شبكة ذي قار
عـاجـل










لم تكن لمعظم الحكام العرب عندما صعدوا الى سدّة الحكم أية شرعية أو مصداقية أو تخويل شعبي. ولنيل القليل من تلك الشرعية بذلوا كل غالٍ وثمين من أموال الشعب وثرواته, وإستخدموا كل وسيلة وكل حيلة دون أن يحقّقوا أهدافهم. تجنّد تحت خدمتهم وأمرتهم المئات بل الالاف, من أطياف وفئات ومهن مختلفة, من المثقف الحرباوي ) نسبة الى الحرباء ( والفنان النرجسي الى النجار وبائع الصحف اليومية وسائق الأوتوبيس. أراد البعض منّا, وأدى مهمّته بكل إتقان وتفاني, أن يصنع من الحاكم في بلده "ظل الله"على الأرض. دخلت صورته في أوضاع وأزياء مختلفة الى كل بيت, حتى صار جزءا من أثاث المنزل وحاجيات العائلة, بعد أن ملأت صوره الجدارية ساحات المدينة وعيون العابرين اللامبالية.


ومع ذلك فان شرعية الحاكم العربي, رغم هيمنته الكاملةعلى المال والسلطان وماكينة الاعلام الضخمة, ظلّت تدور حول الصفر, أحيانا فوقه بفليل وأحيانا أخرى تحته بكثير. أحاط نفسه بشلّة من السماسرة والمرابين وناقري الدفوف والراقصين على الحبال واللاطمين في كل مأتم. صوّرا لها البلاد وكأنها جنّة تجري من تحتها الأنهار بينما هي سجن مترامي الأطراف, والشعب أكثر وداعة ورقّة من حمل صغير. لكنهم تجاهلوا عمدا, ورئيسهم على رأسهم, إن تحت تلك الوداعة والرقّة المفتعلة والمزعومة تموج براكين من الغضب المتراكم وشَرر من الرفض الملتهب والتحدّي المتصاعد.


لم يترك الحاكم العربي لشعبه لا ربيعا ولا صيفا ولا حتى علاقة بسيطة مع المواسم والأزمنة. فرض نفسه على الكل, فصار كل شيء وهو لا شيء غير مومياء جالسة فوق كرسي وثير, يعلوها غبار النسيان والاهمال. صدأت في ذهنه وتحجّرت كل مبادرة أو خطّة أو لفتة متواضعة للاصلاح أو التغيير. فاصبح الحاكم العربي, من المحيط الى الخليج, ممنوعا من الصرف لا في اللغة العربية وحدها بل في جميع لُغات العالم. وأصبح العالم المتحضّر والمتخلّف على حدّ سواء يعتبرنا, بسبب حكامنا وتهاوننا وتهادنا معهم وصبرنا عليهم, حالة إجتماعية شاذّة وظاهرة غريبة عن مجرى التاريخ وحركة التطوّر.


وبما أن الحاكم العربي, ومنذ نعومة أظفاره يتعلّم ألف باء الغطرسة والعجرفة والتعالي على الملايين من أبناء شعبه, ويعتبر جنابه التعيس معصوما عن الخطأ, فقد أوقع نفسه, ومنذ الطفولة أيضا, في وهم الخلود والديمومة في برجه العاجي بعيدا عن الرياح العاتية وأمواج البحر المتلاطم وطوفان الشعوب الخارجة من قيعان البؤس والفقر والحرمان والاذلال المتعمّد والشوق, نعم الشوق الغريزي لتنفّس هواء الحرية. لكن الحاكم العربي أصرّ على عناده, رافضا الرحيل"المشرف"ورافضا الأصلاح ولو في حدّه الأدنى, ورافضا تحقيق مطالب شعبه, وجميعها عادلة وعاجلة ومستحقّة. وضع الشمع والرصاص في إذنيه وتوارى عن الانظار بينما يُراق دم مواطنيه تحت نوافذ قصره المُحاط بألف جندي ومتراس وحاجز كونكريتي.


قبل أيام قال حاكم عربي دارت وتدور عليه الدوائر هذه الأيام, "سوف لا أخرج من بلدي لا ميتا ولا حيّا".وشو يعني هذا الكلام؟ لا شيء غيراالعناد واللامبالاة. عناد إبن نوح "عليه السلام" عندما دعاه أبوه الى الصعود الى السفينة قبل سويعات من الطوفان, فقال ذاك الأبن العاق "سوف آوي الى جبلٍٍ يعصمني من الماء". لكن نوح كان يعلم أن "لا عاصم من أمر الله بعد اليوم". وحصل ما كان مُقدّرا أن يحصل. فليت الحاكم العربي فلان الفلاني, وقبل أن يخرج حيّا أو ميّتا أو مُصابا, كما حصل للرئيس اليمني علي عبد الله صالح, يدرك أن الوطن, حتى وإن وجد فيه عشرات الخونة والعملاء والمتسلّقين على أكتاف البسطاء, هو أكبر وأهمّ بملايين المرات من كرسي السلطة.


وأن رحيلا واحدا لشخص أو لمجموعة اشخاص قد يمنع تدمير وطن بالكامل وضياعه لعشرات السنين, وتفكيك شعبه الى ملل ونحل وأعراق وطوائف تتقاتل فيما بينها على "الفُتات" التي خلّفها لها غُزاة وطامعون ومحتلّون يرتدون أقنعة حقوق الانسان وثياب الديمقراطية الفضفاضة وقبعات العدالة المزيّفة. شاركوا وساهموا بالمال والسلاح والدعم اللامحدود الحاكمَ العربي وبرضاه التام طبعا, في إذلالنا وتخلّفنا وتهميشنا وإقصانا خارج المكان والزمان. فتحوّلنا بفضلهم, أي بفضل رافعي راية الحرية والديمقراطية الخفّاقة في كل مكان الاّ في ربوعنا, الى قطعان من الماشية, تمشي على قدمين لا على أربعة. ولكن ما ضاع حقُ وراءه مُطالب.


mkhalaf@alice.it

 

 





السبت٠٩ رجـــب ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / حــزيــران / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد العماري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة