شبكة ذي قار
عـاجـل










تعالت هذه الأيام أصوات العديد من المثقفين العرب مطالبين بمراجعة  المعادلة  الحالية السائدة بين العروبة و الاسلام معتبرين  أن المرحلة الماضية  شهدت تغليب الإسلام على العروبة بل تم في بعض الأحيان تغييب الطرف الثاني مما أدى إلى اختلال في الساحة السياسية و الفكرية نتج عنه فراغ ملأته التيارات الطائفية و المذهبية والقطرية.

 

فقد اعتبر بعض المثقفين  أن العقود الثلاثة الماضية شهدت تنامي الاسلام المناهض للعروبة  بسبب قراءة خاطئة للعلاقة بين الاسلام و العروبة قوامها إلغاء الطرف الثاني  ، و لتجاوز هذه الوضعية  يطرح البعض من المثقفين فهما متكاملا لهذه العلاقة ، إذ هم يعتبرون العروبة و الاسلام طرفين تربطهما علاقة عضوية  يحتل كل طرف منها مكانة هامة في مقومات هويتنا العربية الاسلامية. بينما يرى البعض الآخر أن اقتصار المرحلة الفارطة على الاسلام حقق نتائجه الإيجابية بغض النظر عن  و الطبيعة السياسية  لهذا الاسلام ومصادره و خلفياته غير أن خصوصية المرحلة الحالية المتسمة بتنامي سياسة الشرذمة و التفتيت الاستعمارية  تستوجب إضافة العروبة إلى ذلك الاسلام  حتى تتوازن  المعادلة بين الطرفين . يقول د.عصام  نعمان بوصفه نموذجا للمدافعين عن هذا التصور في مقال كتبه في صحيفة القدس العربي يوم 24/10/2010 بعنوان "اسلام بلا عروبة لا يملأ 'فراغ' المنطقة": "الإسلام بلا عروبة مهدد دائما في بلادنا بالانزلاق الى مهاوي الطائفية والمذهبية" ثم يواصل حديثه قائلا" ثمة حاجة الى تزويج الإسلام بالعروبة مجدداً لتمكين القوى الحية في الامة من الالتقاء والارتقاء بتوظيف الجامع المشترك ـ متحد العروبة والاسلام ـ في مجهود سياسي وحضاري متكامل."  ثم يتابع محددا طبيعة الاسلام الذي يدافع عنه قائلا " وليس صحيحاً ان تطور وتكامل وارتقاء تيار او خط قومي ـ اسلامي او اسلامي عروبي من شأنه اعاقة مسيرة التحالف والتعاون الاقليمي المنطلقة حالياً بين سورية وايران وتركيا، ذلك ان النظام في كلٍ من الدول الثلاث هو في الواقع، نظام قومي اسلامي او اسلامي قومي، وان القومية متداخلة مع الاسلام في كل منها  الامر الذي جعل المتحد القومي ـ الاسلامي اعلى وارقى وافعل من مكوّناتها الاجتماعية المحلية".

 

العروبة و الاسلام هما نتاج موضوعي لمقومات الأمة

في البداية لا بد من التأكيد على أن التيار القومي هو من بلور العلاقة بين العروبة و الاسلام باعتبارها انعكاسا للعناصر المكونة للقومية العربية . و حيث أن مقومات الأمة  هي ظاهرة موضوعية و ليست نتاج ابداع  فكري ، فقد تناول القوميون العرب العلاقة بين العروبة و الاسلام باعتبارها  تشكلت تاريخيا و جاءت كإفراز لواقع الأمة الموضوعي.

 

لقد بنيت هذه العلاقة بين العروبة و الاسلام بالنسبة للقوميين على أساس مفهوم محدد لكل منهما فالاسلام  في وطننا العربي اصطبغ بالعروبة فأصبحت له خصوصياته المحددة . يقول عصمت سيف الدولة في كتابه العروبة و الاسلام " ... الإسلام لم يكن ديناً فحسب، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية. وتلك إحدى خصائصه المميزة. وهي التي أنشأت بينه وبين الأمة العربية علاقة تاريخية متميزة...." و يلخص محمد عابد الجابري في مجرى حديثه عن مفهوم علاقة العروبة و الاسلام عند ميشيل عفلق فكرة خصوصية الاسلام و عظمته عند العرب بقوله "الإسلام هو المضمون الحي والثوري للقومية العربية، هو التراث القومي للعرب جميعاً، مسلمين وغير مسلمين"  (محاضرة لمحمد عابد الجابري "إطلاق فكرة شمولية تصنع مستقبلاً للعرب يتلاءم مع ماضيهم").

 

أما العروبة بالنسبة للقوميين العرب  فهي تلك المقومات التي ارتبطت بالخصوصيات التاريخية و الجغرافية و النفسية للأمة العربية و قد حدد مفهومها بدقة ميشيل عفلق بوصفه أحد المفكرين القوميين الذين جمعوا بين استيعاب النظرية القومية  و المشاركة في الحركة القومية بقوله " ... نقول ان القومية العربية هي قومية وعربية، قومية بمعنى ان فيها الشروط الابتدائية لكل قومية،  وعربية بمعنى ان فيها التطور الخاص بالامة العربية عبر مختلف العناصر والحضارات والازمنة. وان الصفة العربية المشتركة التي وحدت بين هذه العناصر جميعا هي التي استمرت دون انقطاع، وكانت اللغة العربية ابرز عنوان لهذا الاستمرار بما تتضمنه اللغة عادة من وحدة في التفكير وفي المبادئ والمثل" (مقال "في القومية العربية "– ميشيل عفلق 1941 ).

 

رغم اختلاف مفهوم كل من العروبة و الاسلام إلا أن العلاقة بينهما تميزت بالترابط العضوي إذ لا يمكن الحديث في وطننا العربي عن الواحد دون الآخر. يقول محمد عابد الجابري في محاضرته  السابقة الذكر" ..إن العروبة في نظر الأستاذ ميشال عفلق هي من دون الإسلام مفهوم سلبي ومن دونه تبقى القومية العربية قالباً أجوف فارغاً. انه لا يفهم العروبة ولا القومية على انهما مجرد قضيتين من قضايا الحاضر وحسب، بل ينظر إليهما في امتدادهما التاريخي: فالعروبة وعاء يملأه التراث القومي الذي يشكل فيه البعث المحمدي المرجعية والمنطلق".

 

وفي موقع آخر من نفس المصدر يقول محمد عابد الجابري " الإسلام روح القومية العربية، والقومية العربية حاملة رسالته الثورية الإنسانية".

شكلت هذه الثنائية و العلاقة بينهما احدى القضايا المركزية في تفكير المنظرين القوميين فتعمقوا في مضمونها و حددوا خصوصياتها بوصفها  تشكل الأساس النظري و الفكري للبرنامج المستقبلي لتحرر الأمة و وحدتها و نهضتها. فكل فهم منحرف لأي عنصر من عناصر هذه الثنائية و كل خلل في المعادلة التي تربط طرفيها يؤثر سلبا على الخطط المرحلية و الاستراتيجية لبناء المشروع القومي العربي بل ربما يبعدها عن مسارها فتصبح في تعارض مع مطامح الأمة.

 

منابع الاسلام السياسي المعادي للقومية

و مثلما كان هذا المشروع محل اهتمام حركة التحرر العربية التي ترى فيه الحل العملي لانعتاق هذه الأمة فقد احتل نفس هذا المشروع موقعا مهما في استراتيجية القوى الامبريالية لكن من أجل إفشال كل محاولة  جدية  لتنفيذه. و لئن ركزت هذه القوى المعادية على الجانب العسكري و السياسي لضرب أساس الدولة القومية الناشئة إلا أنها أولت الجانب الفكري أهمية كبيرة . فكما تعمد إلى توخي أسلوب الاختراقات للاندساس في صفوف قوى المقاومة الوطنية لحرف برامجهم العسكرية و السياسية عن مسارها الصحيح، تعمد هذه القوى الامبريالية و الصهيونية إلى رسم الخطط المناسبة لإحداث اختراقات في المجال الفكري من أجل التسرب إلى المرجعية الفكرية و الثقافية الوطنية و القومية  لتوفير الفرص المناسبة  للنفاذ إلى الجينات الفكرية و إحداث التغيرات التخريبية المناسبة .

 

لقد شكل انتصار الثورات القومية في مصر سنة 1952 و في العراق سنة 1968 و النجاحات التي حققتها خطرا كبيرا على المصالح الامبريالية و الصهيونية في المنطقة و كان لا بد من ترتيب برامج متنوعة و في مختلف المجالات لإحباط هذه التجربة . عادة ما ترسم هذه القوى برنامجا قريب المدى و آخر بعيد المدى و غالبا ما يتخذ البرنامج الأول رئيسيا طابعا عسكريا و سياسيا بينما يتخذ جزء من البرنامج الثاني طابعا فكريا و ثقافيا باعتبار أن نتائج الأدوات العسكرية و السياسية أسرع من الأدوات الفكرية و الثقافية.

 

لما يكون القضاء على القومية العربية هو الهدف يصبح الأساس النظري و الفكري لهذا التيار هو المستهدف. وقد شكلت اتفاقية كامب دافيد المحطة المركزية الأولى في هذا المخطط إذ استهدفت القوى القومية في إحدى قلاعها الرئيسية  و تحوّل النظام المصري من قلعة المقاومة إلى وكر للاستسلام و المساومة و كان لزاما على القوى الإمبريالية أن تهيأ أرضية فكرية تملأ الفراغ الذي انجر عن إزاحة القوميين العرب فاستنجد السادات بالاسلاميين و تلقى النظام المصري الضوء الأخضر من الامبريالية و الصهيونية لنشر الاسلام الأمريكي المساعد على الاستسلام في مصر.

 

و بعد حرف مصر عن مسارها القومي حولت الامبريالية و الصهيونية وجهتها إلى القلعة القومية الثانية و كانت بغداد هي المحطة المستهدفة . و حيث أن النظام الوطني في العراق كان قد زاد في تحصين نفسه فكريا و سياسيا من مخلفات اتفاقية كامب دافيد فقد كان من غير الممكن تكرار تجربة مصر الاستسلامية . و بذلك استحال على الأعداء توفير أدوات استهداف القومية العربية من داخل العراق. فتم تنصيب "قاعدة عسكرية "و فكرية بجواره و في البوابة الشرقية من الوطن العربي . و بالرغم من فشل نظام الخميني في حملته العسكرية ضد العراق فإنه لم يتوقف عن شن حرب فكرية و مذهبية مستغلا صفته الاسلامية  مقدما نفسه هكذا كأداة لتنفيذ مخطط الامبريالية و الصهيونية في ضرب القومية العربية . وقد عمل النظام الإيراني على الترويج لفكره الاسلامي مقدما نفسه كبديل للفكر القومي العربي.

 

و في موقع آخر و في افغانستان تحديدا قامت الامبريالية الأمريكية بالاستفادة من الحركة التحررية الافغانية المناهضة للاحتلال السوفياتي من خلال تمويلها و تسليحها و هذه المواجهة ضد المحتلين التي دامت عشر سنوات من 1979 إلى 1989 هي التي مكنت الامبريالية الأمريكية من تجنيد العديد من الذين شاركوا في الحرب فدست في داخلهم الجواسيس لتتمكن بعد ذلك من الاستفادة من خدماتهم في المجال العسكري و السياسي و الفكري .  و بعد دحر الاحتلال السوفياتي عاد المتطوعون العرب من أفغانستان إلى أقطارهم و راحوا  ينشرون رؤيتهم للاسلام  و يشنون حملات شعواء على القومية العربية.

 

ظلت هذه البِؤر الثلاثة  تفرخ شيوخا و منظرين دينيين دورهم الرئيسي تكفير القوميين العرب و طرح الاسلام السياسي كبديل لتيارهم مما مكنهم من ترك بصماتهم على الساحة الفكرية و السياسية  العربية  و قد تعاظم هذا التأثير خاصة حين توفقوا في  التخفي وراء قناع مناهضة الشيطان الأكبر و الصهيونية .

 

شكّل الاسلام السياسي أداة لتزويق المشاريع السياسية المعادية للعروبة بطلاء الاسلام . فعوض أن يقوم المثقفون العرب بالبحث عن الخلفيات السياسية لكل تيار إسلامي  انبهر هؤلاء بالعباءة الاسلامية خاصة حين امتزجت بالشعارات المناهضة للامبريالية و الصهيونية . و نتيجة فقدان الساحة العربية  بريقها النضالي بسبب ضمور نهج المقاومة خاصة بعد أن أصبح التفاوض مع العدو هو العملة الرائجة  اثر عقد اتفاقيتي كامب دافيد و أوسلو أصبح الاسلام السياسي يستقطب اهتمام العديد من السياسين و المثقفين العرب بما فيهم جزء من القوميين. و حيث أن  الأحزاب السياسية الاسلامية  تؤمن بالرابط الاسلامي و لا تؤمن بالرابط العربي فقد كانت تتفاعل رئيسيا مع الأطراف الاسلامية  لا يهم إن كانت داخل الوطن أو خارجه. فقد أصبحت تتجاوب هذه الأحزاب مع الإغراءات التي تقدمها لها الأقطاب الاسلامية خاصة حين تكون المصالح مشتركة ، فمثل هذا النهج  يقرب أحزاب الاسلام السياسي من كرسي السلطة من جهة و يمكّن الأقطاب الاسلامية من غرس ممثلين و عملاء في مختلف الأقطار العربية و خاصة المناطق الساخنة من جهة أخرى. يقول د.ابراهيم علوش في كتابه "مشروعنا" معرفا الاسلام السياسي " الاسلام السياسي هو التأويل السياسي للإسلام حسب هذا الحزب أو تلك الجماعة ، أي أن مآله سياسي و حزبي في النهاية " .و هكذا وجدت فى الساحة السياسية أحزاب و تيارات سياسية اسلامية ذات ولاءات متعددة فنجد تيارات و أحزاب ممولة و مدعومة من إيران و أخرى مسنودة ماديا و سياسيا من تركيا ونجد من هي مدعومة من السعودية أو قطر أو الامارات العربية و هذه الأقطار لا يخفى ولاءها للامبريالية الأمريكية وعلاقة بعضها التطبيعية مع الكيان الصهيوني.

 

على عكس الاسلام السياسي فإن الاسلام العروبي الذي يسميه د.ابراهيم علوش (في نفس المصدر السابق) الاسلام الثقافي فهو" هويتنا كأمة بغض النظر عن أي خلاف سياسي ، و هو مكون رئيسي في مرجعيتنا الفكرية و في حياتنا اليومية كمجتمع عربي ، دون أن يتحول بالضرورة إلى حزب سياسي يرفع شعارات اسلامية و يهدف للوصول للسلطة..."

 

مختلف الانحرافات في مفهوم علاقة العروبة و الاسلام

لقد ألقت كل هذه الأوضاع و التطورات بظلالها على الساحة الفكرية العربية و أدت إلى تسرب فكر اسلامي مدعوم من أمريكا أو إيران أو تركيا  و تشكلت بذلك خلطات فكرية متنوعة  كان هدفها جميعا إما  تشويه الأطروحات القومية أو تقديم  بدائل معادية لتلك الأطروحات.

 في هذا الجو العام ولدت مفاهيم عديدة خاطئة لعلاقة العروبة و الاسلام.

 

المفهوم الأول هو الذي يرى أن العروبة تعادي الاسلام و تتناقض معه  بل يراها مصدر الكفر و الالحاد  و هذا هو شأن الأحزاب السلفية  مثل تنظيم القاعدة .

 

المفهوم الثاني  هو الذي يرى في العروبة اللغة فقط و ينفي بقية المقومات القومية ، و يرى بالتالي الاسلام فقط كدين يستخدم العربية كلغة تخاطب و يعتبر العلاقة بين العروبة و الاسلام كعلاقة فكر بلغة  و لا يرى أن هناك بعد آخر يوجد في الخلفية  الثقافية و الحضارية الناتجة عن التفاعل بين العروبة و الاسلام. تتبنى بعض أحزاب الاسلام السياسي داخل الوطن العربي هذا الطرح و تقبل الحديث عن العروبة في إطار اللغة العربية . إذ أن هذا التبني الجزئي يمكنها من كسب مصداقية لدى الجماهير العربية المسلمة كما يسمح لها بتشويه القومية من موقع يبدو و كأنه عروبي.

 

ردا على هذا المفهوم نؤكد أن الإسلام  لما نزل في جزيرة العرب خاطب أهل الجزيرة بما يعرفونه من عادات وتقاليد فانتقى منها اللإيجابي ورفض السلبي، وطور الكثير منها لتتناسب مع الدين الاسلامي. وعندما نحلل هذه الحقيقة ندرك أن الخطاب الإسلامي تبنى البعد الثقافي العربي كخلفية ضرورية لخطاب أهل الجزيرة، ولذلك فقد رأينا وبشواهد كثيرة خلال فترة انتشار الإسلام السهولة التي انتشر بها خلال المنطقة الناطقة بالعربية بالمقارنة مع الصعوبة التي واجهته في المناطق غير العربية.

 

ولذلك فمن الطبيعي أن نجد أن المسيحي العربي مثلاً، كان تاريخياً ينسجم في العادات والتقاليد مع العربي المسلم أكثر من انسجام المسلم غير العربي مع المسلم العربي.

 

المفهوم الثالث هو الذي لا يؤمن بوجود طابع قومي للاسلام  و بالتالي لا يعترف  بوجود الاسلام العروبي فيرى في الاسلام فقط جانبه الأممي  حتى يبرر ارتباطه بالقوى الاقليمية الاسلامية .و حيث أن الاسلام يشكل في نظر أصحاب هذا المفهوم  العنصر الرئيسي في الهوية  فإن العروبة عند هؤلاء تصبح ملحقة بالاسلام الاقليمي و بذلك نتحصل على إسلام إيراني أو تركي أو أفغاني أوكذلك أمريكي في غطاء سعودي أو قطري أو إماراتي منمق بشيء من العروبة حتى يلقى رواجا في الأوساط العربية.

 

هذه هي العلاقة التي يقترحها الدكتور عصام نعمان. الذي ينطلق من بديهية  أن التحالف الإيراني- التركي – السوري يخدم  مصالح الأمة العربية  بل يؤكد أن إضفاء شيئ من العروبة على الاسلام التركي أو الإيراني لا يشكل أي إزعاج  لهذا التحالف .

 

و نحن نتساءل كيف يمكن اعتبار إيران واحدة من قوى المقاومة مثلما ورد في مقال الدكتور؟ كيف يمكن مزج العروبة  بالاسلام الإيراني إسلام المشروع القومي الفارسي الذي يعتبر أن كل الوسائل صالحة لتفتيت أمتنا إلى مذاهب و طوائف و من أجل ذلك يبيح  تذبيح شعب العراق و تدمير حضارته و إبادة كل مقاوم وطني ضد الاحتلال الأمريكي فيه ؟ كيف يمكن مزج العروبة بالاسلام التركي إسلام المشروع القومي العثماني الذي له مصلحة في التعامل مع الكيان الصهيوني و إقامة علاقات استراتيجية معه ؟ كيف يمكن أن نعتبر التحالف الذي تقوده إيران  معادي للولايات المتحدة الأمريكية  في حين أنه يساعد هذه الامبريالية على تنفيذ مخططها الهادف إلى شرذمة المنطقة العربية مثلما يحصل في العراق و السودان واليمن مثلا؟ و ما سر الدعوة الآن بالذات إلى إضافة شيء من العروبة إلى الإسلام ؟ و ما سر تحسر الكاتب على ما أصاب وطننا العربي جراء انتشار سياسة الشرذمة و التفتيت في الوقت الذي يدعو فيه إلى السير وراء أقوى قوة مشرذمة عرفها الوطن العربي ؟ فقد استطاعت إيران شرذمة و تفتيت ما عجزت عن تحقيقه أمريكا و الكيان الصهيوني . أنظروا كيف يتباكى على وحدة الوطن و وحدة العراق ، فها هو يقول في مقاله المذكور آنفا  " ثمة واقع سياسي ـ اجتماعي يكتنف دول المنطقة افرزته الحروب التي شنها التحالف الامريكي ـ الصهيوني على مدى السنين الستين الماضية، انه تفكيك الشعب، او بالاحرى الاجتماع السياسي، في كلٍ من دول المنطقة الى عناصره الاولى (المتحدات الابتدائية) القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية والعصبيات المحلية الضيقة. فالعراق جرى تفجيره بفعل الاحتلال الامريكي الى جناحين عربي وكردي، تبرز في كل منهما عصبيات قبلية وطائفية ومذهبية شديدة الوطأة" يا للعجب !! ألهذا الحد يستغفلنا الدكتور أم إن الدعم الإيراني المشروط لحزب الله و حماس أغمض له عينيه و أربك تفكيره فجعل يستنجد بجلاده ليمده بدواء يعافيه من مرضه؟ أليس هذا الذي يعتبره تصحيحا لمسار بإضفاء العروبة على الاسلام هو في الواقع نصيحة لأعداء الأمة ليتمكنوا من  تعميق وجودهم ليواصلوا ما بدأوه من شرذمة و تفتيت ؟ أليس هذا تنبيه لأعداء الأمة بكون سياستهم أصبحت مفضوحة و أنه حان الوقت لستر العورات التي كشفتها المقاومة العراقية ؟ أليس ما يطرحه من إضافة العروبة على الاسلام الإيراني جاء نتيجة شعوره بأن العروبة أصبحت مطلبا ملحا لدى عموم الأمة بعد أن وضح القوميون الجذريون أهميتها القصوى ؟ أليس هذا الأسلوب طريقة خسيسة لمغازلة المغلطين من القوميين و و إعادة جلبهم لتحالف تقوم سوريا بإضفاء  شرعية قومية عليه بعد أن بدأوا يراجعون موقفهم من إيران؟ أليس هذا محاولة دنيئة لسحب البساط من تحت المقاومة العراقية بعد أن تفطنتم إلى تجاوب الأمة معها في طرحها الذي يعتبر أن العروبة هي العنصر الرئيسي في معادلة الاسلام و العروبة نظرا لما يتهدد الأمة من مخاطر التفتيت و الشرذمة التي ينفذها  العدو الأمريكي الإيراني الصهيوني؟

 

ما نريد أن نحذر منه هو أنه عندما يتم التأكيد على عالمية الإسلام في ظل تفكك الأمة العربية فإنما يراد من ذلك ضرب فكرة الوحدة العربية لأنها الفكرة الممكنة والواقعية التي يهاب منها أعداء الأمة ، بينما فكرة الوحدة الإسلامية غير ممكنة واقعياً في عالم اليوم انطلاقاً من الاختلافات الثقافية والحضارية التي تحتكم لها الدول الإسلامية.

 

المفهوم الرابع الذي لا يرى جدلية العلاقة  بين العروبة و الاسلام و يعتبر أن المعادلة بينهما  جامدة و ليس لها ارتباط بالمتغيرات المؤثرة في واقع الأمة العربية. فيرى العلاقة في إطار معادلة لا تتحرك و جمودها أزلي بحيث تكون الهوية إما دائما اسلامية أو دائما عربية. 

 

إن الأمة العربية  لها مفهومها الخاص للعلاقة التي تربط العروبة بالاسلام  و هذه الخصوصية ليست من اختراع المنظر القومي العربي لكنها من اكتشافاته بعد تمعنه في مكونات هذين العنصرين و العوامل المؤثرة فيهما و طبيعة التطورات التي تشهدها نتيجة تفاعلها مع الأحداث و المتغيرات التي يشهدها الوطن العربي.

 

ما يجب التأكيد عليه أن الحديث عن علاقة العروبة بالاسلام لا يعني الحديث عن الهوية. فعند تعرضنا لموضوع الهوية يعتبر طرح السؤال هل إن هويتنا عربية أم إسلامية هو طرح مغلوط  لأن الهوية تبقى دائما عربية إسلامية.بينما حين نتعرض لموضوع علاقة العروبة و الاسلام فإننا نبحث من وراء ذلك عن  الآلية المناسبة للدفاع عن الذات والحفاظ على الهوية . بعبارة أخرى عند مواجهة غزو خارجي مثلا ما هي الآلية التي نحركها ؟ هل نحرك آلية العروبة أم الاسلام ؟ هذا هو جوهر الهدف من الحديث عن العروبة و الاسلام .

 

و لشرح المسألة أكثر يجب الانطلاق من أن العروبة و الاسلام عنصران متلازمان و قد اختار المنظرون القوميون صورة علاقة الجسد بالروح للتقريب إلى الأذهان تلازم العلاقة بين العروبة و الاسلام . و نحن بدورنا ننطلق من هذا المثال بالذات  لنبين موضوع علاقة العروبة و الاسلام ليس من زاوية ترابطهما إذ هو شيء بديهي و لكن من زاوية البحث عن آلية دفاع الأمة عن ذاتها. فحين يعترض أي انسان (جسد و روح )  إلى مخاطر التجويع و التعذيب مثلا ، ما هي الآلية التي يحركها للدفاع عن نفسه ،هل قوته الجسدية أم قوته المعنوية. بطبيعة الحال سيحرك رئيسيا قوة الصمود و الصبر الكامنة فيه و هي صفات مصنفة ضمن مشمولات الروح . و إذا تعرض هذا الانسان إلى اعتداء عبر مبارزة جسدية فإنه سيحرك رئيسيا قوته الجسدية. إذا هل يمكن القول أن من يحرك قوة جسده لدرء اعتداء موجه ضده هو انسان متشكل  من جسد فقط و أن من يحرك قوته المعنوية يتكون من روح فقط.

 

 المسألة تبدو بديهية لكن مناصري الاسلام السياسي يحتاجون إلى العديد من التنظيرات الديماغوجية لتمرير مفهومهم للهوية. إن عداءهم للعروبة هو الذي يدفعهم إلى الترويج لفكرة أزلية أهمية الاسلام مقارنة بالعروبة. فبالنسبة لهم المقاوم الحقيقي هو الذي  يتبنى فكرة تفوق الاسلام على العروبة و يطلقون صفة الجهادي على الاسلام الذي يقاوم الامبريالية و الصهيونية  أما الاسلام العروبي ، إسلام القوميين فلا يمكن أن تكون له صفة الجهادية حسب زعمهم. و نحن نسألهم ماذا نسمي فصيل جيش رجل الطريقة النقشبندية مثلا الذي يقوم إلى اليوم بالعمليات الجهادية و يتبنى الاسلام الصوفي لكنه عروبي حد النخاع  و لا يطلب المشاركة في السلطة بل يعمل على تحرير الوطن تطبيقا لقناعاته الاسلامية كما أن هذا الجيش لا تغيب عن شعاره المميز خريطة الوطن العربي.

 

 إن هويتنا العربية الاسلامية  قادرة على استيعاب كل التصنيفات الفكرية (المتحمسون للعروبة أكثر من الاسلام أو المتحمسون للاسلام أكثر من العروبة)  شريطة أن تعتبر  الوطن فوق الجميع،  إلا أن هذه الهوية لا تستوعب من يستخدم الاسلام لخدمة طائفة أو حزب أو مذهب معيّن أو لخدمة مرجعية أو مشروع أجنبيين. هذا هو الخط الفاصل بين الاسلام العروبي و الاسلام السياسي .

 

إن اعتماد المفهوم الخاطئ لعلاقة العروبة و الاسلام في تقييم التجارب و الأشخاص  أدى إلى تشويه العديد من الحقائق حتى تلك المتعلقة بالرموز القومية و نخص بالذكر منها  الشهيد صدام حسين. فلقد أدت عملية التقييم على أساس أزلية تفوّق الاسلام على العروبة إلى تقسيم تجربة الشهيد إلى قسمين . فانصار هذه النظرية يركزون على جانب واحد من مسيرة القائد. فصدام حسين عظيم لأنه أسس الحملة الإيمانية ، هو عظيم فقط لأنه عزز من مكانة الإسلام في المجتمع العراقي و بالتالي يحصرون المرحلة الإيجابية للشهيد في فترة الحملة الإيمانية و كأن الاسلام كان غائبا تماما في بقية الفترات . هذا ما يمكن أن نجنيه من التشويهات التي تسربت إلى ذهنية البعض بسبب نجاح أعداء الأمة المتسترين بالدين في اختراق صفوف أطراف كانت في وقت قريب تحسب على القوميين.

 

سوف نستند إلى مقولات الشهيد صدام حسين نفسه  لنبين رؤيته الخلاقة لعلاقة العروبة و الاسلام . سنعتمد في تحليلنا على نص كتبه في ماي 1987 بعنوان " الحركات السياسية الدينية و الحركات المغطاة بغطاء الدين "  يقول صدام حسين: " ان من الحقائق المعروفة هي ان مقاومة العرب للاضطهاد العثماني، وثورتهم عليه كانت مقاومة قومية، وليست دينية، ولاسباب هي الاخرى، ليس هنا مجال الحديث عنها. وعموما فان التحرر من الاضطهاد العثماني ودولته، والتحرر من الانجليز والفرنسيين في المشرق العربي، جاء تحت لواء الشعور والتعبئة القومية، والوطنية، وليس تحت شعارات دينية رغم ان ديانة الفرنسيين والانجليز هي غير ديانة الاغلبية الساحقة من العرب. و من جهة أخرى فان التحرر من الاستعمار الفرنسي والايطالي في المغرب العربي قد اختلطت فيه الشعارات الدينية والوطنية والقومية، وان الشعارات الدينية والوطنية في الجزائر كانت هي البارزة ، رغم ان دور العرب في مساعدة الجزائريين على التحرر، وخاصة دور مصر، كان أوضح  من دورهم في مساعدة المغرب وليبيا, وتونس, على التحرر"

 

 يجيب صدام حسين في إطار موضوع علاقة العروبة و الاسلام على سؤال أية آلية يجب اعتمادها للدفاع عن الهوية . فيقول أن المشرق اعتمد آلية العروبة لأنه كان عليه أن يتصدى لسياسة التتريك و يواجه مخططات الاحتلال و التفتيت التي انتهجها الاستعمار الانقليزي و الفرنسي من أجل ضرب المقومات العربية ، بينما اعتمد العرب في المغرب العربي آلية الاسلام لأن الاستعمار الفرنسي توخى سياسة التجنيس و التبشير التي كانت تستهدف الاسلام كهوية من أجل تحقيق الأهداف الاستعمارية . هذا هو التحليل الجدلي الذي تبناه صدام حسين و حزب البعث طيلة وجودهما في السلطة و ليس في فترة محددة فقط . اعتمادا على نفس هذا المبدأ و هذه الجدلية اتخذ صدام حسين قرار تأسيس الحملة الإيمانية. فقد  قرر حزب البعث بقيادة صدام حسين اعتماد آلية الاسلام انطلاقا من رؤية سياسية ثاقبة و قراءة استشرافية خلاقة للواقع العربي و العالمي .ففي مرحلة أواخر الثمانينات كان العراق يشهد تحديين :

 

أولا : الدفاع عن الاسلام العروبي من هجمة الاسلام الفارسي الذي اعتمده الإيرانيون لتشويه حزب البعث والقيادة الوطنية كخطوة للاطاحة بنظام صدام حسين  و مقدمة  لضرب القومية العربية  من أجل  اختراق البوابة الشرقية والنفاذ إلى داخل الوطن العربي.

 

ثانيا : الاستعداد لمواجهة أعتى مخطط لاحتلال العراق و تدميره . فقد كان يعلم صدام بحسه الاستراتيجي العميق أن العراق مقبل على مواجهة عظمى تستوجب استنهاض أقصى ما يختزنه شعب العراق من زاد إيماني و روح للتضحية و الاستشهاد.

 

هذان التحديان هما اللذان دفعا صدام حسين إلى تحريك آلية الاسلام للدفاع عن الهوية العربية الاسلامية .

كل وضع جديد في قطر من الأقطار أو في كامل الوطن العربي ناتج عن تغيرات جوهرية في مخططات الأعداء أو في برامج حركة التحرر العربية يجب أن تقابله آلياته المناسبة.هذا هو تطوير صدام حسين في الفلسفة القومية.

 

إن فكر صدام حسين هو تطبيق لنظرية ميشيل عفلق القومية و تطوير لتجربة الزعيم جمال عبد الناصر، و هذا الجمع الخلاق بين النظرية و التطبيق هو الذي مكن الشهيد صدام حسين من تحقيق الإضافة في الفكر القومي العربي  و ساعده على الابداع في تحديد الآليات المناسبة للدفاع عن هويتنا العربية الاسلامية .

تطبيقا لهذا المنهج فإن ما هو مطروح من آلية للدفاع عن الهوية في العراق  ليس هو نفسه ما يطرح في مجمل الوطن العربي . فقد أجمع القوميون الجذريون على أن الوطن العربي يشهد تحدّيا  رئيسيا هو مخطط التفتيت الذي يشكل العمود الفقري للبرنامج الامبريالي الأمريكي الإيراني الصهيوني . لقد انتقل تطبيق هذا البرنامج  من مرحلة ساكس بيكو 1 إلى ساكس بيكو 2 و التي تهدف إلى تقسيم و تجزئة ما قُسِّم  و جُزِّئ  في المرحلة الأولى لكن هذه المرة على أرضية الطوائف و المذاهب و العشائرية و غيرها ، و لن تقدر الأمة العربية على مواجهة هذا المخطط إلا بتحريك آلية العروبة التي عمادها مبدأ توحيد المجزَّأ و الدفاع على الموحَّد.

 

و في الأخير

 نقول أن الفكر القومي يتطور و يتجاوز نقائصه على أرضية الثوابت القومية  و بسواعد و عقول أبنائه أما ما يتكرم علينا به رجالات و أحزاب القوميات الأخرى المعادية فمطروح مواجهتها و التباين معها و ليس البحث عن نقاط اشتراك معها لأن البحث عن النقاط المشتركة في المسائل الجوهرية والاستراتيجية  هي التي تنمّي لدى من يؤمنون بهذه المزاوجة  الإحساس بضرورة مراجعة الثوابت فيسقطون  في منزلقات تجرهم إلى تشويه أعز ما نملك من مبادئ و تجارب و رموز وطنية و قومية . أن يتبنى الفرد جزءا من فكر صدام حسين و يملأ الجزء الباقي بالتغني  بالدور الإيراني ، هذا ما لا يمكن أن تقبله الثوابت القومية الأولية . و نقولها صراحة إن أي منظومة فكرية يتم تشكيلها من خليط مواقف  "إيجابية" تنتمي إلى مراجع فكرية ذات انتماءات قومية مختلفة لا يمكن أن تكون بنتا شرعية لأمتنا بل هي عبارة عن لقيطة غريبة  تخدم من هم من فصيلتها و توظف في برامج الإساءة إلى وطننا. إن ما  يشهده حزب البعث و الشهيد صدام حسين من تشويهات خفية و متسترة وراء شعارات قومية و إسلامية هو أخطر ما يمكن أن تصاب به الحركة القومية العربية.  و على هؤلاء الذين يصمون آذاننا بما يسموه باستعداد قسم من الاسلاميين أن يطوروا طرحهم و يصححوا مسارهم عبر اقترابهم من عروبتنا، أن يعلموا أن ما يقومون به هو عبارة على إلقاء طوق النجاة لتيارات الاسلام السياسي التي افتضح دورها المعادي للمفهوم الثوري للعروبة و الإسلام.

 

مقال الدكتور عصام نعمان

 

 

اسلام بلا عروبة لا يملأ 'فراغ' المنطقة

 

د. عصام نعمان

الولايات المتحدة لم تترك المنطقة، ولا هي بصدد ذلك. الحديث عن 'فراغ قوة' متوقع بعد خروجها من العراق اواخرَ العام القادم، ومن افغانستان في مدى سنتين من تاريخه سابق لأوانه. كذلك احتمال تخليها عن دورها في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية لا تسمح لها باستقالة مبكرة. في الساحات الثلاث ما زالت امريكا حاضرة وهي في صدد استثمار حضورها المتعدد المظاهر، من اجل إعادة تشكيل الشرق الاوسط بما يلائم مصالحها. اذ هي تشهد وتعاني انهيار مشروع 'الشرق الاوسط الجديد'، ثم مشروع 'الشرق الاوسط الكبير'، تنخرط في هذه الآونة في جهود موصولة لابتداع مقاربة جديدة لمواجهة التحديات الماثلة تُوقف مسار تدهور نفوذها وتستعيد بها زمام المبادرة.


غير ان ما فيه امريكا اليوم وما يمكن ان تكون عليه غداً، يجب ان يشكّل حافزاً لقوى المقاومة العربية والإسلامية، من اجل التحسب والتخطيط، في ضوء الصراع المحتدم، لما يمكن او يجب ان تكون عليه المنطقة عندما تبزغ مرحلة 'فراغ القوة'.


من المعطيات المتوافرة والاخرى المتنامية، يمكن رسم مشهد تقريبي لقابل التطورات والتحديات.


ثمة ثلاث قوى رئيسة في المنطقة تتصارع بأشكال متعددة. انها التحالف الاميركي ـ الصهيوني (الولايات المتحدة واسرائيل) والتحالف الاقليمي الحركي (ايران وسورية واستطراداً لبنان وتركيا)، والتحالف الاقليمي التقليدي (السعودية ومصر).


من الواضح ان التحالف الاميركي ـ الصهيوني متعثر ومرتبك ومتخبط في العراق وافغانستان وباكستان وفلسطين. فالولايات المتحدة قررت الخروج من العراق اواخر 2011، من دون ان تتمكن حتى الآن من اقامة حكومة موالية لها تحمي مؤخرة قواتها الآخذة بالانسحاب، ومجمل استثماراتها النفطية والاقتصادية التي استطاعت زرعها منذ احتلالها البلاد. الامر نفسه تقريباً ينطبق على وضعها في افغانستان، حيث الحرب تزداد تعقيداً وتكلفةً من دون تحقيق اختراق آمن يؤدي الى مفاوضات، وبالتالي الى اقامة حكومة ائتلافية مع طالبان تتقاسم واياها السلطة والمصالح.


في باكستان يزداد نزيف الدماء مقروناً بازدياد تعقيدات الوضع، اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ما حمل واشنطن على مضاعفة مساعداتها بمليارات الدولارات. اما في فلسطين فإن الحراك الدبلوماسي وصل الى جمود لافت، من دون ان تلوح في الافق بوادر تحريك وشيك. لعل حكومة نتنياهو تنتظر نتائج الانتخابات الامريكية النصفية لتبني في ضوئها مع ادارة اوباما على الشيء مقتضاه.


التحالف الاقليمي الحركي يبدو في حراك مستمر ومتصاعد. زيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الاخيرة الى لبنان اكسبت التحالف زخماً وصدقية، في حين انها اضعفت القوى المحلية الموالية لامريكا، لدرجة حملت ادارة اوباما على ايفاد مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان على عجل، من اجل شد أزر الحلفاء وكبح جماح الاعداء.


الى ذلك، يبدو ان ركني التحالف، ايران وسورية، توصلتا الى صيغة توافقية لإخراج الوضع العراقي من عنق الزجاجة، محورها تجديد ولاية نوري المالكي في رئاسة الحكومة على اساس تأليف وزارة ائتلافية تكون للقوى القومية المتعاطفة مع سورية حصة وازنة فيها. واذ تبدو الولايات المتحدة مضطرة الى الموافقة على الصيغة الجديدة، فإن السعودية ما زالت معارضة لها، رغم ضغوط الرئيس السوري خلال زيارته الاخيرة للرياض. فوق ذلك تحاول دمشق استدراج الجناحين الفلسطينيين المتنافسين، 'حمـاس' و'فتح'، الى توليف مصالحة بينهما تُخرج قضية فلسطين مرحلياً من وصاية التحالف الاقليمي التقليدي (مصر والسعودية) المتعاون مع التحالف الامريكي ـ الصهيوني.


التحالف الاقليمي التقليدي في وضع سياسي شديد الارتباك حتى حدود الشلل. فمصر تفتقر الى رصيد سياسي كافٍ لممارسة دور مؤثر على الصعيد العربي، بسبب مشاركتها، مداورةً، في الحصار الإسرائيلي المضروب على قطاع غزة. والسعودية تعتبر الخطر الاول الذي يواجهها مرحلياً ينبع من ايران، لا من اسرائيل. الى ذلك، فقدت السعودية نفوذها لدى الكثير من القوى الاسلامية السلفية التي، انتقلت تدريجياًً، الى معسكر العداء للولايات المتحدة. اما القوى الاسلامية المحافظة على ولائها للرياض فهي محدودة الفعالية ولا تملك الرصيد والسمعة لتشكيل نموذجٍ سياسي منافسٍ للقوى الاسلامية الحركية. ومع ذلك تبقى السعودية الممول والداعم الرئيس للقوى التقليدية الموالية للغرب الاطلسي في المنطقة.


في ضوء المعطيات المتوافرة والمتنامية، ما عساه يكون مشهد المنطقة التقريبي في المستقبل المنظور، وما العوامل التي من شأنها تظهير صورة المشهد او تظليلها؟


ثمة واقع سياسي ـ اجتماعي يكتنف دول المنطقة افرزته الحروب التي شنها التحالف الامريكي ـ الصهيوني على مدى السنين الستين الماضية، انه تفكيك الشعب، او بالاحرى الاجتماع السياسي، في كلٍ من دول المنطقة الى عناصره الاولى (المتحدات الابتدائية) القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية والعصبيات المحلية الضيفة. فالعراق جرى تفجيره بفعل الاحتلال الامريكي الى جناحين عربي وكردي، تمور في كل منهما عصبيات قبلية وطائفية ومذهبية شديدة الوطأة.


لبنان المطبوع اصلاً بتعددية متجذرة انشطر اجتماعياً الى جناحين: واحد متشرّب بثقافة الغرب ومتماهٍ مع قيمه وطريقة حياة مجتمعاته وسياساته في المنطقة بصورة عامة، وآخر وطني عروبي منفتح على الاسلام الحركي، معادٍ للغرب الاطلسي ومقاوم لاسرائيل. وتعصف بالجناحين عصبيات مذهبية تخترق نسيج المجتمع وآليات السلطة، الى درجة بات الوضع معها مشحوناً بتوترات وتشنجات مستعصية.


السودان المتكوّن اصلاً من شمال عربي مسلم متوزع بين طائفتين رئيستين، وغرب (دارفور) قبلي متعدد، وجنوب مسيحي ووثني الى جانب فئات وطوائف اخرى، بات اليوم امام مفترق مصيري يؤشر الى مزيد من الانقسام والتشظي.


فلسطين المبتلاة باستعمار سرطاني توسعي، يزداد الكيان الصهيوني المتجذر فيها عنصريةً وتطرفاً وتهديداً لاقلية عربية هي ما تبقّى من شعبها العربي المشرّد في اربع جهات الارض. ويزداد الوضع سوءا وتعقيداً بانقسام منظمة التحرير الى جناح تسووي مساوم وجناح رديكالي مقاوم، ما ادى الى قيام حكومتين، واحدة في رام الله واخرى في غزة.


ويعاني اليمن من اضطراباتٍ امنية متواصلة في شماله مع طائفة الحوثيين، وفي الجنوب مع قوى حراك سياسي لا ينكر غايته الانفصالية. باختصار، يبدو الوضع العربي، لاسيما في بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن ووادي النيل (بما في ذلك مصر حيث تتجدد النزاعات بين المسلمين والاقباط) في حال انقسام وفرقة وتفكك وفوضى شاملة تستثمرها القوى الخارجية للتدخل والتخريب.


هكذا تبدو الفرصة متاحة امام التحالف الامريكي ـ الصهيوني في ساحات اقليمية عدة لمحاولة تدويم الواقع الراهن المتفكك والمريض. صحيح ان التحالف المذكور عاجز عن الإمساك بنواصي الاوضاع في مختلف الساحات الاقليمية والسيطرة عليها، لكنه قادر بدرجات متفاوتة على اعادة انتاج عوامل التفرقة والتجزئة واستثمارها.


في المقابل، لا تألو القوى الحية في دول التحالف الاقليمي الحركي، وخصوصاً قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسورية وايران، جهداً في التصدي لإسرائيل وللقوى المحلية الموالية للولايات المتحدة. ولعلها نجحت في الساحة اللبنانية بمنعها قوى 14 آذار من احتكار السلطة وسَوق البلد الى حظيرة الغرب الاطلسي والى مهادنة اسرائيل، بل هي شاركت في السلطة بحصة وازنة مكّنتها من تحصين المقاومة ودعمها سياسياً واجتماعياً وتقريب لبنان الرسمي من سورية خصوصاً، ومن سائر اطراف التحالف الاقليمي الحركي عموماً. وفي فلسطين نجحت قوى المقاومة في الحد من هرولة قوى المساومة نحو تسوية تصفوية مذلة مع العدو الصهيوني.


وفي سورية وايران امكن احراز تقدم ملموس على صعيد التنسيق السياسي والعسكري بينهما والتكامل الاقتصادي الاقليمي مع تركيا.
هذه النجاحات النسبية على اهميتها، حصلت وتحصل على الصعيد السياسي الرسمي لكنها لا تتناول ولا تعالج الحالة الانقسامية والتجزيئية على الصعيد المجتمعي والشعبي. لعل مردّ القصور والتقصير غيابُ عامل توحيدي جامع ومؤثر بصيغة دعوة او تيار او حركة فاعلة في الحياة العامة. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي صعدت الحركة القومية العربية بفضل البعث وعبد الناصر، وشكّلت نذيراً وبشيراً ومحركاً وقاطرة للشعوب، كما للحكومات في المنطقة حتى هزيمة العام 1967. بعدها تصاعدت الحركة الإسلامية بروحية جهادية وبدت كأنها تسلّمت راية الكفاح لتحقق ما عجزت الحركة القومية عن انجازه عبرعقود ثلاثة.


لئن تمكّنت الحركة الإسلامية من احياء جذوة الجهاد والمقاومة، فإنها عجزت ايضا عن معالجة الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة، بل لعلها زادتها سـوءا وتعقيداً، ذلك انها اعتمدت في مقاربتها السياسية للازمات والتحديات الراهنة فكراً ونهجاً قاصرين. فكرها تجلّى في اعتماد مفهوم سلفي ماضوي شعائري ضيق للإسلام تغيب في الممارسة مُثُلُه العليا وجوانبه العقلانية ومناهجه الحركية والتجديدية. اما نهجها فقد تبدّى في مخاطبة المشهد القطري وبالتالي في التعاون مع القوى القطرية ذات الافق الضيق والمصالح الاقتصادية المحلية المرتبطة بوكلاء الدول والمؤسسات والشركات الاوروبية والامريكية، وبالطبقة الاجتماعية المفتقرة الى اهتمامات تنموية.


واذ زاوجت الحركات الاسلامية بين عدائها للغرب، ثقافةً وسياسةً، وبين المسيحية بما هي دين شعوب الغرب عموما، فقد انعكس ذلك سلباً على المجتمعات العربية التعددية التي تحتضن اقليات مسيحية، كالعراق ولبنان وفلسطين ومصر والسودان. زادت الامر تعقيداً مبادرةُ اسرائيل واوساط موالية لها في الولايات المتحدة ودول اخرى اطلسية الى استثارة عصبيات طائفية ومذهبية لاغراض سياسية، ما ادى الى إلحاق بالغ الاذى بأقليات مسيحية في العراق والسودان، وعلى نطاق أضيق في لبنان. اكثر من ذلك، أسهم نهج الحركات الاسلامية السالف الذكر، اضافة الى دسائس اسرائيل وامريكا في تعزيز اسباب التجافي بين المذاهب الاسلامية، ولا سيما بين اهل السنّة واهل الشيعة، في اقطار عربية عدة، الامر الذي عمّق الحال الانقسامية والتجزيئية السائدة. باختصار، ليس ثمة جامع مشترك في الحياة السياسية العربية المعاصرة. فالحركة القومية العربية ضعيفة وشبه غائبة، والحركة الاسلامية متعثرة بمذاهبها ومذهبيتها وانشغالها بشواغل قطرية، وافتقارها الى ابعاد قومية على مستوى الامة.


هذا الواقع المأزوم والمغلق على امراضه الذاتية، لا يمكن تحريره من اغلاله واثقاله إلاّ بإعادة إحياء واطلاق جامع مشترك بين مكوّناته الاجتماعية والسياسية بصيغة دعوة او تيار او حركة سياسية واجتماعية فاعلة. الجامع المشترك هو العروبة، بما هي ثقافة وهوية وانتماء ورابطة سياسية اعلى من المكوّنات الاجتماعية وظروفها المحلية الضيقة، وافعل في ممارسة نهجها وأرحب في تطلعاتها وصبواتها .


الإسلام بلا عروبة مهدد دائما في بلادنا بالانزلاق الى مهاوي الطائفية والمذهبية. العروبة ثقافة وانتماء وهوية في آن. فهي ثقافة وعي الانتماء الى ما هو اعمّ واعلى حضارياً. وهي هوية الاجتماع السياسي الهادف للارتقاء الى ما هو ارحب واغنى وارقى سياسياً واقتصاديا واجتماعياً.


اذا كان خروج امريكا المرتقب من المنطقة سيؤدي الى نشوء 'فراغ قوة'، فإن العرب بوضعهم الانقسامي والفسيفسائي الحالي عاجزون عن ملئه.


ثمة حاجة الى تزويج الإسلام بالعروبة مجدداً لتمكين القوى الحية في الامة من الالتقاء والارتقاء بتوظيف الجامع المشترك ـ متحد العروبة والاسلام ـ في مجهود سياسي وحضاري متكامل.


وليس صحيحاً ان تطور وتكامل وارتقاء تيار او خط قومي ـ اسلامي او اسلامي عروبي من شأنه اعاقة مسيرة التحالف والتعاون الاقليمي المنطلقة حالياً بين سورية وايران وتركيا، ذلك ان النظام في كلٍ من الدول الثلاث هو في الواقع، نظام قومي اسلامي او اسلامي قومي، وان القومية متداخلة مع الاسلام في كل منها، الامر الذي جعل المتحد القومي ـ الاسلامي اعلى وارقى وافعل من مكوّناتها الاجتماعية المحلية.
آن اوان الالتقاء والارتقاء.

 

 





الجمعة٠٦ ذي الحجة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٢ / تشرين الثاني / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ابن تونس نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة