شبكة ذي قار
عـاجـل










ليس العبرة في أن تغيّر فحسب، بل العبرة في نوع البديل الذي تأتي به وبنتائج التغيير الإجمالية. هذا ليس مزاج ولا موقف اجتهاد فردي بوجه التغيير، ولا يُقصد به التقليل من أهمية وضرورات التغيير. التغيير الجذري الذي يصاحبه ضمان نتائج مفيدة وتحول نحو الأفضل هو الذي يحصل متصاحبا ومتزامنا مع وضوح الهدف وصلاح الحالة القادمة ورقيّها في كل التوصيفات على ما كان سائدا قبل الثورة أو الانتفاضة. بيد إن التغيير الغير معروف البدائل والغير واضح المعالم إن هو إلا مغامرة تنطوي على الكثير من اللا علمية والعشوائية التي قد تفرز أضرارا فادحة أكثر بكثير من الرجاء الذي يغمر قلوب مَن يقدم على صيغة المغامرة حتى لو كان في قناعاته ما يكفي من الأسباب لهكذا مغامرة.

 

علينا أن نقر إننا بعد مضي شهور قليلة على بدء الانتفاضات في بعض أقطار الوطن العربي نجد أنفسنا مضطرين لإعادة قراءة المشهد وإعادة تحليل بعض مدخلاته ومخرجاته على نحو يصبو فيه أحدنا إلى أن يبحث بين المدخلات والمخرجات عن هامش معقول بين أن يكون الحاصل انتفاضة شعبية أو ثورة وبين أن يكون محض مخطط و طريق جديد لإدخالنا كأمة في أنفاق جديدة من التيه والضياع والتشرذم. وإذا كان كل أبناء الأمة يرغبون بتغيير الأنظمة العربية البالية والتخلص من مناهجها التي جلبت لنا الكوارث فان الواجب أن لا نلقي بأنفسنا إلى المجهول في قفز غير موزون في الفراغ و نقف ونتساءل .. ما نوع البدائل ؟؟ وان من حقنا أن نرفض كثوار ومثقفين وأهل علم أن يكون من بين أدوات التغيير طائرات الناتو وأشباه دول كانت ومازالت علامات عار في تاريخ أمتنا العربية حتى لو كان مَن يحكمنا هو الجن الأزرق أو الشيطان بعينه.

 

الثورة عمل علمي يقوم على أسس واضحة ومعرفة شأنه شأن أي مشروع للانجاز العلمي. ثمة مشكلة محددة وافتراضات موضوعة للحل وأدوات تحليل وقياس ونتائج معرفة سلفا أو في الحد الأدنى قابلة للتفسير والتأويل والاحتواء. وأي باحث علمي يواجه مشكلة في أي من مستلزمات البحث فان عليه أن ينتظر توفير الممكنات ويرجع إلى منابع خطه الفكري أو البحثي وأدبياته والموارد البشرية الشريكة أو الساندة القريبة ليبني أو يشتق أو يدرك مشكلة أخرى أو خطا بحثيا آخر قد يقوده تلقائيا إلى حلول لمعضلته الأولى. والثورة ومَن يتصدى لها يجب أن لا يبتعدوا كثيرا عن روح التقصي والترقب والمراجعة العلمية إلى أن تنضج الفكرة والأدوات وآفاق ما بعد التفجير.

 

الثورة عملية تغيير سياسي واجتماعي واقتصادي وما يرتبط بها من أنشطة إنتاجية واستهلاكية مختلفة. هي عملية تصدي لمشكلة أو مشاكل نظامية وقانونية واقتصادية وإعلامية وخدمية وغيرها بهدف تقويض القائم وإنتاج حال أفضل ومتقدم في أوصافه الإجمالية عما كان قبل الثورة. الثورة فعل وطني بالدرجة الأولى تعتمد طاقات الشعب وتقودها الطلائع المتصدية للتغيير الثوري من أحزاب وقوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني, وتفقد كامل معانيها ووصفها إن شذت عن مجمل هذه التوصيفات والتطبيقات. إسقاط الأنظمة احد أهداف الثورة لكنه ليس الهدف الأوحد، بل إن إسقاط النظام بحد ذاته هو معضلة إن لم يتم بأيدي أبناء الوطن وبالاعتماد على قواهم الخالصة النقية المؤمنة، وبعيد عن تدخل قوى خارجية معروفة بالتدخل ليس لعيون الشعب، بل لأجل مصالحها التي تتقاطع بديهيا مع إرادة ومصالح الشعب، وان لم يكن البديل معروف الهوية وواضح البرنامج ومن ذلك أن يكون البديل مؤمنا إيمانا جديا وقطعيا بالنظام الديمقراطي والتداول السلمي والدوري للسلطة باعتبارها هي النظام الذي يفرض حاله على انه هو الأسلم في هذه الحقبة من الزمن.

 

وللثورة مفرداتها ومصطلحاتها وعباراتها المعبرة عن الحلم الموعود من انجازها والبناء المزدهر المرغوب من وراءها .. فان لم يكن لأية ثورة لغتها والأدوات المرتبطة بها فان هناك لبس حقيقي في مضامين تفجيرها وفي طبيعة أدواتها البشرية وعقيدتها الاجتماعية والسياسية. فالثورة في ليبيا وسوريا مثلا حين تستعير مصطلحات ربيع الثورة والألق الديمقراطي واستشراء الفساد والإصلاح السياسي حق وواجب من أفواه زعماء أميركا وفرنسا وانجلترا فإنها بذلك تعلن عن أميتها وجهلها وعجزها وعن دخول مقنن أو مقحم في حيثياتها. وهذا هو منبع الهواجس والخوف والترقب والشكوك في بعض المعطيات المصاحبة لثورات العرب وخاصة بعد أن امتصت روح المفاجئة التي فرضت حالها في ثورة تونس البطلة.

 

هذا من جانب .. ومن جانب آخر فان المتلقي العربي للفعل والأفكار والرؤى الثوريةالراهنة يجد نفسه في محنة حقيقية. فهو بين قناعات داخلية ذاتية تلوي عنقه وتجبره على الرضوخ للشك في الدوافع والأدوات الخفية وأدوات الإعلام المعلنة وبين حاجة فعلية يجدها بين طيات الواقع تتطلب قيام الثورة وتبرر انتفاض الشعب وطلائعه بعد أن سقطت أنظمتنا في جلها في مستنقعات العفن الفاسد والوهن عن أي انجاز وطني أو قومي وظلت حبيسة لفكرة الدفاع امنيا ومخابراتيا عن وجودها بالقهر والاضطهاد وحبيسة علاقات ذليلة تظن إنها الطريق الوحيد لحمايتها عبر الارتماء في أحضان أميركا والصهيونية وبعض دول أوربا وغير ذلك الكثير من مظاهر الموت السريري. ومن هنا دخلت الإرادة الأمريكية والصهيونية والأوربية في توجيه أحداث ثورة العرب عبر:

 

1-  التضحية بأنظمة معروفة بولائها الذليل لأمريكا لكي تبرهن للعرب أنها مع رغبتهم بتأسيس أنظمة ديمقراطية جديدة والانتهاء من زمن حكام الانطمة طويلة العمر. وسيجد المواطن البسيط تفسيرا سهلا ويبدو منطقيا في دعم أميركا للتغيير ومنه تدخل أميركا وحلفاءها من أعداءنا الكلاسيكيين ومَن شاهدناهم بأم أعيننا يشربون دماءنا ويغتصبون بناتنا, لتوجه أميركا لإعادة الحالة إلى ما كانت عليه بوجوه جديدة ويخسر الثوار ثورتهم, أو أن يستهبل العارفون ببواطن الأحداث ويبحثون لأنفسهم عن المقعد المناسب في التشكيل الجديد المرتب خارجيا، ومرة أخرى كأنك ما غزيت يا أبا زيد. وسواد الناس تلجأ إلى الاستسهال للأسباب المعروفة وهنا تقع إشكالية الصلة والعلاقة النسغية بين الثوار الحقيقيين ومَن يعبر عن ثقافة الثورة وبين مَن لا يقوون على التفكير أو لا يرغبون به أصلا من المستسهلين الذين يرون في الربيع العربي لهيلاري كلينتون ابسط الطرق ليسلكها ويتبناها وكفى الله المؤمنون شر القتال.

 

2-  استخدام القوة العسكرية لإسقاط الأنظمة التي تدرك أميركا وانجلترا وفرنسا إنها لن تسقط بالتظاهر والاحتجاج السلمي أو بالاعتصام والعصيان المدني التقليدي. وتتم العملية بعد أن تتقدم كتائب من المعارضة المعدة سلفا في أروقة المخابرات الأجنبية لتكون واجهة للثورة الشعبية المفترضة. وهكذا يكون على العرب أن يبحثوا في الصعب والثقيل على الإدراك في ما وراء الحجب أو أن يأخذوا الأمور من بابها السهل ألا وهو وجوب الثورة واستحقاقها أي القبول بالسهل أو الاستهبال ... فللثورة في حياة العرب قدسية،  و آن  أوانها بعد طول صبر وترقب وانتظار للحد الذي صرنا فيه نقبل أي ثورة حتى لو كانت غير معرّفة المسارات ولا معروفة النتائج ... يعني .. دعونا نثور والباقي على الله والويل لمن يواجه تيار الاستسهال فالثورة في تقديرهم هي ثورة حتى لو قام بها مجاميع مخابراتية من أميركا وفرنسا وبريطانيا !!.

 

3-  إرباك المشهد بحيث يصير من الصعب على سواد الناس أن تميّز بوضوح عبر إدخال أطراف عربية في تنفيذ بعض صفحات الثورة وإشراك قنوات فضائية ومحللين من طراز خاص في تغطية أحداث الثورة ... يذهب تركيز الكتّاب والمثقفين العرب إلى البحث في زوايا الدور المرسوم لقناة الجزيرة أو لحاكم قطر والدور العجيب للإمارات مثلا ويهمل إلى حد ما التركيز على توافر شروط الثورة الحقيقية في ما يحصل على ارض العرب. ثم يتيه آخرون في وطأة الأضرار الفادحة من جرّاء الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات بين ما يسيل من دماء هنا وهناك وبين ما يهدر من مال عام وبين انصراف المواطن عن أداء واجباته التعليمية والدراسية والوظيفية المختلفة بحيث إن الفواتير المنظورة للثورة السلمية تصبح مصدر قلق حقيقي لكل ذي بصر وبصيرة غير إن الاستسهال يبقى سيد الموقف فالثورة للكرامة المهدورة والقهر الأمني والمخابراتي يصبح أعلى وأهم من وحدة الوطن وسلامة سيادته وأمنه واستقراره..

 

لا خلاف في أن مواجهة التيار صعبة، بل صعبة جدا أحيانا ولا جدل في أن هناك نمط خاص فقط من الناس تمتلك القدرات والاستعداد لهذه المواجهة. الثوار الحقيقيون يعرفون إن احد مقومات وصفهم الثوري هو الاستعداد لمواجهة التيار. وانطلاقا من هذا التكثيف والإيجاز نقول إننا كثوار لا نجد في ما يحصل في ليبيا وسوريا واليمن والبحرين المعنى الأمين والحقيقي للثورة مع إيماننا العميق والجاد بحق أبناء هذه الأقطار بحقوقهم بالتغيير الثوري أو الإصلاح وإيماننا القطعي بوجود أسباب موجبة للثورة. غير إن موقفنا من ما يحصل متأت من عدم استعدادنا للوقوع في أسر الاستسهال. نحن كثوار نعرف طبيعة العوامل والقوى التي ركبت أجنحة الرجاء الثوري لشباب الأمة سواءا الخارجي منها ممثلا بأميركا وبعض دول أوربا، أو بعض الأدوات من أنظمة عربية أوكلت لها ادوار سخيفة كقطر والإمارات والكويت مثلا . كما إننا ندرك تماما أسباب عدم التنويه ولو من بعيد من أميركا وزبانيتها بضرورة قيام ثورة في العراق الذي يرزح تحت نير الاحتلال وحكومة ونظام سياسي فاشل وفاشي إجرامي بالمطلق وعدم توجههم أو التنويه لقيام ثورات في الأنظمة الملكية وشبه العائلية أو شبه العشائرية. ثم لماذا دعم (الثورات) في سوريا واليمن والبحرين وليبيا إعلاميا وعسكريا وبوسائل خبيثة وتلفيقية وكاذبة، في حين يتم تجاهل انتفاضة الشعب الإيراني ضد نظام الملالي مثلا؟؟. ولمَ لا نرى ولا نسمع أي شئ عن ثورة في إفريقيا التي ترزح شعوبها تحت كيانات أنظمة قهرية وبليدة وفاسدة وعميلة وفاشلة؟؟

 

ويبقى سؤال أو نقطة يمسك بها أعداء الاستسهال من أبناء الأمة بقوة وهي: هل يوجد أي ضمان مادي أو معنوي لإيمان كلي أو جزئي بالوحدة القومية ووحدة المصير وتحرير فلسطين مثلا من قبل النظم التي ستنتجها فوضى كونداليزا رايس غير ألخلاقه وينتجها ربيع هيلاري كلينتون. أم إن الفوضى الخلاقة هي خطة أميركا لتحقيق شرق أوسطها الجديد (بثورة عربية) بعد أن وجدت إن احتلال العراق قد أغلق بوجهها سياسة العصا فلجأت إلى سياسة الجزرة.. الخلاقة؟؟ .

 

 





الاثنين٢٠ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٣ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. كاظم عبد الحسين عباس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة