شبكة ذي قار
عـاجـل










●  يُلمِحُ البعض إلى أن "الفوضى الخلاقة" .. وراء المد الجماهيري العربي !!

●  ويرى البعض الآخر .. إنها تتربص الفرص من أجل التدخل .

●  ما يحصل في الوطن العربي من انتفاضات .. ليس ورائها الفوضى الخلاقة.

  أمريكا .. تخلط الأوراق .. وتستثمر الأحداث لا غير !!

 

أحياناً قد ينساح الفكر، وهو في خضم الأحداث صوب التشخيص غير الدقيق لكي ينتهي بتقديم خلاصة غير موفقة تُحَمِل الأحداث أكثر مما تحتمله من نتائج، وخاصة في مسألة الحكم عليها، بأنها مشوبة وغير خالصة، والرأي الماثل حيال تلك الأحداث ينبع في مثل هذه الحالة من نظرية المؤامرة، حين ينظر إلى الأحداث بعين واحدة أو من زاوية واحدة، والخلاصة في هذا المنحى تكون عادة قاصرة أو ناقصة أو إيهامية حتى يُخَيلُ بأنها الحقيقة الكلية، التي لها الباع الأول والأخير في رسم تلك الأحداث .. والرأي هذا يقصي حقائق أخرى موضوعية ويستلب منها جوهرها المحرك للصراع، ويضعها في غير خانتها بعيداً عن طبيعتها وشروطها الذاتية، التي تختمر طويلاً قبل أن تنضج لكي تتوازن مع الظروف الموضوعية في صيرورة تشكل الحركة الدائبة للشعب حتى تبلغ فيه التناقضات والصراعات حداً يستدعي الحسم لصالح الشعب مهما كان الصراع عنيفاً وقوياً ومستمراً .

 

تلك الأمور تتشكل على الطبيعة ، ولا ننكر التدخل الخارجي، فهو وحسب طبيعته (يخطط) لمدى ومراحل، ويضع سيناريوهات وبدائل (( لأن مراكز أبحاثه تعمل على نطاق واسع وترصد لها ما يؤهلها في إنجاز مهامها، وتعير لها القيادات السياسية والإستخبارية اهتماماً بالغاً ، لأنها من غير مراكز الأبحاث والدراسات يصعب على دوائر صنع القرار أن تنجز أهدافها )) .

 

دعونا ندخل في التفصيل لكي نخلص إلى التفريق والفرز، حتى لا تختلط الأوراق :

 

1-    العوامل المتفاعلة، التي تتقاطع مع سلطات النظم العربية موجودة في شكلها التراكمي منذ عقود، في الساحة التونسية والمصرية والليبية وغيرها. بعض هذه العوامل المحركة للصراع قد نالها قانون النضج، وحين تكثفت حالة الانتفاضة اندلعت شرارتها في تونس ومصر وليبيا إلخ ..

 

2-    عوامل التفاعل والتقاطع مع سلطات النظم في ساحات أخرى :

أ‌-       لم تصل بعد إلى حالة النضج الكلي .

ب‌-    أو أن الشروط الذاتية لم تكتمل بعد .

 

ت‌-   أو أن هذه الشروط لم تنضج بما فيه الكفاية حتى تتمكن من " تحريك واقع الصراع " .. والمعنى في الشروط الذاتية (( هي الحالة المتفاعلة الناضجة المتقدمة على الإدراك العام، والقادرة على قيادته )) .

 

ث‌-   أو أن الكوابح الضاغطة والمفككة للصراع الموجهة من سلطات النظم أو من عوامل ذاتية أو انشغالات داخلية، هي من القوة والتأثير ما تعيق الحركة.. ولكن، في الوجه الآخر يزيد من إنضاج الشروط الذاتية على ساحة الصراع (( فكلما زاد الضغط والكبح والقمع كلما نضجت الشروط الذاتية على طريق الثورة )) .

 

نظرية  "الفوضى الخلاقة " أو المنظمة ... كيف نحتسب دورها ؟!

 

كنا قد تحدثنا عن النظريات الأمريكية، التي تنتجها مراكز الأبحاث الأمريكية في مقال سابق نشرته البصرة المناضلة بتاريخ  7/ 2 / 2011 تحت اسم " هل توجد في علوم السياسة خرائط نهائية" ؟! عرَجْتُ فيه إلى تلك النظرية، التي يراها البعض تجمع بين نقيضين، هما الفوضى والخلق، وهو تعبير في طبيعته العضوية غير الوصفية لا يشكل تعارضاً أو تقاطعاً، لأن الفوضى هي الفوضى بما تمتلكه من تداخل و(اختلاط الحابل بالنابل)، كما يقال ، في كل شيء ، في السياسة والاقتصاد والتنظيم والتكوين والمجتمع في حركة دائبة ومستمرة من الصراعات وانعدام الروابط للمكونات، التي تنظم الأطر، والدوران في حلقة مفرغة ليس لها نهاية .. أما (الخلاق)، فهي الحالة المدروسة والمحددة المسيطر على حالة الفوضى في إطار سياسي أمني عسكري صارم تحكمه إستراتيجية ذات مدلولات ترتبط بواقع متحرك .

والفوضى من هذا النوع تأتي في شكلين :

 

أولاً- إما عن طريق التدخل العسكري المباشر وبصيغة احتلال، تستخدم فيه القوة وتفكك أطر النظم السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية وعلى قاعدة ( إحلال ثقافة مغايرة تماماً للثقافة السابقة بكل روافدها التاريخية والحضارية )، وهذا ما حصل في العراق حين احتل الأمريكيون المستعمرون العراق وفككوا أنظمته الوطنية، السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية، وعملوا على (( إعادة تشكيل المجتمع العراقي على وفق الصيغة، التي تنعدم فيها الوطنية وتذوى فيه الهوية القومية العربية، وتنقطع الصلة نهائياً بالعمق القومي العربي ، وتحل المذهبية بدلاً من الدين الإسلامي الحنيف )) . إعادة التشكيل هذه في نطاق (الفوضى الخلاقة) مسيطر عليها عن طريق القوة والبطش في ضوء الواقع المتحرك سياسياً وأمنياً واجتماعياً .

 

ثانياً-  أو عن طريق التدخل غير المباشر، كلما كان ذلك ممكناً .. كيف ؟!

 

1-    الدخول على خط الانتفاضات، ومتابعة حجمها واتساعها وقوتها وتحسبها وتأثيرها، ومستوى نضجها واندفاعها، وفيما إذا كانت ورائها قيادات ناضجة تمسك بمفاتيح المواقف بصورة قوية أو أن قبضتها القيادية رخوة .

 

2-    قياس حجم المصالح الكائنة والممكنة والمتوقعة ، وفي ما إذا كانت هذه المصالح تتعرض للأمن القومي بصورة مؤكدة أو محتملة من قريب أو بعيد .

3-    قياس حجم تأثير فقدان هذه المصالح على الداخل الأجنبي وعلى المحيط القريب والبعيد لمصالح الدولة .

 

4-    قياس حجم تأثير فقدان هذه المصالح على المشاريع الإستراتيجية المرسومة .. والحالة الليبية مثالاً ساطعاً لحالة التحرك الشعبي الثوري، والعنف السلطوي قد أوصلت القوى الأجنبية إلى قرار ( الضغط والعقوبات والحصار والتهديد بقطع العلاقات، ثم التهديد بنشر القوة العسكرية ، والتهديد بالتدخل العسكري) .. لماذا ؟  لأن ليبيا منتجة للنفط، والنفط يشكل مصلحة حيوية إستراتيجية كبرى ، وإذا ما تعرضت هذه المصالح الحيوية إلى مخاطر جدية، فأن التهديد باستخدام القوة سيجد طريقه نحو التطبيق .

 

ثالثاَ- " الفوضى الخلاقة " هي نظرية امبريالية صهيونية بنيت في ضوء منطلقات (زبغنيو بريجنسكي)، مستشار جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي في نظريته المعروفة (الضرب في أسفل الجدار) المخصصة لتهديم جدار الكرملن السميك ومنظومته الاشتلااكية . وهدف الفوضى المنظمة أو المسيطر عليها هو التدخل العسكري المباشر الذي من الصعب أن يتكرر، والتدخل غير المباشر لتحريف الانتفاضات عن مسارها وإيجاد البدائل في الشخوص القيادية وأطر النظم الكفيلة بادامة الصلة للحفاظ على المصالح غير المشروعة والدفاع عنها على حساب مصالح الشعوب .

 

رابعاً-  لا تملك الولايات المتحدة مفاتيح الصراع في المنطقة .. ومحرك الأحداث هي من صنع عوامل التناقض في الواقع العربي المزري، آنف الذكر، وتراكماتها التي بلغت درجة النضج والتناسق والانفجار في شكل انتفاضات يمكن أن تتطور، وفق شروط معينة، إلى ثورات رائدة إذا استطاعت أن تخط طريقها تبعاً لمعايير قائمة على التحرر السياسي والاقتصادي والثقافي وبناء قاعدة مادية تكفل هذه التحولات، وإشاعة مبدأ الوطنية في بناء الشخصية الوطنية، عندها ستتحول الانتفاضة إلى ثورة بمقاسات العصر الذي تولد فيه .. أما أمريكا ووضعها على هذه الخارطة سياسياً واستخبارياً ما هو إلا وضع تخريبي وتدميري يتلصص الفرص للتدخل الخارجي ، وأغطية التدخل عديدة ومتنوعة ومعروفة تماماً ..

 

خامساً- لم تكن نظرية "الفوضى الخلاقة " الأمريكية الصهيونية هي المتدخل الوحيد في مسار الانتفاضات العربية المشروعة، إنما هناك تدخل إقليمي آخر له مخاطره الجسيمة، وهو تدخل النظام الصفوي في انتفاضة البحرين على وجه الخصوص ، وما نراه من تنظيم إيراني في البحرين على مستوى التظاهرات، التي عمت المنامة دليل على التدخل الذي اتخذ مساراً إيرانياً خطيراً مسكوت عليه أمريكياً !!

 

سادساً-  لم تكن الولايات المتحدة من دول العالم الثالث أو الرابع، التي تنساق وراء رد الفعل. لأنها دولة مؤسسات إستراتيجية تعتمد الفعل ورد الفعل في حالة توازن إستراتيجي مستقر. ولكن الولايات المتحدة غدت في الظرف الراهن، وفي المنطقة العربية، وبعد غزو العراق على وجه الخصوص، منساقة وراء رد الفعل حيال الأحداث التي جرت في تونس ومصر وليبيا والعراق وساحات أخرى، لأن ( العناصر المحرك لواقع الصراع )  ليست بيد أمريكا أبداً .. كيف ؟

 

1-    لو كانت أمريكا لديها مفاتيح التغيير الكلية في أي ساحة عربية أو غيرها .. لتمكنت من تقسيم العراق وتفتيته ، حيث مرت على العراق المحتل ثمان سنوات، أفشل الواقع العراقي المقاوم مخطط التقسيم، بالرغم من أن التقسيم يظل مشروعاً جاهزاً للتطبيق !!

 

2-    لو كانت أمريكا قادرة على تقسيم لبنان، وهو البلد العربي الذي تأكله الطائفية منذ عقود، لقسمته إلى أكثر من دولة .!!

 

3-    السبب الرئيس لما جرى في السودان من تقسيم مؤقت هو مسار السياسات الخاطئة، التي فرضت في إطار منهجية غير وطنية أدت إلى الانقسام النفسي أولاً ثم الاجتماعي الديني ثانياً ثم السياسي الجغرافي ثالثاً .. وإذا ما رحلت تلك السياسات الخاطئة وتم تصحيح المسار سيعود السودان إلى وضعه الطبيعي .

 

4- ولم تكن أمريكا عاملاً رئيسياً في تقسيم السودان ومحاولات تقسيم اليمن وإرجاعه إلى المربع الأول دولتين عربيتين شمال وجنوب متناحرتين، إنما عاملاً تدخلياً يتميز بأساليب التظليل والخداع والمناورة باسم حقوق الإنسان والأكثرية والأقلية والطائفية والاثنية والطبقية والعشائرية والقبلية غطاءً للتدخل !!

 

الرد على نظرية " الفوضى الخلاقة " يتم بفضح أساليبها ونياتها ومراميها وطبيعة حركتها واتصالاتها المريبة على المستوى السياسي والإستخباري من جهة، وبالتوعية الوطنية والإصرار على تعزيز نمائها الروحي من جهة أخرى .. وليس بعيداً أن تنضج الشروط الذاتية في مجتمع أمريكا المتناقض والمتنوع غير المنسجم حين يأتي النضوج بشرارة الانفجار الاجتماعي، وتنسحب الفوضى على هذا المجتمع ويتفكك، طالما يعيش حالة (عدم الانسجام، والفوارق الطبقية الفاحشة، والتمييز العنصري القائم على الأرض، وسلطة الشركات المتحكمة برقاب المجتمع الأمريكي، والمافيا التي تنخر هذا المجتمع، وتزايد أعداد الذين يعيشون دون خط الفقر أكثر من (21) مليون، فضلاً العدوانية الأمريكية على العالم ومخلفاتها وانعكاساتها على الشعب الأمريكي ، قتلى ، وجرحى ، ومعاقين بصورة دائمة، ومتخلفين عقلياً نتيجة الحروب .. إلخ

 

تراكم هذه العوامل في المجتمع الأمريكي، ومنذ الحرب العالمية الثانية، سيجعل الانفجار مروعاً لن يهدأ إلا بتفكيك المجتمع، الذي فقد الكثير من معايير قيمه، وما زال يفقد،  والدولة الأمريكية إذا استمرت في عدوانيتها، فأنها تسير على طريق العزلة  والضمور  والانهيار !!

 

 





الجمعة٢٩ ربيع الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٤ / أذار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة