدافها والمضي بها قُدما قبل أن تفلت من أيدي الجميع وتتحوّل الى"نكسة"جديدة تُضاف الى تاريخ عرب اليوم الحافل بالنكسات والهزائم والمآسي.

 


mkhalaf@alice.it

 

 





الثلاثاء٢٥ شعبان ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٦ / تمـــوز / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد العماري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة