شبكة ذي قار
عـاجـل










ربما لم يكن الأمريكيون يتوقعون هذا القدر من النجاح لمبدأ المحاصصة الطائفية العرقية التي فرضوها على العراق في قانون إدارة الدولة الذي وضع أسسه الراسخة نوح فيلدمان وهو يهودي أمريكي صهيوني متزمت إلى حدود بعيدة ، وكي لا يساء فهم المقاصد أسارع لأقول إن كلمة النجاح التي أشرت إليها عند تقدير نتائج المحاصصة ، تتجه نحو تدمير منظومة القيم السياسية والاجتماعية لدى الأفراد والكتل والأحزاب السياسية ( إن كان بوسعنا أن نصنفها كأحزاب ) ،التي جاءت مع الاحتلال أو رضيت بأن تنفذ مشروعه السياسي الهادف إلى تفتيت العراق ككيان سياسي واحد إلى مجموعة من الدويلات على وفق ما رسمته المحاصصة المركبة والمستندة إلى مشروع صهيوني قديم يعرف أين يجب أن تسدد الضربة الأولى ، كي يشعر بعدها الكيان الصهيوني بالاسترخاء السياسي والأمني ، وهذا ما حصل بالفعل وتأكد لكل ذي عينين ومعهما بصيرة أن مشروع إضعاف العراق قد تحقق شطره الأعظم حتى الآن – دون أن يعني ذلك أن هذا النجاح متاح إلى الأبد – فالصراع على أتفه المغانم هو السمة البارزة لرموز الطبقة السياسية الحاكمة منذ الاحتلال اليوم ، بحيث أوجد التنافس للحصول على النطيحة والمتردية والموقوذة ، هاجسا يؤرقهم جميعا كي لا يباغت أحدهم أخاه بمغنم فوق ما متفق عليه ، فأدى هذا التسابق غير الأخلاقي إلى تدمير ما أخطأته القنابل الأمريكية فتدمر بقنابل أحقاد المحاصصة ، حتى أجهزت على ما بقي من شواهد ، وبعد أن لمس العراقيون بأيديهم حصيلة ثمان سنوات من حصاد المحاصصة المر .


أكدت تجربة المحاصصة أنها لم تصمم لخدمة العراقيين وإنما لخدمة من أراد أن يبقى العراق ضعيفا مسلوب الإرادة منتهك الكرامة والحدود ومنغلقا على أبنائه ويتقاتل مع نفسه ، يسقط فيه التسامح في أول اختبار عملي وتشيع ثقافة الاقصاء والتهميش والاستئثار بالسلطة ووجاهتها ومغانمها ، ومع ذلك يتمسك بالمحاصصة العميان من سياسيي الزمن الرديء ، وهم مصرون عليها على الرغم من ثبوت فسادها وكارثية نتائجها .


وبعد أن تكرست المحاصصة بدستور عام 2005 وأصبحت واحدة من حقائق الحياة السياسة الجديدة التي لا تستقيم بدونها وخاصة بموضوع تقاسم المناصب السيادية في بلد بلا سيادة ، تناثرت أشلاء الفعل المؤثر الذي كان ميزة لمكانة العراق المحورية قبل الاحتلال وعبر تاريخه الطويل حتى بات رقما مهملا في معادلات الوزن السياسي والاقتصادي في المنطقة والعالم ، ولا أحد يجادل في أن الكوارث التي حلت بالعراق هي افراز للاحتلال ومحاصصته الشائنة .


ما أنتجه الاحتلال شر بكل مفرداته تجرع العراقيون مواجعه دون استثناء كل على قدر تحمله ومطاولته وصبره ، وفقدت كل دفعات التخدير رصيدها في إقناع عراقي واحد بوجاهة المحاصصة ، وحتى الذين أتخمتهم المحاصصة بامتيازاتها وجدوا أنهم عاجزون عن الدفاع عنها أمام الملأ وعن ايجابياتها المزعومة ، فركبوا في العربات الخلفية في قطار آخر الليل ، وطفقوا في التشنيع عليها على الرغم من أنهم أثروا نتيجة لتبنيها والدفاع عنها حتى تخمة البطون والجيوب والبنوك وحصلوا على وجاهتهم الزائفة والمؤقتة بسببها .


وعرف العراقيون فساد المحاصصة وتأثيراتها المدمرة على تماسك المجتمع ووحدة نسيجه المتماسك ، ولما أوشكوا أن يواروا عليها حفنة من التراب ، إذا بهم يفاجئون بأنها خلفت وراءها وريثة أكثر سوء منها وتمتلك مخالب مدببة لا تقل ألما عن أمها ، تلك هي محاصصة الفساد التي نشرت أجنحتها فوق مكاتب الحكومة لتمنع أشعة الشمس من أن تؤذي يدا كانت تتسلل خلسة إلى خزائن الدولة لتختلس منها ما تحتمله اللحظة السانحة ، ولأن الأيادي كثيرة وتوضأت قبل أن تقبل عمولات عقود الدولة ، ولأنها التقت عند نقطة التصافح والتسامح على تلك الفعلة ، فقد سادت في شارع المال العام المستباح لغة الحوار لعقد اتفاقيات تمرير تلك الكبائر ووضعها في إطار اللمم والشبهات التي يجوز فيها الاجتهاد المفتوح .


وكي يسكت الكل على الكل ، فيجب أن تتوزع مسؤولية دماء أهل أرض السواد وأموالهم على أهل المنطقة الخضراء ، ولكن الفضائح لا تقدر على الاختفاء لأن فلس الدولة كما علمنا أهلنا أيام زمان كفيل بأن يشعل البحر والمحيط حتى إذا كان هائجا ، فقد تعفنت الصفقات وانتشرت روائحها الكريهة في كل الأرجاء ولم تنفع معها عمليات نثر البخور ، حينها بدأ التلويح بالعصا الغليظة بوجه من ينشر وثيقة ملوثة بمال حرام أو من يكشف عقدا تم تمريره بعد شنق شروط التعاقد مع الشركات في تنفيذ مشاريع الدولة .


وكما أن المحاصصة الطائفية العرقية طبعت مرحلة كاملة من تاريخ عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي ، فإن محاصصة الفساد قد تم توزيعها بطريقة توزيع المناصب على الكتل السياسية والأحزاب المشاركة في العملية السياسية التي صممها بريمر ، وأخفى معه تسعة مليارات دولار فقط ، ولم يتجرأ أحد لتوجيه سؤال له على ذلك لأنه قادر على أن يسد أفواههم ويقطع ألسنتهم بالمال حينما كان حاكما ، وبالوثائق حينما عاد إلى بلاده حاملا للقب الحاكم المدني السابق للعراق ، عندها شمر كل ذي يد طويلة عن ساعديه وفتح خزائن النفط الذي تضاعفت أسعاره عدة مرات منذ الاحتلال حتى الآن ، فاقتنص ما تمكن من أخذه وظهرت أسماء لامعة في سماء أحياء الثراء في لندن ودبي ومناطق أخرى لتحكي قصة الحيتان التي تبتلع كل شيء ، حتى إذا لم تجد ما تبتلعه فإنها على استعداد لابتلاع المقربين في الوليمة ، خاصة إذا تناثرت أدلة الإدانة على أرصفة الطرقات المحمية والتي تمرق فيها سيارات مصفحة ومحمية هي الأخرى بعدد غير معروف من الحراس الشخصيين ، وحتى تبدأ الملفات باستدراج أصحابها إلى ساحة القضاء ، فإن المحاصصة تبقى مهنة مشتركة يتحول فيها الجناة إلى محامين عن بعضهم قبل أن يتغير التكييف القانوني لفهم القضايا المطروحة .


تصدر بين آونة وأخرى عن منظمات الشفافية في العالم احصاءات وجداول تثبت الدول على مراتبها في الفساد في العالم ، الجدول قبل الأخير وضع العراق قبل آخر دولة في النظافة المالية برقمين ، وكان ذلك موقعا تم إخلاؤه للعراق بجدارة منذ عام 2003 ، وانتفضت الحكومة وتعهدت بالقضاء على الفساد وأقسمت بأغلظ ما عندها من أيمان بأنها ستقتص من اللصوص إن ظفرت بواحد منهم ، وبعد انتهاء عام جديد ارتقى العراق درجة واحدة وأصبح في آخر سلم النظافة لا تسبقه إلا بورما والصومال ومن يدري فقد نتفوق على بورما والصومال في العام القادم .


بيد أن المنظمة الدولية التي تصدر هذه البيانات تتوقف عند حجم الفساد أفقيا ولا تتعداه إلى العمق ، ولو أنها قاست حجم الفساد بالدولار الأمريكي ، لاكتشفت دون عناء أن حجم الفساد في محافظة واحدة أو في وزارة واحدة في العراق ولمدة سنة واحدة يفوق حجم الفساد في الصومال وبورما وأفغانستان لعشر سنوات على الأقل .


تبقى ملاحظة جديرة بالاهتمام ، وهي أن الدول الأكثر فسادا في العالم ، هي الدول التي مر فوقها صاروخ أمريكي أو دمر أحد أبنيتها ، أو عبثت في طرقاتها أرتال الدبابات الأمريكية واتخذت قيادة عسكرية أمريكية ميدانية لنفسها مقرا فيه من أجل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية بكل المدن والطرقات وفي كل المواسم .

 

 





الثلاثاء٢٩ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة