شبكة ذي قار
عـاجـل










إن لدى جميع الادارات الأمريكية, بدون إستثنا طبعاء عادة راسخة وإسلوب عمل ثابت وإستراتيجية لا تتغيّر على مرّ الزمن الا وهي التخلّي الفوري عن الحكام العملاء خصوصا في المنطقة العربية ودول العالم الثالث الأخرى, وكأنهم مواد مصنّعة إنتهت صلاحيتها وفقدت مفعولها وما عادت تنفع حتى الحيوانات. لكن عندما تبدأ موجات الغضب الشعبي وألسنة نيران الانتفاصة تحاصر قصر يكتاتور ما وحاشيته الفاسدة, تخرج علينا الادارة الأمريكية, ومعها حكّام الغرب المنافقون بتصريحات تنم عن زيف ورياء ونفاق سافر حول "حقّ الشعب" في إختيار قادتها. بعد أن تمّ شطب هذ الحق ولعشرات السنين من قاموس السياسية الأمريكية والأوروبية.


وحين أدركت الادارة الأمريكيةأن سفينة الديكتاتور التونسي زين العابدين بن على آخذة في الانحدار نحو الأعماق تحت هديرأمواج الحناجر الهادرة والقبضات المرفوعة بعزم وإصرار وتحدي لملايين التونسيين, خرج علينا الناطق باسم إدارة باراك حسين أوباما ليقول, بعد تأخر دام حوالي ربع قرن بان "من حق الشعب التونسي إختيار قادته". لكن هذا الشعب العريق بحضارته ووطنيته وكرامة أبنائه لم يخطر أبدا على بال الادارة ألأمريكية وحكومات أوروبا "المتحضرة" عندما كانت ديكتاتوريتة بن عالي وزبانيته تعيث فسادا ونهبا وإذلالا وقتلا بابناء تونس الشرفاء, وحوّلت البلاد وخيراتها الى مِلكيّة خاصة لحفنة من اللصوص والفاسدين ومصاصي دماء وقوت الشعب, يترأسهم بن على شخصيا.


لقد أثبتت الأيام القليلة الماضية, ونحن ما زلنا في بداية طريق الثورة التونسية, أن صبر الشعب التونسي تجاوز صبر أيوب وتعدى كل حدود وقيود, وتحمّل ما لا يُطاق في ظل نظام فاسق وفاسد وهرِم إستخدم جميع الوسائل والسُبل, طبعا بمباركة ودعم وسكوت أمريكا والغرب عموما, في قمع وإذلال شعبه الأبيّ, وحرمه من كلّ شيء له علاقة بالكرامة البشرية والحياة الكريمة. حتى أصبح رغبف الخبز بالنسبة للكثير من التونسيين هدفا بعيد المنال, كأنه حلم غير قابل للتحقيق, بينما راحت الحسابات البنكية والمصالح التجارية للرئيس الديكتاتور وبطانته تتضخّم وتتراكم وتزداد إتساعا في الداخل والخارج.


لم يحرّك الغرب "المتحضّر"ساكنا, ليس في تونس التي حكمها الدكتاتور بن على بالحديد والنار وأفقر وأذلّ شعبها لربع قرن, وإنما في معظم الدول العربية الأخرى. بل سرعان ما كان يوجّه أصابع الاتهام الى شعوب باكملها فتوصف بابشع الأوصاف لأنها تجرّأت وطالبت بقليل من الكثير الذي ينتظرها باعتباره حقّا من الحقوق المكفولة لها في قوانين الأرض والسماء. وفي كثير من الأحيان, بل في أغلبها, يكون الدور الأمريكي الأوروبي الداعم بكل السبل والوسائل, بما فيها وسائل القمع والتعذيب والاذلال, لحاكم جائر أو لديكتاتور فاسد, دورا أساسيا وملموسا في منع حصول أي تغيير نحو الأحسن. فكلّ شيء, بالنسبة لأمريكا والغرب, على ما يُرام طالما إن الحاكم - الديكتاتور - العربي يحافظ على مصالح أسياده في الغرب ويتفانى من أجلها.


وعن الانتفاضة التونسية المجيدة لا يختلف رأي غالبية الحكام العرب, الذين أصيبوا بالرعب من هول المفاجأة, عن رأي أرباب نعمتهم في الغرب. فما أن شعروا بان مزبلة التاريخ فتحت أبوابها على مصراعيها لاستقبال زميلهم الديكتاتور بن على, حتى بدأوا يرددون في أحاديثهم عبارات ومصطلحات غابت عن أذهانهم لمدة ربع قرن. بالضبط كما خرج على ألسنة الساسة الأمريكان والأوروبيين. عبارات مثل "حق الشعب التونسي" أو "إنتخابات حرّة" أو جملتهم الأثيرة التالية "إحترام أرادة الشعب التونسي" وغيرها من العبارات التي لم نسمعها منهم على الاطلاق عندما كانوا يعانقون وبقبّلون ويستقبلون بالأحضان دكتاتور تونس وسارق قوت شعبها, زين العابدين بن على.


إن جميع الحكّام العرب, خصوصا أولئك الذين دوّخوا العالم وملأوه زعيقا وصراخا بثوريتهم المزعومة وخطبهم النارية, إنكروا على الشعب التونسي لعقود طويلة, كما أنكروا على شعوبهم, أي حقّ في المطالبة, ولو بالكلام الهاديء البسيط, بحياة كريمة أفضل ولقمة خبز لا تأتي مغمّسة بالدموع والدماء والحسرات. وكانوا جميعا, أي الحكام العرب يتمنّون, لأنهم شركاء في جريمة واحدة, أن تبقى شعوبهم نائمة الى ما لا نهاية في كهف من الجهل والخوف واللامبالاة حتى تبقى عروشهم عامرة آمنة مضمونة الى يوم الحشر لأولادهم وأحفادهم والمقرّبين جدا منهم.


لكن الشعب التونسي البطل, الذي قدّم التضحيات والشهداء وعانى الأمرين لأكثر من عقدين على يد ديكتاتوره أسوء العابدين بن على, أبى ورفض أن"يعش أبد الدهر بين الحُفر". وما عاد "يتهيّب صعود الجبال"أو أبنية الوزارات الأمنية التابعة للديكتاتور بن على أو مواجهة الرصاص الغادر بصدور عارية الاّ بالايمان الراسخ والارادة الصلبة والتفاني من أجل حقّ مشروع. فقد إستلهم شعب تونس الأبيّ وتشبّعت كل جوارحه وعواطفه بقول شاعره الكبير أبو القاسم الشابي:
إذا الشعبُ يوما أرادَ الحياة - فلا بدّ أن يستجيبَ القدر.


mkhalaf@alice.it

 

 





الاربعاء١٥ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٩ / كانون الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد العماري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة