شبكة ذي قار
عـاجـل










 

نشرت جريدة "الوطن" البحرينية دراسة مهمة عن "الفكر السياسي الإيراني المعاصر" للبروفيسور عبد الستار الراوي أستاذ الفلسفة وتاريخها في جامعة بغداد سابقاً آخر سفير للعراق في طهران قبل الاحتلال الأمريكي ، وعلى أجزاء ، ولأهميتها نشرنا قسمها الأول والثاني ، وها نحن ننشر قسمها الثالث ، ثم سنتبعه بالأجزاء الأخرى ..

 

جريدة الوطن


 

 

''الثورة'' لاتزال تائهة بين تناقضات الثنائية وتحدياتها .. آخر سفير عراقي في إيران

 (٣)

 

مرتكزات الفكر السياسي الإيراني تقود إلى حروب دموية

ولاية الفقيه لم تخفف أوجاع فقراء إيران أو الشعوب الإسلامية

إحصاءات مذهلة لعدد المدمنين وتزايد معدلات البطالة بإيران

الشعور بالظلم يتراكم لدى شرائح واسعة من الشعب الإيراني

التعذيب أصبح ظاهرة شائعة في سجون طهران والمدن الكبرى

الرايات الخضراء تحولت لغابة حمراء بدم الشباب صيف 2009

الحملات الفاشية لقمع انتفاضة شعب الأحواز تؤكد دموية النظام

الوحدة الخومينية "فوقية" ومفروضة بالقوة وتوجبها وصاية الفقيه

ثقافة "الولاية" تقوم على تراث أحادي مغلق لا يقبل التنوع أو الحوار

العنف المسلح مبدأ ثابت في تنفيذ برامج النهج التوسعي المغامر

 

* أكد د. عبد الستار الراوي أستاذ الفلسفة وتاريخها بجامعة بغداد سابقاً، وآخر سفير عراقي في إيران قبل الاحتلال، أن الفكر السياسي الإيراني المعاصر يرتكز على محاور فكرية عدة منها: إنقاذ المظلومين والمحرومين، وأن إيران هي كعبة المستضعفين، وأن الوسيلة الوحيدة إلى وحدة الشعوب الإسلامية هي بناء النموذج المثالي لدولة "ولاية الفقيه"، والخروج بالثورة إلى الفضاء الخارجي، موضحاً أن هذه الأفكار قادت الثورة الخومينية إلى حرب ضروس على مدى 8 سنوات ضد العراق، فقد فيها ملايين الضحايا والجرحى والغائبون، وبالأفكار ذاتها تعود إيران مجدداً إلى رقعة الشطرنج الدموية، في محاولة "تطبيق الثورة السياسية" في العراق وغيرها.

 

وأضاف أن ولاية الفقيه لم تمس أو تقترب من قضية المجتمع، أو تعالج بنية العلاقات شبه الإقطاعية السائدة في المجتمع على نحو يرفع من خط الفقر الطاحن، ويخفف أوجاع معذبي إيران أو الشعوب الإسلامية.

 

وتساءل: كيف يمكن للثورة الإيرانية أن تصبح مثلاً لمستضعفي العالم، أو كعبة أخرى للمسلمين، والمنطق الذي تتمسك به منذ قيامها يلزم القوى كافة وجموع الشعوب الإسلامية بتبني فكر ذي لون واحد، وترفض آراء المستضعفين أنفسهم؟!. هذا عدا أن الثورة التي رفعت شعارات المجتمع السعيد، والمدينة الفاضلة، لا تزال تائهة بين تناقضات الثنائية وتحدياتها.

 

وقال: إن الجمهور الإيراني لم يعد يبحث عن الخبز قدر نضاله من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، مشيراً إلى إحصاءات مذهلة لعدد المدمنين على السموم البيضاء.. والأرقام المخيفة لحجم التداول والاتجار بهذه المواد، في وقت تتزايد فيه معدلات البطالة، ويتراكم مبدأ الشعور بالظلم، لدى شرائح واسعة من الشعب الإيراني، موضحاً أن التعذيب أصبح ظاهرة شائعة، خاصة في سجون العاصمة والمدن الكبرى.

 

وتابع د. الراوي: لقد شهد العالم كله ما جرى للانتفاضة الخضراء في طهران صيف 2009، وكيف حول الحرس الثوري والمليشيات الحكومية الرايات الخضراء إلى غابة حمراء بدم الشباب الباحث عن العدالة المفتقدة في فردوس الفقيه، وما يحدث هذه الأيام لعربستان الباحثة عن الحرية، المطوقة بالأسلحة الثقيلة، والحملات الفاشية في قمع انتفاضة شعبنا العربي في الأحواز، وتعرض الكثيرين من المتظاهرين للضرب حتى الموت، ولما تزل أعمدة المشانق في المحمرة وعبادان تنزف بدماء الشهداء يؤكد دموية هذا النظام.

 

وأشار إلى أن الوحدة التي أرادها الخوميني هي "وحدة" فوقية مفروضة بالقوة توجبها وصاية الفقيه، مبيناً أن مثل هذه الاستراتيجية تحمل إلى جوار رمزها العرقي الفظ، حقيقة ثقافة الولاية القائمة في أصلها على تراث أحادي مغلق، لا يقبل التنوع، أو التفاعل، أو الحوار، وإنما ينطلق من نظرة (كونية) تلغي الفوارق والحدود التاريخية بين الأشياء وتتخذ من العنف المسلح أو التهديد به مبدأ ثابتاً في تنفيذ برامجها الإيديولوجية ذات النهج التوسعي المغامر.

 

وفيما يلي نص الدراسة :

 

إنقاذ المظلومين والمحرومين

تتعين ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين في الرؤية الاجتماعية لماهية الثورة، وقدرة الفعل الإنساني على إحداث التغيير الاجتماعي المنشود الذي يستعيد موازين العدالة الغائبة، برد المظالم عن المظلومين، ويسترد حقوق المحرومين من الغاصبين، أي أن إحداث مثل هذا التغيير في بنية النظام الاجتماعي، يتطلب تحولاً في العلاقات الاقتصادية والإنتاجية، فبناء الحياة لا يتم بشعار سياسي، ولا تتحقق العدالة بمجرد الدعاء، وإنما بشروط علمية يفرضها الواقع الاجتماعي، مما لا يجوز إهمالها أو القفز عليها، ومن بين موجباتها ؛ المعرفة العلمية لطبيعة العلاقات الاجتماعية، والقدرة على صياغة بيئة قادرة على تحقيق الأنشطة الاقتصادية الخلاقة التي تتفاعل فيها القوى الاجتماعية، لضغط الفوارق الطبقية فيما بينها، بما يقارب مفهوم العدالة الاجتماعية في التوزيع العادل للدخل القومي في الإنتاج والخدمات.

والسؤال الكبير هو: في أي جانب يقف المرشد بوصفه قائداً لجيش المظلومين من ذوي الحاجة والمحرومين وأبناء السبيل، الذين قطعوا أعمارهم تحت خط الإملاق؟! لم نتبين الموقع الذي يفترض أن يكون طليعياً في الحرب على الفقر والمسغبة، وهي قضية القضايا التي توجب على رأس الدولة ومرشدها أن يكون في قلب هذه المعركة، حاملاً هموم الجماهير المحرومة اليائسة، وقد خرج البؤساء بالموعظة التالية: "أما نحن فمكلفون بإنقاذ المحرومين المظلومين، نحن مأمورون بإعانة المظلومين ومناوأة الظالمين، كما فعل الأئمة والعلماء بعد الرسول... مهمتنا تشكيل حكومة إسلامية لتحطيم الحكام الخائنين والمفسدين وإقامة الدولة الإسلامية لتحمي الحمى وتذب عن البيضة وتصون الديار"(40).

 

وإذا كانت الولاية في النظرية كما في تطبيقاتها العملية، لم تمس أو تقترب من قضية المجتمع أو من إمبراطورية البازار، أو تعالج بنية العلاقات شبه الإقطاعية السائدة في المجتمع على نحو يرفع من خط الفقر الطاحن، ويخفف أوجاع معذبي إيران أو الشعوب الإسلامية.

 

قال لي أحد الأصدقاء الإيرانيين يوماً إن الثورة الإسلامية أقدمت فعلاً على هدم أحياء الصفيح والخرائب العشوائية جنوبي طهران، لكنها اكتشفت أنها لم تهيئ مساكن بديلة إلا بعد حين،.. ولو أن إيران خصصت 50% من ميزانية الأنشطة الخارجية مما له علاقة بتصدير الثورة، لما بقي فقير واحد في إيران على حد قول الصديق.

 كعبة المستضعفين.. كيف؟

 

إن القول بأن إيران هي "كعبة المستضعفين" مجرد قياس تمثيلي، استخدمه السيد خامنئي، ففي رأيه "أن إيران هي البلد الوحيد في العالم، الذي اختفت فيه مظاهر الرشوة، والفساد، وتحوّل بفضل الثورة إلى كعبة المستضعفين".

 

لعل الحماسة (الثورية) للقائد الفقيه، جعلته ينسى أو يتجاهل، بأن للثورة (النموذج) في العادة قوانينها التاريخية تبدأ حركتها داخل (الزمان والمكان)، وليس خارجها،.. ولكي تصبح الثورة، إنجازاً واقعياً، لابد لها من تغيير خارطة الواقع الاجتماعي نحو الأفضل، وبعبارة أخرى إعادة صنع الحياة وتشكيل قسمات طريق التقدم الاجتماعي،.. فكيف يمكن للتجربة أن تصبح مثلاً لمستضعفي العالم، أو كعبة أخرى للمسلمين، والمنطق الذي تتمسك به منذ قيامها (1979) حتى ربيع عام (2011)، يلزم كافة القوى وجموع الشعوب الإسلامية بتبني فكر ذي لون واحد، وترفض آراء المستضعفين أنفسهم؟!. هذا عدا أن الثورة التي رفعت شعارات المجتمع السعيد، والمدينة الفاضلة، لاتزال تائهة بين تناقضات الثنائية وتحدياتها؛ ومن هذه الثنائيات: الجامعة - الحوزة، الأفندي - الملا، الإصلاحي - المحافظ وما بينهما من ألوان وظلال، الحرية - الاستعباد، الدنيوي - الأخروي، الاستقامة - الضلالة، الحاضر – المستقبل.

 

وما تنشره الصحف الرسمية من إحصاءات مذهلة لعدد المدمنين على السموم البيضاء.. والأرقام المخيفة لحجم التداول والاتجار بهذه المواد؟!. في وقت تتزايد فيه معدلات البطالة، ويتراكم مبدأ الشعور بالظلم، لدى شرائح واسعة من الشعب الإيراني، ففي الجمهورية الإسلامية، لم يعد الجمهور يبحث عن الخبز قدر نضاله من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، ولم يعد لدى الكثيرين، من الشباب ما يتطلعون إليه في الغد.؟!

 

لعلّ قيادة الدولة لم تزوّد حتى الآن بالتقارير الرقمية لهذه الظواهر التي تصف مستويات (الإيذاء) الجسدي القاهر، الذي يتعرض له المواطنون، بعد أن أصبح التعذيب ظاهرة شائعة خاصة في سجون العاصمة والمدن الكبرى، وقد شهد العالم كله ما جرى للانتفاضة الخضراء في طهران (صيف 2009)، وكيف حول الحرس الثوري والمليشيات الحكومية (البسيج وأنصار حزب الله) الرايات الخضراء إلى غابة حمراء بدم الشباب الباحث عن العدالة المفتقدة في فردوس الفقيه.

 

ولعل ما يحدث في هذه الأيام لعربستان الباحثة عن الحرية، المطوقة بالأسلحة الثقيلة، والحملات الفاشية في قمع انتفاضة شعبنا العربي في الأحواز، وتعرض الكثيرين من المتظاهرين للضرب حتى الموت، ولما تزل أعمدة المشانق في المحمرة وعبادان تنزف بدماء الشهداء.

 

نموذج الوحدة الإسلامية

يبدو أن الفقيه لم ير أيما مسافة تفصل الثورة عن الوحدة فيطمئن المسلمين إلى أن الوسيلة الوحيدة إلى وحدة الشعوب الإسلامية، هي بناء النموذج المثالي لدولة العدل (الفقيه) القادرة وحدها القضاء على الاستعمار وعملائه في البلدان الإسلامية، ذلك أن الثورة الإسلامية واحدة تبدأ من إيران ولا يتوقف نشاطها حتى تأتي على النظم كلها، فتعود إلى الأمة وحدتها وهيبتها وقوتها، فيرهبها الاستعمار وتنحصر أطماع الصهيونية".

 

وتفكير الفقيه على هذا النحو تفكير نخبوي إذ إنه يرى أن حركة التطور الحقيقية لابد وأن تؤدي إلى ظهور "النموذج الممتاز" وما إيران إلا الخلية الأولى المرشحة لقيام تجربة "دولة الفقيه" صعوداً إلى "المطلق" وللوصول إلى مثل هذه الغاية اللاتاريخية، يتحتم أن ينحل فيها الزمان والمكان، يكون من المستحيل الحديث عن شيء لا يتم بشروط وحدة الجماهير الإسلامية، أو إجماع رأيها على "الوحدة الإسلامية" إذ إن موضوع الإرادة الجماعية لا يقع في دائرة ولاية الفقيه التي يعتبرها الخميني حقيقة مطلقة غير مسموح للآخرين بمناقشة مدى شرعيتها من الناحية النظرية على الأقل، ولذلك فإن "الوحدة" التي يطالب بها السيد الخميني إنما تتعين ضرورتها فقط في مشروع الولي الفقيه، وليس من حقيقة كونها تعبيراً حتمياً عن وحدة مصالح الشعوب الإسلامية ضد القهر الطبقي والامبريالي. ولذلك فهي "وحدة" فوقية، مفروضة بالقوة. توجبها وصاية الفقيه نفسه وهي مرحلة من مراحل الأيديولوجية الدينية كما يقدمها كاتب الحكومة الإسلامية، حيث يتحول فيها (الخاص) إلى (عام) و(الجزء) إلى (كل) و(الحالة) إلى (ظاهرة) و(الفكرة) إلى (حركة). و(الدولة) إلى (إمبراطورية).

 

وتحت نيران الحرب المستعرة على جبهتي العراق وإيران، أعلنت طهران عام 1981 عبر ممثلي سلطتها إنها ماضية في حمل رسالتها الوحدوية إلى عموم البلدان، من أجل تحقيق (الجهورية الإسلامية العالمية). وفي ضوء هذا الهدف الكوني (الكوزموبولوتي) فقد صممت ولاية الفقيه الخارطة الجديدة للعالم من خلال تنظيم مراحل العمل الدعوتي (الأممي)، بموجب المناطق الجغرافية والأيديولوجية الثلاث التالية:

 

ـ المنطقة الأولى: وأطلق عليها (المنطقة السوداء) تشمل القارة الأوروبية، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها..

ـ المنطقة الثانية: واصطلح عليها (المنطقة الحمراء) والتي تمثل الاتحاد السوفياتي وممتلكاته ومن يقع في دائرة نفوذه الأيديولوجي في أوروبا الشرقية (الدول الاشتراكية).

ـ المنطقة الثالثة: وهي المكان الجغرافي المؤهل لإقامة الجمهورية الإسلامية أو ولاية الفقيه العالمية، والتي سميت بـ(المنطقة الخضراء) وقد تم تثبيت حدود العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب وتشمل الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي وألبانيا والأجزاء التي يقطنها المسلون في يوغسلافيا، بصفتها كياناً واحداً خاضعاً لولاية الفقيه.

 

يقول الخميني: "هذه الدولة أو الحكومة وجدات فعلاً في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي عهد الإمام علي (كرم الله وجهه) فإننا نؤمن بأنها قابلة للتجديد لكن الظالمين عبر التاريخ منعوا توضيح الإسلام.. " (36)

 

ولئن كان النص عائماً وغامضاً، فإنه يحمل دلالة ذاتية قوامها التبشير بنموذج منتظر (.. إنها الرايات السود الآتية من إيران) (37)

هذا ما كان يسعى إليه السيد الخميني ويبشر به ("إني أرى الرايات السود قد قرب موعدها"). (38)

 

وقد قدم رجال الدين الإيرانيون دراسات تفسيرية مطولة حول مرامي نصوص ولاية الفقيه المتعلقة بـ(بالوحدة الإسلامية) وحول الضرورات التي توجب قيامها، وانتهى الباحثون إلى نتيجة واحدة، وهي (أن الجمهورية الإسلامية في إيران بنموذجها الإلهي المبارك، ستطوي بقيادة الإمام الخميني قريباً؛ صفحة العراق إلى الأبد، عندها سنبدأ ببركات الإمام المهدي تحقيق -الثورة الإسلامية الكبرى- بفتح مكة وبغداد وغيرهما من الأقطار العربية والإسلامية) (39).

 

ومثل هذه الاستراتيجية القائمة على رصيد متراكم من (التنبوءات المهدوية الذاتية) تحمل إلى جوار رمزها العرقي الفظ، حقيقة ثقافة الولاية القائمة في أصلها على تراث أحادي مغلق، لا يقبل التنوع، أو التفاعل، أو الحوار، وإنما ينطلق من نظرة (كونية) تلغي الفوارق والحدود التاريخية بين الأشياء وتتخذ من العنف المسلح أو التهديد به، مبدأ ثابتاً في تنفيذ برامجها الإيديولوجية ذات النهج التوسعي المغامر.

 

ضرورة الثورة السياسية

مفهوم الثورة في الفقه السياسي وفي أبسط معانيه، يعني علم تغيير المجتمع نحو الأفضل، من خلال إعادة بناء العلاقات الاجتماعية على نحو يمنع الاستغلال، ويحقق العدالة بين المواطنين، فيما ينصرف مدلول الثورة في منطق السيد الخميني، إلى (الخارج) من غير المرور بـ(الداخل الإيراني) فالتغيير الذي يؤمن به السيد الخميني على حد قوله؛ (أن نعمل على هدم أنظمة الشرك الفاسدة ونحطم زمن الجائرين من حكام الشعوب") (*) وبصرف النظر عن التبريرية التي تذرع بها الفقيه، فالفعل الوجوبي (الضروري) الذي تترجمه لفظة (أن نعمل) ليس أكثر من رؤية متعالية لا سند لها ولا حجة تقوم عليها، فالضرورة الخمينية للخروج بالثورة إلى الفضاء الخارجي، مفارقة لكل أشكال الجدل الصوري البسيط والتاريخي المركب، وهي أقرب إلى الحتميات الذاتية، اصطنعها الفقيه للخروج على ترتيبات الواقع إلى ما وراء المكان الإيراني، فضرورة الثورة التي يدعو إليها، لا تعني إحداث تغيير محلي ينحصر في اقتلاع البهلوية، بل يتجاوزه ليمتد إلى أنظمة الحكم في المجتمعات الإسلامية، إن مثل هذه الدعوى التي يقدمها الفقيه ويلزم بها المسلمين، لا تنطوي فقط على مضامينها الخطيرة، بل في الحكم الذي أصدره الفقيه على جميع النظم في البلدان الإسلامية باعتبارها مشركة، يتوجب إزالتها دون أن يقدم من جانبه برهاناً واحداً يدعم به حجته أو يوثق صحة دعواه، ذلك أن القاعدة القانونية الشرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب وجهة النظر الإسلامية تبتدئ بشروط يوجب الإسلام توفرها، إذ يتعذر تطبيق الأمر الأخلاقي بغيرها، ولا تتعين ضرورته الشرعية إلا بوجودها، ويسقط بانتفائها، فالذي أجمع عليه المسلمون بمختلف مدارسهم الفقهية يقضي الشروط التالية: (32).

 

ـ مطلوب من الفقيه قبل أن يقدم على تعميم قراره أو يصدره أن يعلم بوعي تام، أن المأمور الذي يتصدى له ويدعو إليه هو المعروف وأن المنهي عنه هو منكر، إذ إن مثل هذا الشرط الأولي ضروري، ويجب معرفته ابتداء، تجنباً للخلط بين طرفي المبدأ في الأمر والنهي، أو الدعوة والمنع، لذلك أوجبت الشريعة التمييز المحقق، والتثبت المؤكد، والحذر من مغبة التسرع، خشية الوقوع في الخطأ، من قبيل؛ إطلاق الأحكام العجولة أو قذف التهم دون التحقق من صحتها. الأمر الذي قد يحول المسألة إلى الضد تماماً، كأن يأمر بمنكر وينهى عن معروف.

 

ـ ويستدعي الشرط الثاني العلم بالدليل المادي في تحقق المنكر ووجوده، والضرورة الشرعية القصوى لإزالته أو تغييره.

 

ضرورة أن يكون الأمر توجهاً لهدف تحكمه ضوابط (قبلية) (Apriori) ـ لئلا يؤدي إلى مضاعفات في مضرة أكبر منه، فإنه لو غلب ظنه على سبيل المثال بأن نهيه عن شرب الخمر يؤدي إلى قتل جماعة من المسلمين أو إحراق مدينة، لم يجب هذا النهي، وما لم يجب لا يحسن.

 

ـ يتوجب التأكد علماً وبغالب الظن أن لقول الأمر وتوجيهاته تأثيراً في أمره ونهيه.

وفي ضوء ما تقدم، ليس ثمة من علة أو سبب لهذه الثورة، سوى حكم شخصي طليق أصدره الفقيه جوز لنفسه وجوب "هدم أنظمة الشرك الفاسدة"، ولا نعلم على أي علة أو قياس استند السيد الخميني لتسويغ مثل هذا القرار الخطير؟! إلا إذا كان يستشعر نفسه وصياً على شؤون العالمين!

 

وهو ما عبرت عنه الولاية ذاتها، يوم شهرت سلاحها الإعلامي بوجه الشيطان الأكبر وبدلاً من مصارعة الكائن الرجيم، فضلت أن تتجه بما كنتها العسكرية إلى ما وراء حدودها الغربية، فالأقربون أولى من البيت الأبيض بالمعروف؟!، وهكذا قامت إيران بقلب الحجة الشرعية على رأسها لتشغل العالم كله بحرب ضروس على مدى 8 سنوات طاحنة، فقد فيها البلدان ملايين الضحايا والجرحى والغائبين وتحت الشعار نفسه تعود إيران مجدداً ومرة أخرى إلى رقعة الشطرنج الدموية، في محاولة (تطبيق الثورة السياسية) في اصطياد جندي هنا أو إسقاط قلعة كانت حصينة في العراق

 

 





الاربعاء٣٠ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٤ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. عبد الستار الراوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة