شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل أن يولي أدباره هاربا, وبعد أن بدأت نيران الثورة الشعبية تقترب من غرفة نومه المحصّنة, أراد دكتاتور تونس بن على أن يُمارس لعبة الخداع للمرة الأخيرة, فقال في خطابه الأخير قبل أن يجرفه سيل الانتفاضة الجارف المدمّر "لا رئاسةَ مدى الحياة" وكأنه أراد أن يُوحي لشعبه الذي صبر كثيراعلى ظلمه وطغيانه بأنه, أي الدكتاتور بن على, سأم الحكم وملّ السياسة وزهد في الجاه والسلطان وما على الآخرين الاّ إنتظار نهاية ذلك "المدى" الذي لم يحدّده بن على قط لقناعة خاطئة وقصرنظر بأن نظامه الآيل الى السقوط, باق الى الأبد. لكن الشعب التونسي, الذي مزّق حُجب الخوف وتسلّق سلالم المجد بجدارة, قال له بصوت مدوي تردد صداه في كل أرجاء تونس الخضراء, يا بن على... لقد سبق السيف العذل.


نعم, لا رئاسة مدى الحياة. ولكن لا حياة لمن نادى عليهم, ولو متاخرا جدا, دكتاتور تونس بن على. فالحكام العرب صمٌّ بكمٌ لا يفقهون فيما يخصّ حقوق شعوبهم في الحرية والديمقراطية والمساواة والعيش الكريم. أما تبادل السلطة بشكل ديمقراطي أو التخلّي عنها لمن هو أكثر كفاءة وأوفر حظا في حالة إجراء إنتخابات حرّة نزيهة وشفافة, فأن الحكام والزعماء العرب مستعدون لافناء شعوبهم, فقرا وجهلا وتشريدا وسجنا, لمنع حصول ذلك. وإذا قدّر وأن حصل تغيير بسيط, طبعا بعد ضغوط وتهديدات داخلية وخارجية, فان الحاكم العربي يجد ألف طريقة وطريقة بغية إفشال أو عرقلة أو الالتفاف على ذلك "التغيير" الذي يعتبره تنازلا ورضوخا.


إن مأساتنا كعرب تكمن في حكامنا الذين يعتبرون أنفسهم قدرا من الأقدار لا بدّ على شعوبهم أن تتحمّله وتخضع له. فهم لا يتعلّمون من دروس التاريخ شيئا, لأن التاريخ نبذهم وأقصاهم ولم يجدوا لأنفسهم موطيء قدم حتى على هوامشه. ورغم أن بقاءهم في السلطة يطول دهرا الاّ أن زوالهم ونسيانهم وطردهم من ذاكرة وحياة الناس لا يستغرق الاّ بضعة أيام. ولنا في بداية ونهاية دكتاتور تونس السابق بن على خير مثال. لقد غسل التونسيون ذاكرتهم وأذهانهم وطهّروا أنفسهم من كل شيء له علاقة بذلك الوباء - النظام المقيت الذي مثّله زين العابدين بن على وعصابته العائلية.


بالتأكيد أن شعب تونس الأبيّ حقق سبقا ثوريا يستحق الاعجاب والتقدير وأجمل الكلمات لا في عالمنا العربي الداخل في سُبات أزلي, بل في جميع دول العالم الخاضعة لأنظمة فاسدة ومتسلّطة وقمعية. وبالتأكيد أيضا إن محاولات مشبوهة كثيرة, مصدرها بلا شك الحكام العرب المرعوبين, بدأت تزحف ببطء لافراغ الثورة التونسية من محتواها الوطني الشعبي وتحييد زخمها وتأثيرها المرجو وتحويلها الى مجرّد "حركة تصحيحية"أريد بها تغيير حاكم جائر, لكن دون تغيير نظام حكمه الأكثر جورا منه.


هذا ما يحصل هذه الأيام في تونس الثورة, خصوصا بعد إصرار الكثير من الرموز السياسية, التي ساهمت باشكال مختلفة في بناء وديمومة ذلك النظام القمعي البوليسي لأكثر من عقدين, في البقاء على خشبة المسرح بعد أن خلعت أقنعتها القديمة ووضعت على وجوهها القبيحة, كوجه سيدها الدكتاتور السابق بن على, بعض الأصباغ والعطور والمساحيق لكي تبدو مقبولة لدى شعب ثائر سوف يستمر في تدمير ما تبقى من معبد الفاسدين والمرتشين وسارقي قوت وآمال ومستقبل أبنائه, حتى ردهم في مزبلة التاريخ مع ربّ نعمتهم المجرم أسوء العابدين بن على.


إن الحكام العرب, باعتبارهم أكثر ظواهر التاريخ غرابة وشذوذا, يقدمون المال والسلاح والدعم اللامتناهي لأي حركة أو حزب أو تنظيم, بما فيها التنظيمات الارهابية, وبعضهم يعتبر نفسه ثوريا, بل ويعتزّ بتاريخه"المجيد" شريطة أن يبقى عرشه الذي إستولى عليه بطرق غير قانونية في مأمن وإن تستمر سلطته اللاشرعية الى يوم الحشر, وأن تظل عائلته والمقرّبون منه فوق القوانين والدساتير والأعراف. كما إن ثائرتهم تثور وقوى أمنهم القمعية تستنفر عن بكرة أبيها وتقف بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه ويطالب بابسط حقوقه كمواطن.


ولعل صدى جملة دكتاتور تونس السابق بن على "لا رئاسةَ مدى الحياة" التي قالها على مضض وفي اللحظات الأخيرة التي شاهد فيها نظامها القمعي الفاسد يلفظ أنفاسه, يصل الى ما بعد تونس, الى مصر وفرعونها حسني مبارك الذي يريد البقاء في السلطة مدى الحياة ليرثها من بعد لأبنائه وأحفاده وبقيةعائلته كما كان يفعل فراعنة مصر. كما أن دكتاتور مصر مبارك, شأن جميع الحكام العرب, يعتبرون أنفسهم مخلّدين ولا يمسّهم سوء. الى درجة أن الموت, من كثرة فسادهم وتعفّنهم على كرسي السلطة, أصبح يخشاهم ويتجنّبهم. وإنطبق عليهم قول المتنبي "لا يدرك الموتُ نفسًا من نفوسهم - الاّ وفي يدهِ, من نتنها, عودُ".

 

mkhalaf@alice.it

 

 





الثلاثاء٢١ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / كانون الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد العماري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة