شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يكن مستغربا على الإدارة الأمريكية ( أية إدارة أمريكية ) أن تعتمد ألف مكيال وميزان مختلف المقاييس والمواصفات للتعامل مع ملفات متقاربة أو متشابهة ومتطابقة في دوافعها وتداعياتها ، فالولايات المتحدة تسعى للإمساك بمفاتيح قضايا متناقضة لا يمكن الجمع بينها في ظل أي ظرف من الظروف ، والولايات المتحدة تمتلك مشروعا كونيا لا يمكن الإحاطة بتفاصيله الكاملة إلا من خلال الاستقراء والتحليل والاستنتاج ، يدفعها لشن حروب صغيرة أو كبيرة حيثما اقتضت ( مصلحة الأمن القومي الأمريكي ) ، وترتكب فيها من الانتهاكات وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية ، كما يحفل في ذلك سجل الحروب الأمريكية منذ أن خرجت من داخل حدودها السياسية لتفرض هيمنتها على الكثير من دول العالم بما فيها تلك الدول التي كانت تصنف على أنها دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا ، وسجل الانتهاكات والجرائم الأمريكية يحكي الكثير من المآسي والآلام في الحرب الكورية وفي فيتنام ولاوس وكمبوديا وأخيرا أفغانستان والعراق ، ولعل ما حصل في غوانتانامو وأبو غريب من عمليات تعذيب منهجية منظمة وبأوامر عليا من الرئيس الأمريكي ونائبه ووزير دفاعه ما يجسد السلوك الهمجي للقوات الأمريكية بأجهزتها المختلفة ضد المعتقلين من نساء ورجال بما في ذلك حالات الاغتصاب التي تعرض لها المعتقلون والذين زج بهم في عمليات دهم عشوائية ودون مذكرات اعتقال قضائية ، ووعد أوباما بإغلاق سجن غوانتانامو بعد تسلمه لمهام منصبه وها هي مدة رئاسته الأولى توشك على الانتهاء وسجن غوانتانامو يتحدى بكل قوة ماكنة أوباما السياسية ووعوده الفارغة عن تعديل مسار سلفه الذي أضر بسمعة أمريكا في كل مكان .


بالمقابل وعلى النقيض من تلك الممارسات التي تعكس حالة ارتداد حضاري مؤكدة إلى عالم البهيميات ، تبذل الولايات المتحدة جهد امكانها لتظهر بمظهر الدولة الأكثر رعاية لحقوق الإنسان والدفاع عن القيم الديمقراطية في كل مكان فتنشط وزارة الخارجية الأمريكية في إصدار تقرير عن مستوى الالتزام بحقوق الإنسان في العالم وتجعل من نفسها شاقولا ومعيارا للخطأ والصواب في تطبيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ولكن الخارجية الأمريكية التي تمثل هذا البلد الذي لا تتوقف حروبه على مستوى الكرة الأرضية ومنذ بدايات القرن الماضي حتى اليوم لا تتحدث عما ترتكبه أمريكا من فظائع وانتهاكات ، وهذا ما يجعل من أداء الإدارة الأمريكية محل تندر من دول العالم والمنظمات الحقوقية المستقلة عن مجال الضغوط الأمريكية ، لأنها تعرف غاطس المخالفات الأمريكي والتي لو صدرت عن أي بلد آخر لتعرض إلى التجريح والتقريع من قبل مسؤولين تحفل سجلاتهم بكل مخز ومعيب .


منذ منتصف كانون الأول / ديسمبر عام 2010 وحينما أضرم محمد بوعزيزي النار في نفسه احتجاجا على محاربته في كسب رزقه في منطقة سيدي بو زيد في تونس ، شهدت المنطقة العربية أكبر زلزال عرفته في حياتها ، بل هو اعصار جارف لم يبق من الثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا إلا ذكرياتهما الشاحبة ، بوعزيزي حينما أقدم على إحراق نفسه لم يدر بخلده أنه أقدم على رمي كرة من النار نحو برميل بارود قابل للتفجير على مقربة من أكبر خزان للنفط في العالم ، وكانت شرارتها تتقافز من ساحة إلى أخرى ضاربة عرض الجدار كل الحدود السياسية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو والنعرات القطرية الضيقة المتطابقة مع المصالح الاستعمارية الغربية .


حينما انطلقت موجة الاحتجاجات في تونس أعلنت حالة الانذار في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية ، وكأن الأمر مرتبط بالمصلحة الأمريكية العليا ، فقد صدرت تصريحات منسجمة تعبر عن الرغبة في أن يستمع الرئيس التونسي زين العابدين بي علي لمطالب الشعب التونسي ، وحينما بدأت أجهزة الأمن تمارس هوايتها في القمع والقتل ، شجبت الولايات المتحدة ذلك معتبرة أن ذلك السلوك المنحرف عن التقاليد الديمقراطية ، لم يعد له مكان في عالم اليوم ، وتكرر المشهد مرة أخرى في مصر وتكرر الموقف الأمريكي تجاه الأحداث وربما في مفرداته ، وإن دخلت الإدارة في موقف ملتبس عكس حالة من عدم وضوح الموقف وعدم حسم الخيارات على مذبح واحد .


واندفعت كرة النار لتلهب الأرض من اليمن جنوبا إلى العراق شمالا وإلى الكثير من مدن الطين والصفيح والجوع والأفواه الممنوعة من الشكوى والجلود المصطبغة بألوان البؤس والتعذيب ، وبدأ تساقط الضحايا في صنعاء والمنامة والكوت والسليمانية والنصر وبغداد ، وكان حاصل جمع من سقط من ضحايا في مدن العراق يفوق ما وقع في البحرين واليمن ، ولكن الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته نسيا أن هناك على خارطة العالم بلدا اسمه العراق وأن هذا البلد يمتلك رائحة تجذب الطامعين من الجهات الأربع فسبقتهم الولايات المتحدة ودمرت كل شيء إلا وزارة حقول النفط وأنابيبه ، ولأنهما لا يعرفان مكان هذا البلد على الخارطة فقد كبر عليهما الإشارة إلى سقوط ضحايا في بقعة ضئيلة ومجهولة اسمها العراق .


فلم هذا النفاق الأمريكي ؟ ولماذا لم يكلف أحد من موظفي البيت الأبيض أو الخارجية الأمريكية لينصح الحكومة العراقية بسماع صوت الشعب وعدم اللجوء إلى استخدام القوة المفرطة التي تؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا ؟ أم أن أمريكا التي فتحت شهية المتعطشين للدم العراقي لا تريد أن تحرمهم من تذوق طعمه الشهي ؟ أم أنها لا ترى عدالة في المطالب التي يطرحها المتظاهرون العراقيون ؟ أم أنها لا تطيق توقف سيل الدم الأحمر والأسود فوق أرض العراق أو عبر أنابيبه فتفقد مبررات وجودها فيه زمنا آخر لاسيما وأنها قدمت كل تلك الخسائر المادية والبشرية من أجل الوصول إليه ؟


الولايات المتحدة استنفدت أغراضها من زين العابدين بن علي وحسني مبارك كما حصل مع شاه إيران قبلا ، وكما سيحصل مع كراس كثيرة مستقبلا ليست بعيدة عما يحصل على المسرح السياسي الراهن ، وبالتالي فقد أرادت التخلص من وجوه كريهة أصبحت عبئا ثقيلا عليها ، واشنطن وبتحديد دقيق لم تقف إلى جانب الشعبين التونسي والمصري ولكنها لم تكن على استعداد لدفع تكاليف باهظة عن عملاء يكلفونها أكثر من منفعتهم لها ، ولكن قدرة القوى الكبرى للتحكم في مسار الأحداث تبقى أسيرة عوامل شتى منها ما يتصل بشيخوخة مبكرة ومنها ما يتصل بفتوة القوى الجديدة الصاعدة والعصية على التدجين والاحتواء ، وربما للعاملين معا .


الولايات المتحدة قوة كبرى ليس على المستوى العسكري أو الاقتصادي أو السياسي فقط وإنما وبالدرجة الأولى على مستوى النفاق الذي بات جزء من الهوية الوطنية الأمريكية .

 

 





الاثنين١٨ ربيع الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢١ / شبــاط / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة