شبكة ذي قار
عـاجـل










( لسنا كل ما يحصل من ثورة عربية عارمة ولكننا طرف فاعل فيه منذ عام 1947)

 

وضع الاحتلال الأمريكي للعراق الأمة العربية أمام مفترق طرق هو الأخطر في حياتها كلها. فالغزو العسكري الأمريكي المتحالف مع قرابة ثلاثين دولة هي قوام ما سُمي بالقوات الدولية المشتركة ومضاف لها عشرات الدول الساندة ماليا وإعلاميا وسياسيا، قد اختار العراق لأنه القطر العربي الوحيد الذي يحكمه حزب قومي الأهداف والتطبيق والتطلع، وتقوده قيادة قومية كما لم يحصل في تاريخ العرب الحديث ويتبوأ فيه عرب مراكز قيادة وتوجيه واستشارات من أعلى هرم السلطة حتى أصغر مفاصلها ويشارك ضباط عرب في إدارة دفة بعض القطعات العسكرية ويقف على إمكانات اقتصادية تمكنه من تنفيذ برنامجه الوطني والقومي. وكانت دولة العراق القومية تتحرك في كل اتجاهات العمل المحلي والإقليمي والدولي على أساس قومي ضامن لحقوق ومصالح العرب قاطبة، وليس للعراق كحالة قطرية منفردة. وعلى هذا فقد فرض يوم 9-4-2003 الأسوَد على الشعب العربي وقواه الخيّرة، أن يسير في أحد طريقين لا ثالث لهما:

 

الأول: مقاومة المشروع الأمريكي وتحجيمه تدريجيا وصولا إلى تفتيته وإسقاطه.

الثاني: التعامل مع الأمر الواقع الذي فرضته الآلة العسكرية الامبريالية وحلفاءها بما فيهم إيران بما يفضي إلى قبوله، التي قاتلت العراق وقاتلها ثمان سنوات انتهت بانتصار عراقي ظلّ كابوسا يخيم على عمامة الدولة التي تأسست على خارطة توسع لا يمكن النكوص أو التراجع عنها وهي خارطة إقامة الدولة الشيعية الصفوية القومية الفارسية، والتي حسبت حسابات مذهبية صرفة على إن ثلاثة أرباع الجغرافية العراقية تحت تصرفها.

 

كان مشروع الجهاد والمقاومة المسلحة، قد أُعد سلفا من قبل القيادة العراقية الوطنية القومية الثائرة. ونقول أُعد سلفا لان معطيات الأمور كلها كانت تشير إلى إن الاحتلال سيكون محصلة حاصل بعد الأحداث التي جرت منذ الأسابيع الأولى لانتهاء الحرب الإيرانية على العراق وزج الكويت في ذيولها من قبل أميركا لجر العراق إلى بؤر استنزاف جديدة و وصولا إلى تنفيذ حصار لم ولن يحصل له مثيل في تاريخ البشرية القديم ولا الحديث اثر سلبا على العراق وشعبه تأثيرات مدمرة.

 

كان قوام المقاومة التي أعدت لها القيادة العراقية يتكون في شقه الأعظم من كوادر الحزب وقواعده مدنيين وعسكريين ومنطلق الاعتماد متأت من الروح الثورية والجهادية التي تربىّ عليها أبناء البعث العقائديون الرساليون ولم يغادروها تحت أي ظرف كان بما في ذلك ظروف التعاطي مع سلطة الحزب التي دامت قرابة خمس وثلاثين عام وما فرضته من ضرورات بعضها لم يكن سيحصل لولا السلطة وضرورات حمايتها. ونحن هنا نتحدث عن البعثيين الحقيقيين، وليس عن الحزبيين فلقد كان الإدراك بالفصل بين الشريحتين قائم في عقول الكثيرين من قادة البعث وكوادره المتقدمة. إن البعثي الحقيقي لم ينتمي إلى حركة الثورة القومية الاشتراكية التحررية إلا ليكون جزءا من طلائع الانقلاب الثوري على الواقع العربي المتردّي وليس ليكون مديرا أو وزيرا. وكان الآلاف من أبناء البعث يتواصلون مع فكرة الثورة في انضواءهم تحت ألوية عقيدة الأمة تحت فهم وإدراك حسّي ومادي، إن هذا الانتماء هو الثورة بعينها.

 

الممهدون للثورة:

استهداف العراق وتجربته القومية كانت تهدف للإجهاز على آخر خيوط الأمل والرجاء عند شباب الأمة ورجالها في إمكانية أن تُنار مسالك الوحدة وتُعبّد طرق التنسيق واللقاء على قواسم مشتركة صغرى على الأقل بين أقطارها. استخدام القوة من قبل معسكر العداء للعرب ولتطلعاتهم القومية في صيغة غزو واحتلال هو تطور تاريخي في مسيرة الصراع التي امتدت منذ الحرب العالمية الأولى وأخذت مسارا تصاعديا أفصحت عنه معاهدات تقسيم الأمة في معاهدة سايكس- بيكو وتأسيس الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي. ومن البديهي أن يكون الهدف المتقدم في أجندة الامبريالية والصهيونية والصفوية الفارسية الاحتلالية إنهاء الروح العربية المتطلعة للوحدة والتحرر والحياة المزدهرة عند العرب عبر حالة اليأس و التركيع التي ستسود بعد إسقاط النظام القومي في العراق وشرذمة العراق وشعبه وإلصاق التبعات الإجرامية التي يمارسها الغزاة وأعوانهم ضد العراق شعبا وأرضا ظلما وبدون أي وجه حق على عاتق البعث وقيادته ونظامه الوطني. وعلى هذا فان حملة التبشيع والشيطنة ضد البعث لم تكن موجهة للبعث حصرا، بل ولكل جماهير الأمة التي كانت تعلق الآمال، وترسم التطلعات وتتغنى بالرجاء الساطع من بغداد العروبة لخمس وثلاثين عام.

 

تمكن مجاهدو البعث في العراق من تحجيم وبعثرة أطراف المشروع الاحتلالي بكل خطوطه الأساسية العسكرية والسياسية بعد أن حولوا ارض العراق إلى جحيم التهم الغزاة وآلتهم العسكرية التي هي الأعظم و الأقوى و الأحدث في العالم. ويمارس البعثيون إلى اللحظة عملا مقاوما منظما و ممنهجا على رؤى إستراتيجية لضمان تحقيق التحرير الناجز واستعادة حقوق الوطن والمواطن كاملة غير منقوصة، وفي إطار تكتيكات ميدانية متاحة للتنفيذ بمرونة مشهودة تمكنت من تحقيق ضربات موجعة أحدثت خسائر بشرية ومادية أجبرت الاحتلال على الانكفاء عسكريا والتعويل على العملية السياسية المخابراتية التي يستفيد فيها من العملاء الذين تعاقد معهم قبل الغزو كواجهة عراقية وعلى من استطاع سحبهم بإغراءات المال والسلطة وتأثيرات أخرى كثيرة. إن أسلوب الحرب غير النظامية بواسطة آلاف المجاميع و الأفراد المنتشرين على صيغة التشكيلات الخيطية قد حققت نتائج باهرة في إحداث خسائر فادحة بالغزاة لم توضع قطعا في حساباتهم وخلقت فجوة خطيرة بين خطط السوق والنتائج المحسوبة سلفا وبين معطيات الميدان جعلت الأمريكان يسقطون في تخبط واضح ويضعفون عمليا في الوقت الذي تتغير فيه حركة المجتمع الإقليمي والدولي إلى ما هو لغير صالح الأجندة الأمريكية للسيطرة على العالم عبر السيطرة على العراق.

 

استطاعت الأسلحة المخزنة سلفا للمقاومين من صواريخ وقاذفات والأسلحة التي يطورها المجاهدين ميدانيا من وضع القوات الغازية أمام ضربات ماحقه تحصل في كل حين في الشوارع وفي المعسكرات المحصنة من جهة ومن جهة أخرى أتاحت مراجعات المجاهدين البعثيين لمرحلة ما قبل العدوان فرص الانفتاح على الخارطة السياسية والجهادية التي تشكلت بعد الاحتلال، الأمر الذي بسط مساحات حواضن واسعة للمقاومة وللحضور الجهادي البعثي في كل الساحة العراقية. واستثمرت الخارطة السياسية السيئة التي رسمها الاحتلال عبر المحاصصة الطائفية والعرقية لتبقي من نظام البعث نموذجا وطنيا حاضرا في عقول العراقيين والعرب جميعا الأمر الذي أتاح للبعث المقاوم فرص اللقاء بقوى مقاتله ومقاومة وطنية وقومية وإسلامية ليشكل جبهة قتال عريضة قدمت للعراقيين وللعرب فرصة ثمينة لقناعات عالية بان أميركا غير قادرة على ذبح الأمة وإرادتها التحررية.

 

هكذا تمكن مناضلو البعث من تحطيم المشروع الامبريالي وتهشيم مكوناته، والحد من حركة أجنحته التي جاء محلقا بها لتحقيق الشرق الأوسط الجديد، والتمدد شرقا وغربا بعد أن أعلن متبجحا بأنه صار جارا لإيران ولسوريا مع علمنا انه كان يقصد سوريا حصرا وتحديدا لان جيرته لإيران جيرة حسنة ومبنية على شراكة قذرة ضد العراق و الأمة العربية.

 

البعث وشركاءه الوطنيين والقوميين والإسلاميين جعلوا المقاومة طرفا أساسيا في واقع العراق المحتل, وأوهنوا المشروع الأمريكي بحيث تكشفت ظهر أميركا عارية داعرة مفضوحة بجرائم يندى لها جبين الإنسانية وبواقع حال لا يفصح عن القوة الأسطورية التي سوقت بها نفسها وسوقها بها أجراءها وقردتها. لقد جعلت مقاومة العراق الآمال تنتعش من جديد وروح الثورة تتصاعد في نفوس العرب لأن نظرية (دي أميركا يا صدام) قد دهست بحوافر خيل سراة التحرير.

 

60 عاما من ثورة البعث تثور الأمة البعثية:

 

مَن يفهم معنى البعث ومَن يتبصر في كينونته وصيرورته ومَن يقرأ أهدافه ومبادئه بعناية وحيادية لا تخضع لأدوات التبشيع الأمريكية والصهيونية والفارسية التي استلت كل خناجرها بعد احتلال العراق سيجد إن البعث هو ضمير الأمة ونبض حياتها المتطلعة للحرية والديمقراطية وازدهار الحياة. البعث هو الأمة العربية بماضيها المشرق المعطاء الذي سجل الحضور الإنساني الراقي للعرب في السفر الإنساني, وهو حاضر الأمة الرافض للظلم والقهر والأمية والتخلف والفقر والجهل والتجهيل, وهو بوصلة الصدق في الولاء والانتماء وميزان الفصل بين الإخلاص وبين الارتماء في أحضان الانتفاع وقصر الرؤى والعبودية لإرادة الصهيونية وسواندها، حيث هي العدو الأكبر للعروبة ووجودها. البعث يقود الوعي العربي منذ أربعينات القرن الماضي ويفجر المواقف المناهضة لكل ما هو معادي للشعب العربي وتطلعاته وحقه في الحياة الحرة الكريمة. البعث مذ تأسيسه، وهو يقود انقلاب الأمة على واقعها المتخلف الموصوف بضحالة العطاء وهفوت إشعاع الفكر و تأخر الفهم والإبداع. والبعث هو قوة التصدي لكل الانظمه العميلة والرجعية التي مسكت وتمسك بخناق شعبنا وهو المتصدي الأول والتاريخي لكل حلقات التآمر ومنها مؤامرة الاستسلام لإنهاء قضية العرب المركزية فلسطين.

 

على هذا فان ثورات العرب اليوم في كل بقعة من ارض العروبة لا تنفصل أبدا عن حركة النضال البعثي هذا فضلا عن إن البعث موجود في أوارها يقود ويحشد ويتفاعل وينتج ويصعد ويوجه.

 

 المنجز الصدامي ونموذج القيادة الأسيرة وتأثيراته:

 

من حق البعث أن يربط جدليا بين ثورة الأمة الكبرى وبين مسيرة جهاده في سبيل الأمة وأهدافها العظيمة في الوحدة والحرية والاشتراكية. ومن حقه, لأنه امة كاملة, أن يبرز عطاءه وتضحياته التي أوصلت العرب إلى منصات الثورة الشاملة على كل ما قيد حاضرهم من جوع البطون والعقول وكبل خطوهم للعيش كما تعيش الشعوب التي سلبت العرب ثرواتهم وأرضهم واستحقاقاتهم كلها، فترفهت وتقدمت بواسطتها وبمعونتها في حين ظل العرب يتداولون الشقاء وضعف الأداء لان الأنظمة العربية خانعة وعميلة ومتخاذلة ومكونة من شلل المنتفعين وعديمي الإحساس والغيرة والوطنية.

 

ومن بين أعظم ما أنتجت حركة البعث هو نظام الأمة البعثية في العراق 1968-2003. وإذا كنّا قد اشرنا بدءا إلى بعض الصورة القومية العروبية العظيمة التي أنتجها البعث في العراق, فان النهاية التي اغتيل في إطارها النظام البعثي هي الأخرى قد كانت من بين العوامل التي لا يمكن لباحث منصف أن يتجاهلها في فعل التنوير والتثوير التي آلت إليها حال الأمة بعد سبع سنوات من احتلال العراق.

 

 نعم .. لقد كان ميزان المواجهة لصالح دول العدوان فاحتل العراق .. غير إن المقاومة التي هزمت الاحتلال وأطاحت بمشروعه بعد أن أوقعت به أفدح الخسائر ولما تزل, من جهة, والموقف البطولي لقيادة العراق في الأسر والمحاكمات الصورية الإجرامية وفي لحظات الاغتيال شنقا قد أينعت كلها في نفوس شباب الأمة رموزا مقدسة للوطنية والروح اليعربية المسلمة الفذة الشجاعة. لقد قدم الشهيد صدام حسين ورفاقه الخالدين نماذج أسطورية في الصبر والإيمان والثبات على العقيدة والرسالة القومية حد الشهادة من اجلها ... لقد كانت أصواتهم وهي تبصق في وجوه جلاديّ الزمن الردئ تلهب الحماس في النفوس وتسقط أساطير التفوق الأمريكي الصهيوني وتنهي إلى الأبد مطبات الخوف والتردد.

 

صدام حسين ورفاقه في الأسر والشهادة اثبتوا أن البعث هو الأمة بروحها البطولية وبنهجها الرسالي مثلما برهنوا لشعبنا العربي العظيم أن البعث قول وفعل وانه صدق وشفافية ونقاء منهج. إن الصلة بين ثورة تونس ولحظة اغتيال صدام حسين جدلية ولا يمكن إلغاءها شاء من شاء وأبى من أبى، وان الصلة بين ثورة مصر العظيمة هي صلة روح وأخلاق وجدل حياة عضوي مع موقف شهداء العراق وأسراه في اقفاص الطغيان والاستكبار الأمريكي. مشهد الثورة البعثية في اقفاص الأسر لكل الأسماء الأسطورية نسغ غذّى مقاومة العراق، ومقاومة العراق غذت روح التحدي وكشفت ترهل النمر الأمريكي حين يواجه البطولة العربية.

 

البعث حامل اقباس الثورة القومية للتوحد ونماء الحياة منذ تأسيسه .. وهو حامل رايات الثورة في كل ارض الوطن الكبير فليدلوا في هذا المضمار كل مفكر وعقائدي ومؤمن بدلوه ... الأهداف الآن صارت مفروزة و واضحة، ومن يبقى يتختل خلف البهتان وبذئ المواقف سوف لن يحصد غير الخذلان .. ثورة البعث اليعربية بدأت عام 1947 وهي حضن لكل عناوين الإباء ولكل عناوين العطاء فلتتحد إرادات الإسلام الثائر والقومية الصادقة المؤمنة والوطنية المخلصة الصافية لتأجيج أوار فعل الأمة ليتحرر الإنسان ويوحد مسارات فعل هذا الفضاء الإنساني العربي العظيمة حضارة وتمدن وحقوق. لقد تحول احتلال العراق إلى فعل معاكس لما أرادته أمريكا وتحولت الأجندة الأمريكية كلها إلى وبال على أمريكا والصهيونية، وتحول اغتيال صدام حسين و رفاقه وانجازات المقاومة العراقية البطلة إلى فعل عربي ثائر عملاق. وعلى ثوار الأمة أن يحصنوا ثوراتهم وانتفاضاتهم لكي لا تخترق من قبل المتربصين فلعمري هذا هدف لا ترتقي إلى أهميته سوى أهمية حصول الثورة ذاتها.

 

aarabnation@yahoo.com  

 

 





الجمعة٠٦ ربيع الثاني ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / أذار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. كاظم عبد الحسين عباس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة