شبكة ذي قار
عـاجـل










لا تسأل عن الإنسان .. ولكن اسأل عن الظروف , مقولة لطالما علقت في ذهني منذ الصبا وإلى اليوم منذ أن وقعت عيناي على رواية لإحسان عبد القدّوس احتوت هذا  "التعبير" , صحيح أنّ مثل ذلك التشخيص تبسيط لحالات رافقت ولادة ظروف مرحلة فائتة سبقت جيلي أنا والجيل الذي سبقني  , ولكنها تربعت مبكّراً على جزء من مساحة خليويّة من ذاكرتي قبل غيرها من مقولات مشابهة دخلت الذاكرة فيما بعد .. طبعاً المقولة كانت تقصد , وحسب فهمي لها آنذاك وبقي معلّقاً في ذاكرتي , البيئة , التي تتربّى وسطها وتتغذّى عليها , وكما فهمت لاحقاً , المكوّنات والعناصر التي تشغل كامل أبعاد مساحة تلك البيئة ومنها الفضاء المحيط بها أيضاً ! ألم تثقب طبقة الأوزون بيئتها الصناعيّة الطارئة ؟! .. , ومنها الإنسان كذلك .. فكم قائد غيّر مجرى التأريخ لا المعارك وحدها أفرزت أمثالهم بيئاتهم المختلفة والمتشابهة , وكم من مفكّر ونبي ومصلح شغل الناس وسار ذكره مع مسار التاريخ , والّذي لم يكن كذلك لولا البيئة التي ظهر منها وحتّمت عليه أن يكون كذلك .. ليس هذا فقط بل قد تكون هنالك أيضاً دوافع أخرى تخلق مثل تلك  "الظواهر"  ظروف طارئة تنتج تغييرات اجتماعيّة قد تغيّر جذريّاً المحيط الذي تقتحمه , سواء أكان ذلك التغيير على مستوى الفرد أو على مستوى المجموع خاصّة إذا ما تمدّد الظرف الطارئ وتحوّل وتوسّع إلى "بيئة طارئة" كالتي تمرّ على المجتمع الليبي الآن بكلّ مكوّناته , ولعلّ أكثر من ستغيّره هذه "الظروف" التي تمرّ على الشعب الليبي هو العقيد زعيم ليبيا نفسه وأحد أبرز ضبّاط الجيش الليبي , هذا الجيش الذي يواجه مع شعبه الآن ذات تسلسل فصول الهجمة الغربيّة الشرسة التي استهدفت جيش العراق واستهدفت شعبه , فلا غرابة وليست صدفة , وبما أنّ مصير الأمّة واحد مهما اختلفت ظروف الاختراق ونوعيّات الاستهداف التي تحيق بنا , فلا غرابة وليست صدفة تلك التي ساقتها الأقدار لأن يكون الرئيس الليبي سليل مؤسّسة عسكريّة كان قد أسّسها وبنى هيكلها وأشرف على تشكيل وحداتها العسكريّة أربعينيّات القرن الميلادي الماضي الفريق الركن محمود شكري "أعتقد هكذا اسمه ورتبته بحسب ما أتذكّر من مصدر قرأته" وبطلب من الملك الليبي آنذاك إلى الحكومة العراقيّة  بعد إجماع من أعضاء الحكومة الليبيّة في اختيار العراق لتلك المهمّة , مهمّة تأسيس نواة الجيش الليبي الذي تطوّر فيما بعد ليصبح أحد أعمدة المؤسّسات العسكريّة الدفاعيّة التي تذود عن البوّابة الشماليّة للوطن العربي , وليكون هذا الجيش هو المستهدف لاحقاً بعدما استهدف "الجيش الأمّ" جيش العراق العظيم ..

 

ما ينطبق على صدّام في التناول هنا ينطبق كثيراً على القذافي بحسب الضخّ الإعلامي الغربي وتوابعه الناطقة بالعربيّة .. وبما أنّ العدوان على الأمّة العربيّة يتكرّر بذات الذرائع نفسها , وفي كلّ مرّة يجد الاستعمار أمامه فرصاً مواتية للانقضاض على الأمّة من أيّة زاوية أو جهة يجدها أصبحت مكشوفة , فإنّنا نأتي على ذكر اسم الرئيسين , صدّام حسين والرئيس القذافي بحسب متطلّبات مقارنة إذا ما استدعت ذلك ظروف المقالة هذه ..

 

فالترهّل والانكماش والخمول والانطواء صفات يصاب بها كلّ من ترك النشاط الجسماني أو الفكري جانباً وانغمس في الاسترخاء أو انغمس في هبات القدر بما يمنحه عليه من أسباب رغد العيش  , ولعلّ أكثر ما يبعث على الاحباط والضجر في مثل هذه "الحالات" وتكاد تختفي وسطها القيم الفعّالة في بقاء النوع وتطفو على سطحها بدلاً عنها قيم النفاق وتعلوا أصواتها , ومن منظور سوسيولوجي عام , هو عندما تفقد البيئة خاصّيّة "الحثّ" أو الاستحثاث بعد أن تفقد خاصّيّة "التعرّض" التي عادةّ ما تكون مناقضة لرتابة حركة مكوّنات تلك البيئة  ذات الرتم الواحد , عندها سوف لن تكون هنالك حالة اختبار حقيقيّة ممكن أن تفرز تقرير معملي جيّد وفعّال يفصح عن نوعيّة معادن تلك المكوّنات أو عن جوهر العنصر القائد لها أو مجموعة العناصر القياديّة فيها , فنسمع أصوات مرتفعة بينما تبقى حركتها وعمليّة تفاعلها راكدة تقريب .. فقد لم نكن لنسمع يوماً عن "بنسلين" لولا الحمّى .. ولم يكن العراق ليمتلك مئات من أساتذة طب من أمهر أساتذة العالم في الجراحة والكسور لولا الحرب الإيرانيّة على العراق التي استمرّت أعواماً طويلة أنبتت خلالها بيئة حاضنة لمثل تلك المستويات العلميّة الفريدة والنادرة , ولم تكن شعوب العالم لتسمع  باسم "ستالين" لولا هتلر ! ولم تكن أن تتاح لنا نحن العراقيين والعرب وشعوب العالم كذلك فرصة التعرّف على صدّام حسين خارج دائرة الحكم ومتطلّباته والتعرّف على تصرّفاته وسلوكه الخاص عن قرب , لولا الذي قام بالتبليغ عن مكانه الذي يتستّر فيه , لا نبرّر الخيانة بقدر ما نكتشف بورنوغرافيّة للحظة تراجيديّة من مقتطع لتفاعل حتمي إن صحّ التعبير يكون "المبلّغ" بطله .. ولم يكن كذلك للكثير أن يعرف , لولا الحرب الأميركيّة المباشرة على العراق والتي استمرّت أكثر من عشرين عاماً وأن يكتشف  "أن ما مارسه صدّام من ممارسات دكتاتوريّة "  طالما اتّخذها المحتل ذرائع لاحتلاله العراق , إن كانت كذلك , إنّما استمدّها صدّام من ثقة شخصيّة تعتمد على ذات قويّة بناها بيديه دون اتّكاءه على قوى خارجيّة يتنقل بينها إذا ما رفع الغطاء عن إحداها كما يفعل دكتاتوريّو المنطقة الخضراء اليوم من المتسلّطين على رقاب الشعب العراقي بكل ما يعني التسلّط المنفلت عن عقاله من معنى ..

 

 ولولا الاحتلال الأميركي للعراق لما أمكن لنا أن نعرف حجم الإجرام الدموي والمعنوي الذي يمكن أن يفرزه الاستعمار  "البورنوي" الأميركي في العراق من ولادات فاسدة قادت البلد إلى الخراب والدمار .. .

 

والآن .. وبحقيقة يجب الاعتراف بها ويجب أن تقال , والشيء بالشيء يذكر , وما دامت حالة الهجوم الغربي , والغربي المسلّح تحديداً ,  تتكرّر فصولها حاليّاً على ليبيا لإزاحة رئيسها ( ورئيسها تحديداً ) بعد إزاحة نظام العراق وصدّام ( وإزاحة صدّام تحديداً) بنسختها العراقيّة القابلة للتطبيق تفصيليّاً والتي يتم تطبيقها على ليبيا على مراحل سريعة ومتلاحقة , بدت حالة الاستعجال في تطبيقها كمن يصلّي الفرائض جميعها "قضاء" في ظرف معيّن دفعة واحدة وفي وقت واحد وكأنّ الشمس خلالها أشرقت وانتصفت وانكسرت وغابت واختفت وفي وقت واحد! , فإنّنا لا بأس من تناول شخصيّة الرئيس القذافي هذا التناول من بابه المقترح أي لما ستؤول أو لما سنكتشف العقيد خلالها وهو بحالة شخص آخر "غير مستقرّ" وليس خارج سدّة الحكم تماماً حيث لابدّ وستختلط تصرّفاته وسلوكه في تناول شؤون حياته الرئاسيّة وهو وسط قلق مستقبله ومستقبل ما أسّسه من نظام جمهوري طيلة أربعين عاماً لم تتخلّلها انقلاباُ عسكريّاً ولو واحداً , لا كما كان حال العراق بعد ثورة تمّوز الجمهوريّة حين شهد عدّة انقلابات عسكريّة , فبعيداً عن الأوصاف الجزافيّة التي تطلق على شخص العقيد والتي عادةً ما كنّا نسمعها تطلق عليه ـ مجنون معتوه طائش قاتل مكروه جبان أرعن أرعش فجّ غير ضروري متلوّن جلف مراوغ ـ الخ من أوصاف ممكن أن يوصف بها رئيس مثله بدا في فترة الانتعاش والانكماش والخمول وفقدان الحتميّة في "الاعتراض" , أي فترة حكمه الطويلة الخالية من المواجهات الحقيقيّة بحسب تصوّراتنا ,  وتأخّر حدوث حالات الاعتراض أو تباطئها في الوصول والتعرّض كان قد بدا خلالها العقيد وكأنّه رئيس ثرثار لا يجيد سوى الاستعراض والمهارة في خطف الانظار والقدرة على إحلال المفاجأة في الاوساط التي يجد نفسه حلّ وسطها لا أكثر من ذلك أو أقلّ , ولكنّه بدا اليوم , والعالم الغاشم القوّة يتحيّن اللحظات المناسبة للانقضاض عليه وإسقاط نظامه واحتلال ليبيا ترافقه كالعادة جحافل المؤمنون بالله واليوم الآخر من الذين يدّعون كرههم الشديد للغرب الكافر! من قادة وأتباع  لأحزاب إسلاميّة مختلفة , والتي تقودها قناتي المستقلّة والحوار الدجّالتين , عرفت بعناوينها المخمّرة والمعتّقة أميركيّاً , وعلى المكشوف هذه المرّة وبدون تحفّظ أو خجل أو حتّى من مبرّر يقترب من الحقيقة ولو بمسافة معقولة تبيح العدوان على ليبيا وإزاحة رئيسها من أمام أعين نفطيّة جاحظة تدير كبريات شركات النهب النفطي أينما كان , وسط هذا التحدّي الحقيقي هذه المرّة التي ستضع أيّ رئيس على المحكّ في مثل هذه الظروف , بدأنا وبدأ العالم يستيقظ على السلوك الشخصي الخاص للعقيد وهو في حالات عدّة لم تكن مألوفة لدينا أن نراها في شخصه مجرّدة صادقة هكذا لاغية لشيء اسمه  "عدسة"  ـ مذهول غاضب متفاجئ ـ وأكثر ما ميّز حالاته الانفعاليّة هو حالة الاندفاع المضادّ التي بدا عليها الرئيس العقيد وعبّرت عنها كلماته الحماسيّة في خطابه المرتجل في نفس اليوم الذي أفصح المتظاهرون عن أنفسهم الخيانيّة وكشّروا عن أنيابهم  , وهي تدلّ عن شجاعة لا إراديّة  تسكن فيه "شجاعة بالغريزة"  لا تتوفّر في الكثير من قادة دول عالم اليوم المنبطحون كلّيّةً , إذ لو أنّه كان ليس كذلك وبعكسه , فإنّنا كنّا سنرى عقيداً يختفي أو يلجأ إلى ما يواريه عن الأنظار والملاحقة ليتمتّع بأمواله الشبه تريليونيّة كما نشرت ذلك مؤخّراً , "ويا سبحان الله تتكرّر مع كل زعيم عربي مستهدف" إحدى مجلاّت الغرب المتخصّصة كما تقول بأثرياء العالم ! يعني يبدو العقيد , وبمنطق من سلّط الضوء على ما ذكرته هذه المجلّة أن العقيد كان يحتفظ برصيده الشبه تريولوني "130 مليار دولار!!!" ليوم الشدّة .. وهل توجد اكثر من هذه شدّة تمرّ على القذافي .. يعني .. وبالمفتشر .. كما يعبّر الأخوة المصريّون , وبالعراقي .. يعني قابل جان العقيد يجمّع بيهن حتّه يخلليهن عالتلفزيون يكشخ بيهن ! .. بل أنّنا  لم تتح لنا أن  نرى  روح العقيد المتحديّة التي عليها في هذه الحالات المصيريّة , لكنّا رأينا روح أخرى معروفة ولطالما رأينا هروبها من أمام الميادين بمجرّد التلويح بالقوّة من الطرف الآخر .. لكنّا رأينا عقيداً يتفّزز من أيّة صيحة حتّى ولو كانت لا تعنيه , لكنّا رأينا عقيداً هرب إلى فنزويلاّ كما صرّح المحترم المتحدّث باسم البيت البريطاني الأبيض منذ أن أعلن قوّاد شيوخ الخليج والجزيرة عارض الأزياء ساركوزي ! , عقيداً تملى عليه الأوامر الأميركيّة أو الغربيّة ينفذها على الفور ولا يستطيع دونها تحريك جندي واحد من مكانه .. عقيداً يضع أكاليل الزهور على قبور فلذّات أكباد الشيطان الأكبر .. لكنّا رأينا عقيداً يتحصّن بعشرات من مئات الألوف من قوّات مكافحة الشعب مدجّجة بأحدث أسلحة التشتيت والقتل تقودها أضخم وأحدث مدرّعات قذف المياه الحارّة بوجوه  كلّ من يريد حقّه ويطالب فيه تكلّف شرائها وتكلّف رواتب قوّات المكافحة المليونيّة ميزانيّة الدولة عشرات المليارات من الدولارات شهريّاً للدفاع عن رئيس الحكومة فقط  وتمنع استقالته أو الإطاحة به ! ..  ولكنّا رأينا عقيداً  ينفذ توصيات وليّه الأكبر في شن الهجمات السياسيّة على دول الجوار ويدخل في أحلاف الغرب كما كان يفعل  "نوري السعيد" مع الاعتذار لنوري السعيد بما يحصل في العراق من نوري اليوم ..

 

 رباطة جأش عالية استرجعها العقيد على مراحل سريعة ومتلاحقة  واستعاد توازنه خلالها سريعاً ووصل به إلى قمّة التحدّي بعد لحظات من التقلّبات الدراماتيكيّة المفاجأة أذهلت العقيد بادئ الأمر دون أن تثير فيه روح الهزيمة , بل استوعبها كأي بدوي صحراويّ صبور ؛ ما بين التظاهر السلمي المزعوم مباشرةً إلى هجمات عسكريّة مسعورة قادها نفس المتظاهرين المزعومين أخذت أفواجها تطوف شوارع بنغازي ومساحات ليبيّة بعينها وتمتطي أحدث الأسلحة من راجمات ودبابات وطائرات ومدافع مقاومة ومدافع ثقيلة ! يرفعون فيها أعلام العهد الملكي الخائن العميل الملعون .. باعتقادي سيستقرّ العقيد على هكذا حالة وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعول ..

 

اتسعت رقعة المواجهة الغربيّة ضدّ الأمّة العربيّة واتّسعت رقعة مساحاتنا المحتلّة "بنغازي" مثل .. بينما البعض منّا لا زال "يتحزّم" !! ..

 

 





الاحد١٥ ربيع الثاني ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٠ / أذار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب طلال الصالحي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة