شبكة ذي قار
عـاجـل










من انتهك الهوية الوطنية العراقية


منذ الاحتلال الأمريكي الذي تعرض له العراق ، وتصميم العملية السياسية على أسس من المحاصصة الطائفية العرقية ، دخلت القوى السياسية التي جاء بها الاحتلال في سباق في تعزيز مكاسبها الفئوية والمقسمة على الطائفة والعشيرة والمنطقة والمحافظة والمدينة ، ونشطت مليشيات مرتبطة بالأحزاب والكتل السياسية في خوض نزاعات دموية مسلحة مع خصومها أدت إلى سقوط مئات الآلاف من الضحايا وإعادة انتاج معالم المجتمع العراق على وفق التصور الموضوع في الدوائر التي تريد العراق ضعيفا مفككا بلا هوية وطنية ، وأدت كذلك إلى تأجيج مشاعر الكراهية على مستوى الشارع من منطلق التحصن الذاتي والتخندق حول النوع المتصادم مع النوع الآخر دفاعا عن النفس وبحثا عن طمأنينة زائفة ومؤقتة ، وأثيرت تساؤلات جدية حول مصداقية ما كان مطروحا من مسلمات فكرية وسياسية واجتماعية على مستوى الإعلام وخرائط الجغرافيا السياسية والإدارية عن وحدة البلد أرضا وشعبا ، وعما إذا كانت وحدة مفروضة بقوة أجهزة الدولة وسلطة القانون الحازم والصارم مع الأفكار المضادة أو بالإرهاب الفكري الذي كانت تمارسه بعض النخب السياسية التي صور لها طول الوقت في الحكم أنه وحدها التي تحمل فهما دقيقا لإرادة الشعب ، ويذهب البعض إلى أن تلك النخب ذات النوايا المفرطة بالحلم السياسي والتي لم تتح الفرصة لها لتطبيق برامجها ولغيرها من القوى السياسية لتبيان وجهة نظرها الصريحة في مصداقية هذه الأفكار ومدى تعبيرها واستجابتها لحاجات المجتمع ، وبمجرد أن ارتفعت قبضة القانون عن السلوك المنظم للشارع ، ذهب كل جزء إلى حاضنته بحثا عن الملاذ الآمن مع ما يمثله ذلك من اصطفافات مشروطة بتطابق الطائفة والعرق تعزيزا لمفهوم التعاضد الفئوي على حساب الرابطة الوطنية ، مما أوجد عصبيات متنافرة لا ينظر المتعصبون لها إلى سلامة موقف من ينحازون إليه من عدمه بل خيار تقديم النصرة لمن مع والوقوف ضد الفريق الآخر دون الدخول في التفاصيل .


الحركة الكردية


ربما لا تتردد قوى سياسية عراقية كثيرة بعد الاحتلال الأمريكي في طرح نفسها ممثلة لمكون صغير من مكونات المجتمع على أسس مدائنية او طائفية أو عرقية ، وربما تبرز بهذا الخصوص وكشاهد بارز على هذا النموذج الحركة الكردية التي ميزت نفسها منذ عام 1991 واتخذت منحى انعزاليا عن العراق وكرست سلطة الأمر الواقع عبر سلسة من التدابير والقرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة باسمها أو باسم مجلس الأمن الدولي ، ولكن الأمر أخذ بعد الاحتلال بعدا مختلفا تماما ، فقد تكرست سلطة الأمر الواقع ويبدو أن الولايات المتحدة التي ظلت لزمن طويل تدعم توجهات إضعاف العراق وجدت في الحركة الكرية بشقيها الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ضالتها المنشودة في تنفيذ صفحات مشروع حذف وحدة البلد الواحد المتعدد الثقافات ومضت في طريق تعزيز خط التميز المفتعل والذي يسعى لاختلاق ثقافة وقيم متصادمة مع الثقافة والقيم العراقية وكأن ذلك قدرها المفروض بدلا من ثقافة التكامل والتنوع لإغناء التجربة العراقية وتقديمها كنموذج قابل للتداول والتطبيق في مناطق أخرى .


وشهدت مرحلة ما بعد الاحتلال وانطلاقة العملية السياسية ، مغالاة فجة من قبل الحركة الكردية في تبني اطروحة الاختلاف والافتراق الاجتماعي بالرجة الأساسية ، لخلق صورة يراد لها أن تصبح نمطية يعيشها الفرد والمجتمع حتى تصبح جزء من تقاليده وثقافته المقدسة ، وفي مجال السياسة نحت الحركة الكردية باتجاه رفع سقف الاستقلالية عن المركز ، فوضعت شروطا تبدأ بفكرة أن ما يخص المنطقة الكردية هو شأن خاص بها وأن ما يخص العراق هي شريكة به على قدم المساواة ، وذهبت بعيدا في جعل نفسها حارسا للبيت الكردي على الرغم من أنها فقدت الكثير من أحقية هذا الادعاء ، ووظفت ملفات مثيرة للنزعات العنصرية بهدف الحفاظ على أعلى درجات الشد النفسي للمواطن الكردي لإبقائه في أقصى درجات الشعور بالتهديد والانشداد إلى الحركة الكردية باعتبارها حامية له مدافعة عن مصيره ومستقبله وحقوقه ومصالحه التي يمكن أن تبتلع من المركز بمقابل أطراف بينها شراكة سياسية قديمة تم رسم معالمها والتزاماتها من قبل الحلف الذي جاء مع الأمريكان لإدارة العملية السياسية ومن بينها الحركة الكردية كما هو معروف .


الحركات الدينية


الحركات الدينية سواء كانت سنية أو شيعية ، ظلت وفية لفكرة أن الإسلام دين أممي ولهذا فقد كانت تضع الإسلام أمام الفكرة الوطنية وجها لوجه في مواجهة مفتوحة ، ولم يكن الكثير منها ليتردد في اتهام الحركات السياسية التي ترفع شعارا وطنيا ، بأنها حركات مارقة أو ملحدة أو علمانية ، وكأن الإسلام جاء ليلغي العاطفة الانسانية الغريزية مع الوطن ، وهي بذلك تجاهلت تماما الحديث النبوي الشريف حينما خاطب مكة المكرمة بقوله صلى الله عليه وسلم ( والله إنك أحب أرض إلي ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ) ، وهذا الحديث الشريف يجسد معاني حب الوطن بأبهى صورها ، وكان ينبغي على الحركات التي تطرح نفسها على أنها حركات دينية التدبر فيه قبل الخوض في موضوع تخطئة التيارات الوطنية .


لا أحد يجادل في قدسية الأماكن الدينية و لا يجادل في إجماع المسلمين على القلوب حينما تهفو إليها فإنها تبحث في ذلك عن تقرب إلى الله سبحانه وتعالى وثواب أخروي بالدرجة الأساس ويحسب حبها والحج إليها في حسنات الإنسان عند ربه ، ولكن ذلك لم يلغ قيمة الوطن في معايير الدنيا كجزء لصيق بحياة الإنسان تزول تأثيراتها عليه عند الوفاة إلا من قبر يفقد تأثيره بعد بضع سنين ، وعلى العموم فإن الحركات الدينية تتبع بشكل عام مراكز التوجيه والقيادة التي ترتبط بها تنظيميا ، فحركة الإخوان المسلمين تتجه بوصلها نحو مركز نشوء الحركة الثابت أو المتنقل وتنظر بكثير من عدم الاكتراث لقضية الانتماء للوطن وتعتبر أن الدين الإسلامي هو الرابطة الوحيدة التي يلتقي عندها المسلمون ، وعلى الرغم من أن هذه الحركة والكثير من التيارات الإسلامية السنية لا تصرح ببوصلتها إلا أن من المقطوع فيه أنها لا تنظر إلى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة كمركزين لتلقي التوجيهات السياسية ، فمركز تلك الحركات ليس في مهبط الوحي وإنما في مركز القيادة السياسية لتلك الحركات ، وربما لا تختلف معظم الحركات الإسلامية السنية كثيرا عن هذا التوجه إلا بتفاصيل بسيطة ، أما الحركات الدينية الشيعية فهي في الغالب تلك التي ارتبطت بإيران إما عن طريق التأسيس أو الدعم أو القيادة والتوجيه ، وهناك مفارقة في غاية الغرابة ، وهي أن المراقد المقدسة عند الشيعة يقع معظمها في العراق وحصرا في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء ، إلا أن ذلك لم يمنع حزب الدعوة وهو من أقدم الحركات السياسية الشيعية من أن يتجه إلى إيران وبصرف النظر عمن يحكم فيها ويمنحها ولاء الانتماء للمذهب وليس إلى النجف حيث مرقد الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكذلك الحال بالنسبة للمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري وسائر الأحزاب والحركات السياسية التي تناسلت بعد الاحتلال ، وهذا لا بد أن يطرح تساؤل مركزي عن أسباب توجه بوصلة هذه الحركات نحو طهران على حين أن العكس هو الذي كان يجب أن يحصل أي وجوب توجه شيعة إيران والعالم نحو العراق ومنحه الولاء باعتباره المكان الذي تود فيه مراقة أئمة الشيعة ؟ ولماذا اتصف الانتماء للمواطنة العراقية لدى المنتسبين لهذه الحركات بالهزال وحتى بالتلاشي أمام الذوبان في حب الرموز الفارسية وتبني أطروحات إيران السياسية والدفاع عنها ومنحها الأرجحية على أقدس القضايا الوطنية ، ولما ظهرت إلى العلن نظرية ولاية الفقيه مع مجيء أية الله الخميني إلى الحكم في إيران عام 1979 ، فقد أخذ الولاء لإيران بعدا ذا قدسية خاصة ورتب على الحركات التي تؤمن بمبدأ ولاية الفقيه استحقاقات لمصدر الولاية المطلقة ، يحرم عليها الانتماء لأية هوية غير هوية الولاء المحسوم لها ، وبالتالي فإن هذه الأحزاب ومن خلال دورها الحاسم في العملية السياسية ستسعى بكل طاقتها لنقل هذا التوجه إلى المجتمع ككل وفرضه بالقوة عليه من خلال أدوات السلطة كالمال السياسي وأجهزة الأمن والمليشيات الحكومية المسلحة ، وأكدت تجربة السنوات الثمان من عمر الاحتلال شواهد كثيرة على هذا التوجه ، لاسيما في مجال فرض مناهج تربوية تعوّم مفهوم المواطنة والرابطة الوطنية وتجعلها عابرة للحدود استنادا إلى مفاهيم مذهبية تجعل الولاء لغير رموز المذهب الحقيقيين وتنقلها إلى رموز سياسية طارئة ، ولا شك في أن التغييرات التي طرأت على المناهج التربوية في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية ومكافأة من قام بهذا العمل بترقيته في مناصب الدولة العليا ، إنما يعكس جدية الحكومة في برامجها الطائفية على حساب الهوية الوطنية ونقل عدوى التهييج الطائفي إلى ميدان الإعلام التي تشرف عليها جهات من تلك الأحزاب عن طريق تلفيق قصص لا صحة لوقوعها من أجل المزيد من الشحن الطائفي والتحول عن الولاء للوطن إلى الولاء للطائفة ومركزها في طهران ، ومن أجل ضمان هذا الولاء بصفة دائمة فقد حرصت إيران بكل ما تملك من مال ونفوذ وجهود وارهاب ، على أن تجعل المرجعية الشيعية إيرانية وابعاد رجال الدين العرب عن تبوأ موقع المرجعية حتى مع الأعلمية ، ولذا يكمن أن يلاحظ مراقب سجل المراجع وخاصة في النجف أن هذا الموقع تناوب عليه إيرانيون بالأصل والجنسية والولاء ، ولا ترتبط هذه الخطة في نطاق تعظيم الائمة الاثني عشر وإنما استخدمت نفقا للعبور منه إلى العراق والتأثير في أوضاعه الداخلية ، انطلاقا من حسابات تاريخية قديمة وأحداث معاصرة ، وهكذا نرى أن الإيرانيين الذين لم تتعلق قلوبهم حقا برموز المذهب الذي زعموا إيمانهم به ودفاعهم عنه ، وضعوا الخطط العملية للسيطرة على الحوزات العلمية والمرجعيات الشيعية من أجل ربط مشاعر الشيعة العرب بولاء غير محسوس بصورة مباشرة لمركز التوجيه والاشراف في قم وطهران .


الخلاصة


مما سبق يمكن أن تبدو قضية صيانة الهوية الوطنية للمهجرين العراقيين خارج الوطن ، من القضايا الشائكة وأكثر تعقيدا من الجوانب المادية لمتطلبات دمجهم في المجتمعات الجديدة ، لأن ذلك يرتبط بمنظومة القيم واجبة الاستبدال والنزع من أجل غرس قيم بديلة في النشأ الجديد الذي سيبدو منقسما على نفسه موزع الولاء بين وطنين ، لم تتجذر القيم الجديدة تماما ، ولم تمسح القيم القديمة تماما من النفوس وجدلية الهوية هنا تترك النفوس سلبية التفكير محدودة الانتاج ، وهذا الانفصام في الشخصية يمكن أن يستدرج تداعيات جدية على مستوى التفكير والسلوك والتربية ، فشخصية الفرد المولود حديثا في بلاد الغربة القسرية بشكل خاص وحتى في حال محافظة أسرته على قيم الولاء للوطن الأصلي ، سيواجه في البيت توجيها وتربية ،ومحاولات الأهل زرع قناعات وقيم هي من بقايا ما تحمله الأسرة من ولاء لوطن آخر ، هذه القيم ستجد صدوفا من جانب النشء الجديد ، لأنها تتعارض مع ما يتلقاه في الشارع وبدرجة أكثر منهجية في المدرسة ، وقد لا يكون الشعر مقياسا دقيقا لرسم مؤشرات البحث العلمي ، ولكن بيت أب تمام :


كم منزل في الأرض يألفه الفتى                       وحنينه أبدا لأول منزل


يرسم مسار التلقي الأول للفرد حبا أو كراهية ، ألفة أو نفورا ، تعلقا أو انفصالا ، سلوك الفرد في مراحل العمر اللاحقة ، فإذا كان البالغون مهيؤون في كثير من الأحيان لتغيير أوطانهم بسبب ظروف الدراسة أو العمل أو الزواج ، وإذا كان هؤلاء قادرين على الاحتفاظ بخيط يربطهم مع الوطن الأم ، فإن الجيل الثاني سينشأ على التعلق بالوطن الجديد والأرض التي ولد فيها والمجتمع الذي نشأ فيه وتشرب بطبائعه وتعود على قيمه وعادات أهله ، وفي حال العودة إلى ربوع وطن الآباء ستعيش الأجيال اللاحقة غربة أكثر قسوة من غربة الجيل الأول الذي جاء مضطرا للموطن الجديد ، وجعل من البلد الأصلي مجرد ذكرى جميلة عند الجيل الثاني قد تنقطع عنده نهائيا ، فإذا علقت في النفس مشاعر الحب والولاء لوطن الآباء وبصرف النظر عن مداها وعمقها ، فإنها ستتحول إلى عامل صراع داخلي عميق الأثر على وحدة التفكير ووحدة التصور المرسوم عن ذلك الوطن وصدمة الواقع ، الذي لن يأتي متطابقا معه على الأقل في ذهن الفرد ، حينذاك سيقع الصراع بين قناعات لم تترسخ كما ينبغي عن حب الوطن والولاء له ، وبين واقع يبدو صعبا على التأقلم والمعايشة وهضم الوقائع وقبول التعاطي الإيجابي معها ، وحينما يقع هذا الافتراق الميداني فإنه يكون بداية لافتراق نفسي عسير على الرتق ، فيتعرض الفرد إلى شيزوفرنيا تمنع عنه الاستقرار وتقوده إلى هاوية سحيقة قد لا يستطيع الخروج منها مهما بذل من جهد ، فهو موزع الولاء بين مجتمع نما فيه وتعود على قيمه وأحبه ، ومجتمع يراد له أن يحبه ويمنحه الولاء ويتعود على قيمه ولكنه لا يستطيع ذلك .


يمكن افتراض أن الانتماء السياسي والفكري للأسر العراقية المهاجرة إلى الخارج ، هو الذي لعب دورا مهما في الابقاء على الهوية الوطنية ، أو أضعاف روح المواطنة وضياع تلك الهوية لدى صغار السن الذين رافقوا ذويهم في الهجرة أو المواليد الجدد في بلاد المهجر ، فمن المعروف أن الذين اضطروا لمغادرة العراق بعد 2003 ينتمون في غالب الأحيان إلى المدرسة السياسية القومية وحصرا حزب البعث ، والبعث كما هو معروف عن أيديولوجيته يحرص على تذويب الفوارق القطرية وإعطاء الفكرة القومية أرجحية عالية في بناء تنظيماته ، بحيث ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن البعث ناصب الروح الوطنية العداء ، ولو أن هذه الأحكام كانت قد صدرت عن اتجاهات وطنية حقيقية ومؤمنة بما تطرح على الساحة العراقية لكانت جديرة بالدراسة والبحث والأخذ بإيجابياتها ، ولكن معظم من شكك بتوجهات البعث الوطنية ، لم يكن يحمل ولاء للعراق وهويته الوطنية ، بل كان موزع الولاء بين المراكز الفكرية التي يرتبط بها دينيا ومذهبيا أو ايديولوجيا ، ومع ذلك فإن هذا التصور يستند على رؤية متسرعة لفكر البعث ، فالبعث ظل يقاوم النظرة القطرية الضيقة ولم يقف ضد شعور الاعتزاز بالشخصية الوطنية ، لكن مواقف بعض أطراف النظام الرسمي العربي ضد العراق ابتداء من تأييد إيران في حرب الثماني سنوات ومدها بالدعم السياسي وتسويقها كقوة مساندة للعرب بمواجهة إسرائيل ومدها بالأسلحة بما فيها الصواريخ التي سقطت على بغداد ، وبعد ذلك دور الكثير من الدول العربية في الوقوف إلى جانب التحالف الغربي الذي قادته الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق عام 1991 ، وكذلك وضع الأراضي العربية كمداخل لتقدم قوات الاحتلال عام 2003 ، هذه التصرفات ظلت مختزنة في الذاكرة الجمعية العراقية على نحو ربما أدى إلى ردات فعل متسرعة أو منهجية على مستوى الكثير من القوميين والبعثيين بشكل خاص ، ساهمت إلى حد ما بإعادة الموازنة التي ظلت قلقة أو راجحة لصالح الفكر القومي على حساب الهوية الوطنية فأخذ مفهوم الهوية الوطنية بعدا مترابطا مع الفكر القومي يتقدم القومي على القطري حينما يرتبط الأمر بقضية قومية تحتاج إلى تضحية جزئية من جميع الأقطار العربية ، ويتقدم الوطني على القومي حينما يتصل الأمر باختلاف مع قطر عربي آخر حول قضايا ثنائية ترتبط بالمصالح ، دون أن يعني ذلك أن تنحصر التضحية أو ما يقابلها من المنفعة بقطر عربي واحد ، بل أن يتوافق العرب أو معظمهم على تبني موقف قومي لا ينتقص من الهوية الوطنية لقطر عربي .


أما بقية القوى التي انتظمت في هجرات إلى خارج العراق فتأتني في مقدمتها التيارات الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام على أنه دين أممي عابر للحدود والقارات ، وخاصة المرتبطة بإيران وهذه طيلة حياتها لم تشعر أن العراق بلدها وعليها أن تعتز بهويته الوطنية ، وظلت تعمل ضد مصالح العراق لصالح الوطن الديني والمذهبي وجندت نفسها لخدمة المشروع الإيراني التوسعي ، أما القوى الإسلامية السنية كالإخوان المسلمين وبعض التيارات الأخرى فإنها لا تؤمن أصلا بفكرة الوطن وكانت تنظر إلى من يطرح الفكرة الوطنية على أنه مارق عن الملة في أخف أحكامها .


و في المعادلة الأممية أيضا تقف الحركة الشيوعية باصطفاف متقارب مع نظرة الإسلام بشأن الوطن والانتماء لوطن ما مع اختلافهما الجذري في أمور المعتقدات والعقائد فالحركة الشيوعية لا تضع الإيمان بالذات الإلهية في برامجها على حين يعتبر الإيمان بالله من منظور إسلامي عماد العقيدة الإسلامية ، وعلى الرغم من تناقضهما القاطع في موضوعة الإيمان بالله عند الحركات الدينية الإسلامية ، ونفي وجوده نهائيا من قبل الفكر الشيوعي السلفي ، مع أن الفكر الشيوعي خضع لتعديلات فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات وخاصة عند الحركة الشيوعية الأوربية ولاسيما الحزب الشيوعي الإيطالي ، ومن بعده الأحزاب الشيوعية في اسبانيا وفرنسا والبرتغال فإنهما يلتقيان في النظرة الأممية ، ومن المعروف أن الحزب الشيوعي العراقي لم يتمكن من تصويب مسيرته إبان وجود الاتحاد السوفيتي على الرغم من كثرة الانقسامات والانشقاقات التي عاني منها ، إذ ظل خاضعا وبآلية عمياء لمركز التوجيه في موسكو ، وحينما انهار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية بسرعة فاقت التوقعات ، فإن الحركة الشيوعية العربية والحزب الشيوعي العراقي منها لم تتمكن من الإمساك برأس الخيط الذي ينتشلها من البركة التي سقطت فيها ، وبدلا من ذلك فقد أكد الحزب الشيوعي العراقي بأنه أكثر اندفاعا مع الاحتلال الأمريكي من كثير القوى المحسوبة على اليمين .


على هذا يمكن الافتراض بأن الهوية الوطنية العراقية قد أخضعت لتقاطعات فكرية وسياسية فأصبحت ضحية لها بحيث يمكن الافتراض بأن عمليات إعادة صياغة المفاهيم لدى المهجرين العراقيين في البلدان الأخرى ، وجدت أرضا صالحة لتغيير الولاء إلى الوطن البديل وليبق العراق مجرد ذكرى يتم احياؤها في المناسبات .



التوصيات


من أجل تطويق عناصر التغريب ومن أجل الحفاظ على الهوية الوطنية صلبة في وجه التيارات الفكرية والثقافية والعولمة نرى :


1 – الغاء دستور الدولة العراقية لعام 2005 والذي وضع الأساس المنهجي لإضعاف الهوية الوطنية وتغليب العصبيات العرقية والطائفية على الرابطة الوطنية الجامعة للعراقيين ، والدعوة لقيام مؤتمر دستوري أو جمعية وطنية بهدف الاعداد لدستور عراقي جديد يسمو فوق الصغائر ويجعل الرابطة الوطنية هي الاساس ويكون المواطنون متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات .


2 – إعادة النظر بالمناهج التربوية لكل مراحل الدراسة بما يؤمن حذف كل ما من شأنه إثارة الانقسامات الدينية والعرقية والطائفية ، ووضع مناهج جديدة تضمن الارتقاء بالمستوى العلمي والمعرفي للمجتمع العراقي وتحريره من الخرافات والبدع والمظاهر الاجتماعية المنحرفة والحاطة من كرامة الإنسان .


3 – منع اسقاط الجنسية عن العراقي في أي ظرف وخاصة لأسباب سياسية إلا في حال حصول العراقي على جنسية أخرى ولا يريد التخلي عنها ، وعدم منح الجنسية العراقية إلا في ظل شروط صارمة ووضع التشريعات التي تصون تعزز من القيمة المعنوية والإنسانية والقانونية للجنسية العراقية ، ومنع ازدواج الجنسية العراقية بأي حال من الأحوال وتوثيق دقيق لسجلات دائرة الجنسية ومنع كل أشكال التلاعب بها .


4 – عدم نزع ملكية العراقي وخاصة العقارية لأي سبب سياسي ، ولا يجوز التصرف بممتلكات العراقيين إلا وفقا للقانون وبعد التعويض عليهم بتعويض مجز وعادل وتثبيت سجلات الدوائر العقارية على نحو يمنع ضياعها أو التلاعب بها .


5 – وضع الخطط لمعالجة أوضاع المهجرين العراقيين في كل من سوريا والأردن واليمن ومصر ولبنان ، وذلك من أجل قطع الطريق على خطط ( التوطين ) التي تعرضها دول كثيرة مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الاوربية ، ويقع العبء الأكبر على عاتق الحكومة العراقية في حال توفر الإرادة السياسية لها لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة .


6 – فرض رقابة قانونية على تمويل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع الدني والصحافة وأجهزة الإعلام ، وذلك لضمان عدم التأثير في برامجها وأنشطتها من جهات ترى في تكريس الهوية الوطنية العراقية خطرا عليها .


7 - تثبيت نص دستوري يلزم الحكومة بمتابعة شؤون المواطن العراقي في داخل العراق وخارجه ومنع التعسف معه من أي طرف خارجي وضمان حقوقه الدستورية في المشاركة في ممارسة تلك الحقوق وبشكل خاص ما يتعلق بحق الانتخاب ، وتشكيل جمعيات للمغتربين العراقيين برعاية الحكومة العراقية ، وتقديم التسهيلات للعراقيين في الخارج للعودة إلى بلدهم ، وفي حال الوفاة توفير الاحترام اللازم لجثمانه بما في ذلك نقله إلى العراق في حال وصيته أو رغبة أسرته بذلك ، على نحو يليق بكرامة الإنسان ويعزز من ثقة العراقيين ببلدهم .


8 – الاهتمام بتاريخ العراق عبر العصور وإبراز دور العراقيين واضافاتهم في بناء الحضارة الانسانية وتكريس ذلك في المناهج الدراسية لمختلف المراحل وفتح المزيد من المتاحف على مستوى المحافظات ، والاهتمام بالآثار العراقية والتعريف بها وبذل الجهود الجادة وبالتعاون مع المنظمات الدولية لاسترداد المسروق منها .


9 – ضمان توزيع عادل للثروة وجعل فرص التشغيل على أساس الكفاءة والمؤهلات وليس الانتماء السياسي والحزبي أو العرقي أو المذهبي ، وضمان العدالة في تطبيق القانون على الجميع دون تمييز ومنع التوقيف والحجز لأسباب سياسية وصيانة كرامة العراقي من الانتهاك والتعذيب وملاحقة الجناة في ممن تتأكد جرائمهم بالتعذيب أمام القضاء العادل وإلغاء مظلات الحماية لأي منهم .


10 - من حق كل مواطن امتلاك دار للسكن وتكوين أسرة ، وعلى الدولة أن تراعي هذه القضية التي تعتبر من أبسط واجباتها وتوفر الفرصة أمام كل مواطن للحصول على مساعدات أو قروض لهذا الغرض تثبيتا لحقوق المواطنة .


11 – تشريع قوانين حرية التملك والعمل والتعليم والرعاية الاجتماعية والصحية للأجانب استنادا إلى من مبدأ المعاملة بالمثل ، تعبيرا من السلطتين التشريعية والتنفيذية عن مكانة المواطن العراقي العالية .

 

 





السبت١٨ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢١ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة