شبكة ذي قار
عـاجـل










حينما يعوض الأمريكي بمليوني دولار لمجرد ظنٍ مريض بأن احتجاز ثلاثة أيام في عام 1990، كان مبررا كافيا لإلحاق أذي نفسي يبرر دفع هذا التعويض الخرافي ، كيف لا والأمريكي جاء من سلالة قوم آخرين هم فوق البشر بمراتب لا تعد ودون الملائكة بمرتبة واحدة ، فهذه رسالة سياسية أمريكية بمنتهى البلادة للعالم أن يقف عندما يمر الأمريكي ثم ينحني له بسبب الطفرات الوراثية التي يتميز بها ، ولأن أمزجة هؤلاء من زجاج فهم لا يحتملون ذرة غبار تعكر صفاء لوحهم أو زرقة عيونهم ، على هذا كان يجب أن يعوض الأمريكي على قدر مكانة الولايات المتحدة المفترضة بقوة البطش والطيش في الساحة الدولية وليس على قدر ما لحق بهم من أذى أو مكانتهم الانسانية المجردة .


وليست التعويضات العراقية للمنزعجين الأمريكان من احتجازهم في فنادق الخمس نجوم ، هي الأولى التي تريد الإدارة الأمريكية أن تفرض بها على العالم طوعا أو كرها قواعد جديدة في القانون الدولي ، فقد حصلت حادثة أخرى حينما فرضت تسوية متعلقات حادثة طائرة لوكربي على ليبيا كشرط لغلق الملفات القديمة والمستجدة المرفوعة ضدها ، حينها دفعت ليبيا مبالغ مماثلة لقتلى الطائرة والتي قيل إن ليبيا تقف وراء خطة تفجيرها في أجواء اسكتلندا ، ومع ذلك لم تقف خطة الغرب ضد ليبيا عند هذا الحد ، إذ استمرت الخطط حتى وصلت الأمور هناك على ما هي عليه اليوم .


من يتابع تشدد الولايات المتحدة بشأن ما يتعرض له أبناؤها في مختلف أرجاء العالم من مشاعر الكراهية وأحيانا الرغبة بالانتقام ، بسبب سياسات بلدهم الرامية لإخضاع العالم لجبروت الهيمنة الأمريكية وتحويل شعوبها إلى ما يشبه دور العبيد في مزارع الجنوب الأمريكي قبل الحرب الأهلية الأمريكية ، لا بد أن يستنتج دون عناء أن هناك عنصرية من نوع جديد تشق طريقها على مستوى الدول بعد أن ظلت العنصرية على مستوى الأفراد والجماعات لعدة قرون ، عانى فيها السكان الأصليون للولايات المتحدة وكذلك الزنوج من مآس كبرى ما تزال جروحها غائرة في الوجدان الأمريكي ربما لن يعوضه وصول رئيس زنجي للولايات المتحدة والذي على ما يبدو وعلى وفق مبدأ التعويض عن الماضي فها هو يمارس هذه العنصرية مع الدول الأصغر في العالم ، ولأن أمريكا لا بد أن تخترع عينات لمختبرات التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإغناء بحوثها السياسية والاجتماعية ، فإنها نقلت نموذج الطبقات السابق من الداخل إلى الخارج ومن مستوى العلاقات بين الأفراد إلى ميدان العلاقات بين الدول ، هذا يقتضي بالطبع وجود طبقة للأسياد تقودها الولايات المتحدة ولتقابلها طبقة للعبيد هي دول العالم الرابع والخامس وأبنائها الذين لا يملكون من حطام الدنيا حتى أنفسهم ، وربما تطول الحقبة الأمريكي أو تقصر تبعا لقدرة الآخرين وصبرهم على المواجهة والتصدي ، وتبعا لقدرة أمريكا نفسها على تجديد نفسها وشبابها وإعادة هيكلة القوانين الاقتصادية ، وتقليص تورطها في الأزمات الدولية ، وقبل أمريكا مرت على أديم الأرض وبحارها وفضائها امبراطوريات سالفة ظنت أنها الأقدر على التحكم بمسار الأحداث ورسم مصائر الشعوب ، ولكنها تآكلت من الداخل ، فسنة الله في خلقه من عباد وبهائم ونبات وجماد وحتى الدول ، أن تمر بأدوار استحالة ووسائل تعرية ونمو من طفولة وفتوة وشباب وكهولة وشيخوخة ، ثم يبدأ الخط البياني بالانحدار والسقوط ، ولا استثناء في هذا القانون الرباني العادل .


ما تعرض له العراقيون من حرب إبادة للجنس البشري منذ عام 1990 وحتى اليوم ، مع استخدام للأسلحة المحرمة دوليا على أيدي القوات الأمريكية ، ومن انتهاكات صارخة في السجون الأمريكية للكرامة الإنسانية وخاصة ما وقع في سجن أبو غريب ، وجرائم القتل المروعة التي تعرض لها العراقيون داخل منازلهم لمجرد الشبهة ، يمكن أن يعطي الدليل القاطع على أن الولايات المتحدة التي حمت نفسها بسلطان القوة لتعطل القوانين الدولية التي كانت قد صادقت عليها ، وما تزال تلاحق الكثير من دول العالم تحت لافتة عدم احترامها وعدم الالتزام بها ، هي أكبر بلد مارق وخارج على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وربما يمكنها جبروتها الزائل بحتمية التاريخ ، أن تواصل تحديها للمجتمع الدولي وتطبق عليه الموازين والمكاييل المزدوجة لعقدين أو ثلاثة عقود أخرى ، ولكنها وكما انحسرت الشمس عن ممتلكات الامبراطورية البريطانية ، فإن أساطيل أمريكا لن تبقى تجوب أعالي البحار إلى الأبد ، ولن يكون بوسعها توفير المظلة للقتلة من جنودها وقادتها السياسيين والعسكرين ، ففي القانون الدولي الإنساني وخاصة جرائم الحرب ضد الإنسانية وجرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم أبدا ، وأن من حق كل عراقي أن يعتمد أرقام التعويضات التي فرضتها الولايات المتحدة لمواطنيها على الحكومة العراقية ، كقياس قانوني وأخلاقي للمطالبة بالتعويض له عما لحق به من تعذيب أو بأحد أفراد أسرته من قتل وتغييب ، بما فيها تلك الحالات التي ارتكبت نتيجة الاحتلال الأمريكي حتى بفرض أنها ارتكبت من أطراف أخرى ، لاسيما وأن الولايات المتحدة هي التي وضعت هذا المعيار للتعويض ، مع الأخذ بفارق الأذى والآلام التي واجهها العراقيون في الشارع بعد الاحتلال أو في السجون أو الترويع الذي أصابهم نتيجة ارهاب القوات الأمريكية ، مقارنة مع سويعات الألم المسرحي الذي تعرض له المحتجزون الأمريكان عام 1990 في أبنية تتوفر فيها كل أسباب الراحة ، ومع ذلك فقد استغلت الولايات المتحدة مكانتها كقوة مهيمنة على مستوى العالم وكقوة محتلة للعراق مع تفعيل بنود الاتفاقية الأمنية الثنائية مع العراق ، لتفرض عليه هذه السرقة الكبيرة تحت لافتة التعويضات ، لمواطنيها ولكثير من الذين أرادوا أن يتحولوا إلى أثرياء الفرصة السانحة واللحظة الملتبسة ، فلم يجدوا غير العراق للسطو على ثروته ، وأغفلوا أن ذاكرة العراقيين متقدة وأن أحدا لن يتمكن من مصادرة حق العراقي في ملاحقة القتلة واللصوص وإن بعدت الشقة والمسافة .


العراقي حينما يستعيد ماضيه العبقري ، يعرف أن مشروعه الحضاري النهضوي الجديد والذي استند على تلك العبقرية هو الذي أخاف الآخرين منه ، لأنه حينما كان يستذكر الماضي فأنه لم يطل الوقوف على أطلاله ، بقدر ما كان يتطلع إلى استلهام روحه وينطلق من آخر محطة وصل إليها في الرقي والمعاصرة ، العراقي هذا ينظر إلى كل من يتعامل معه على أساس التكافؤ والمساواة في الحقوق ، نظرة احترام ولا يخلي السبيل إلا لمن هو أكثر اضافات منه ، أما من ينظر إليه باستخفاف فأنه لا ينظر إليه إلا على أنه من مخلفات الماضي السحيق ، وربما يذهب بعيدا في الاعتداد بنفسه لأنه من الصناع الأوائل لحضارة الإنسان ومكانته وكرامته ولم يخذل أحدا استنجد به وقت النازلات .

 

 





الثلاثاء٢٨ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣١ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة