شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل حوالي عقدين من الزمن أو أكثر كان تأسيس أو تشكيل حزب سياسي يقتضي توفّر شروط ذاتية وموضوعية يمليها الوضع الداخلي لبلد ما والظروف الخارجية الاقليمية والدولية المحيطة والمعنية بذاك البلد. وأهمها على سبيل المثال وجود حاجة سياسية تنظيمية فعلية ملحّة تقف خلفها قاعدة شعبية حقيقية وليست مجرد أرقام تطلقها بعض الشخصيات ولا يمكن التأكد منها. وهذه الحاجة هي التي تبرر ضرورة وجود كيان سياسي جديد يعبّر عن طموحات وتطلّعات وأماني قطاعات معيّنة في مجتمع ما. فضلا عن توفّر الحد الأدنى والمقبول جماهيريا من الأفكار والمبادي والقِيم التي تعتبر ركائز أساسية لبناء وديمومة أي حزب سياسي.


لكن في السنوات الأخيرة, خصوصا في عالمنا العربي المأخوذ بالكميّة والكثرة لا بالنوعية والجودة, بدأ موضوع تشكيل أحزاب أو كيانات سياسية أبسط ما يكون. وبحكم متابعتي اليومية لبعض البلدان, كالعراق "الجديد "مثلا وجدت أنه من الصعب على أي إنسان نزيه أن يفتح دُكانا لبيع الفواكه والخضروات, لكنه يستطيع وبكلّ سهولة, حتى وإن كان مجرما سابقا أو لصّا محترفا, أن يشكّل حزبا أو كيانا سياسيا سرعان ما تتمّ الموافقة القانونية عليه. ويكفيه في ذالك, الانخراط اللامشروط في مسرحية"العملية السياسية"والموافقة المسبقة على تأدية أي دور يُناط به, ولو دور بائع شاي أو سجاير بالمفرد أمام بناية البرلمان.


ويبدو أن ثمة فرقا كبيرا, طبعا لصالح دكان بائع الخضر والفواكه, وهو إن ألأحزاب التي وُلدت وتولد هذه الأيام لا تمتلك "زبائن"أو أتباع دائمين أو مخلصين ليس فقط بسبب كثرتها وتشابه بضاعتها وطروحات منظّميها, بل لأن غالبية الناس, وإطلاقا من حدس ووعي فطري, أخذت تبتعد شيئا فشيئا عن باعة السياسة المرابين وما يروّجّون له من بضاعة عفى عليها الزمن وفسد معظمها في مخازن "مقرات" تلك الأحزاب ودهاليزها المظلمة.


فضلا عن ذلك أن معظم الساسيين الذين قذفت بهم أمواج ورياح الفوضى الخلاقة الى شواطيء العرب, وجدوا أنفسهم غرباء دخلاء, وهذه حقيقة ثابتة غير قابلة للدحض أو للشك, وسط مجتمعات وشعوب فقدت منذ زمن طويل أية صلة أو رابطة أو تواصل معهم, ولا حتى إهتمام من أي نوع كان, اللهم باستثناء رابطة القربى والدم وبعض الذكريات القديمة.


أما بائع الخضر والفواكه, وهنا حسب رأيي المتواضع يكمن الفرق بين دكانه ودكاكين الأحزاب السياسية, هو أن الرجل يعرض بضاعته للجمهور بشكل مكشوف وأسعاره واضحة ومكتوبة على وريقات أو لوحات صغيرة, فضلا عن أنه معرّض في أية لحظة للرقابة والمحاسبة إذا أساء أو خرق القانون المعمول به في التجارة. ولديه منذ اليوم الأول لبدء عمله زبائن يزداد عددهم بمرور الأيام. أما الدكان السياسي, ورغم الاناقة والديكور ومظاهرالترف والبهرجة والدعاية, فهو يفتح أبوابه بناء على رغبات أو أهواء أو طموحات بعض المتنفّذين والمتمكّنين ماديا, بلا زبائن ولا أسعار ولا مراقبة أو محاسبة من أي طرف كان.


والخلاصة أن الدكان "السياسي" يفتح أبوابه بانتظار الرزق والفرج , أي الانصار والأتباع والمؤيّدين الذين لا يعرف في الغالب شئيا لا عن عددهم ولا عن تواجدهم ولا عن دوافعهم للتوجّه الى هذا الدكان"السياسي" أو ذاك. وقد يتعجّب المرء من أن الأحزاب والكيانات السياسية, ليس في عراقهم الجديد فقط, أخذت تنمو بشكل مخيف كالأعشاب الضارة أو كالأمراض المتنقّلة, بينما كلّ ما له علاقة بمصلحة المواطن العراقي, ليس فقط الكهرباء والماء والدواء والخدمات ألأخرى, يسير ببطء سلحفاة مرهقة ومُصابة بالكساح.


والمضحك في ديمقراطية العراق الجديد, والتي بدأت عدواها تنتقل الى بعض الدول العربية, هي أن الكثرة في الأحزاب والكيانات, وما عداها من هموم ومشاغل الناس يذهب الى الجحيم, دليل عافية وتقدّم ومواكبة للعصر وتطبيق حرفي للديمقراطية وحرية التعبير والرأي والاختيار. لكن لا أحد من أصحاب الدكاكين السياسية, في العراق وفي غيره من بلداننا المُتخمة بالأحزاب والتنظيمات, يسأل نفسه مثلا لماذا إكتفت البلدان الأوروبية وأمريكا أيضا, وهي بلدان أكثر ديمقراطية بالتأكيد من عراق الطلباني والمالكي والبرزاني وعلاوي, بعدد قليل من الأحزاب, ثلاثة أو أربعة أحزاب على الأكثر.


تتبادل فيما بينها السلطة في عملية سلمية عبر إنتخابات ديمقراطية لا يشكّ أحد في مصداقيتها أو نزاهتها. يتقبّل الجميع نتائجها سواء كانت إيجابية أم سلبية. بينما نحن في العراق "الجديد" لم يشفِ غليل ساستنا الجدد ولا يشبع شهواتهم "الديمقراطية"وجود 555 حزب وكيان سياسي مسجّلة لدى ما يُسمى بالهيئة العليا "المستقلّة" للانتخابات ! تتناطح فيما بينها, وإستخدامي لفعل النطح في محلّه تماما, كالخرفان والثيران والأبقار على موطيء قدم, يكفي أن يكون فيه حيّزا من العشب والماء وبضعة دولارات أمريكية, في محميّة المنطقة الخضراء.


ولو دقّقنا النظر في هذه الأحزاب, تاركين جانبا مصادر تمويلها ودعمها ومن يقف ورائها وحقيقة وجودها من عدمه, لوجدنا أنها عبارة عن نسخة مكرّرة لعشرات المرّات من نفس المخلوق أو الكيان السياسي, إضيفت لها فقط أسماء وشعارات مختلفة مغرية للناظر لتكون قابلة للتداول والتبادل في أسواق العهر والنفاق والسمسرة السياسية المستمرة منذ إحتلال العراق وحتى يومنا هذا.

 


mkhalaf@alice.it

 

 





الثلاثاء٠٥ رجـــب ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٧ / حــزيــران / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد العماري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة