شبكة ذي قار
عـاجـل










أخرجُ أم لا ...
أخرج ...
لن أخرج ...
سأخرج ...
شوارعُ بغداد فقدت جاذبيتَها وسحرَها ، تتردَّدُ وتتأفَّفُ ألفَ مرةٍ قبل أن تخرجَ من البيتِ وتقودَ السيارةَ لُتنجزَ مهمةً ضرورية . تلك العلاقةُ الحميمةُ التي كانت تربُطها بالإسفلت والجزرات الوسطية بأشجارها ذات الأوراق المتدليةِ على جانبَي الشارعِ .. والشارعُ المفتوحُ بامتداداتِه وتقاطعاتِه بلا حواجزَ ولا جدران ولا نقاط تفتيشِ .. وحشرُ السياراتِ ببعضها البعض – لم تعدْ موجودةً .. تلاشت عندما فقدت الشوارعُ بريقها وأشعاعها الذهبي الساطع .


لم تعدْ تهربُ إلى شارعِ أبي نواس ، أو شارع 14 رمضان أو المنصور لتُرفّهَ عن نفسها وتتحرر من الشعورِ بالكبت ، بل أصبحت تهرب من الشوارعِ إلى البيت . الشوارعُ هي التي تحوّلت إلى سجنٍ كبير – فضاءات بلا ُحرية ، تخنقها الحواجز والموانع الترابية والجدران الكونكريتية ونقاط التفتيش ، يخنقها الصمت الموحش والمحلات الموصَدةُ أبوابها وجَلاً ، تُرعبها نظراتُ الشرطي وبائع ِ الخضارِ والساقي وسائق الحافلةِ وجُلاّس المقاهي والكازينوهات ِوعابري السبيلِ في الطرقاتِ .
تجدُ في صندوق الرسائل في جوّالها رسالةً لرضاب مُرسَلة أكثر من مرة لضمان وصولها ، تقول فيها : هلو هناء .. انتظرك في الساعة الحادية عشرة صباحاً ، نلتقي قرب مطعم كباب الانبار في شارع 14 رمضان ..


رائحة شاي الجيهان أغرقت أنفها، أخذت قدحاً منه وخرجت إلى الحديقة لتحتسيه وهي تتأرجح في الأرجوحة ، وجدت رسالة تأكيد أخرى من رضاب في الجوّال. قبل أن ترفع القدح إلى فمها ، اجتاحتها عاصفة من التردد في موضوع الخروج وبدأت تكلمُ نفسها مثل المجانين :


لن أخرج .. كلا سأخرج ....
هل أخرجُ أم أعتذرُ لرضاب ؟
يقال: إن كلام الليل يمحوه النهار ، وما نقرّرهُ في الليلِ يتلاشى عند مطلع النهارِ . تقول هناء: لم أعد صاحبة القرار في موضوع خروجي من البيت ، التفجيرات والحوادث الطارئة مثل التظاهرات التي ُتنظمها الأحزابُ السياسية أو برامج الزياراتِ الدينيةِ هي التي أصبحت تتحكمُ وتحسمُ موضوعَ خروجنا إلى الشارعِ من عدمهِ.
صوتٌ في داخلها ُيحرّضها على عدم الخروجِ ، وصوت آخر ُيشجعها ، صوت آخر يحثُها لانجازِ بعض الالتزامات البيتية .. رفيفُ الهواءِ في الحديقةِ ُيحرّضها هو الآخر أن تبقى جالسةً في الأرجوحةِ وتستمتعَ بالسكينة ورؤية أزهار اللوتس الحمراء وباقاتِ النرجسِ التي بدأت ُتزهرُ على حافات الممشى بدلَ الخروج إلى شوارع بغداد التي لن تحصد منها سوى الرعبِ والإرهاقِ وضياع الوقت ، يستحيل أن تعودَ إلى البيتِ قبل ساعتين أو ثلاث.. رائحةُ الشاي تغويها ، والهدوء في البيتِ يُغريها على البقاء ..


يتكرر النداء : لا تتورطي بالخروج .
يأتيها صوت ُفرات في الجوالّ ُمحرضاً على عدم الخروج : لا تجازفي بالخروج ، بغداد اليوم تغلي مثل البركان ، انفجاراتٌ في أكثر من شارعٍ..
ماذا هناك فرات؟
إنفجارُ حافلةٍ مفخخةٍ في حي الإسكانِ والجرحى بالعشراتِ وهناك أكثر من خمسة عشرَ قتيلاً، سيارتي محصورةُ منذ ساعة في شارع 14 رمضان ، تأخرت على الوزارة واليوم أول أيام الدوام الرسمي بعد عطلة السبت ، كما انفجرت سيارةٌ مفخخةٌ أخرى أمام مطعم شمران في شارعِ 14 رمضان على دوريةٍ لقواتِ الأمنِ العراقيةِ فأغلق الشارعُ على الفورِ .


ُيخبرها فُرات : هذا الانفجارُ الثالثُ خلال فترة أسبوعٍ، وقال إن الانفجار كان من الشدةِ بحيثُ تسبَّبَ بأضرارٍ كبيرةٍ في المحلاتِ المجاورة.
ياالله يافُرات،أما آن الأوان لهذا الشارع أن يستريحَ من عناء الانفجاراتِ ، لقد حُوِّل إلى شارع الموتِ ، شارعٌ تلعبُ فيه الأشباحُ والعفاريت والطناطل بعد أن كان يضجُّ بالحياة .


أغلق فراتُ الخط ، انتقلت أصابعها لتلتقط قدح الشاي الذي ظلتْ رائحته تفوح إلى أنفها ، أغمضت عينيها فارتسمت أمامها لوحة هذا الشارع قبل الغزو .. شارعً مزدحمٌ لن تجد موطئ قدمٍ تمشي عليه في الأماسي ، وبعد غروب الشمسِ . شارعُ العشّاقِ والأحبابِ . شارعً يبقى ساهراً حتى صياح الديكِ في الفجرِ، نادراً ما تجد محلاً يغلق أبوابه ..


الوضع تغير الآن ، أيام كثيرة تمُرّ ولا تجد محلاً مفتوحاً في هذا الشارع . أصحاب المحلات يتلقون التهديدات بغلق المحال لأسباب سياسية ، أي حزب سياسي يود أن يحقق مشروعه يعمد إلى إلقاء منشورات تطالب أصحاب المحلات بالغلق ، يعمدون إلى تمثيل مشهد مسرحي يشمل قتل صاحب المحل أو عابر سبيل لإلقاء الرعب في نفوس الآخرين.


تنظرُ إلى الساعةِ تجدُ عقاربها تتحرك بسرعةٍ متناهية .. ستُ دقائق وتدقُ الساعةُ الحادية عشرة صباحاً . تثبُ من مكانها وتأخذُ مفتاحَ السيارةِ وتخرجُ دون أن تدير بالاً للنداءاتِ التي تنهضُ بين الحينِ والآخر في داخلها " اُخرجي ، لا تخُرجي".
ُتكرر الإتصال بفرات لتستفهم منه عن مصير شارع 14 رمضان فيقول: قبلَ نصف ساعةٍ ،انطلق السيرُ لكن الازدحام مازال على أشدَّه.


تُلقي نظرة على البيت ، تُرمقُه زاويةً زاويةً ، ُتحدقّ في الجدران ، في الأسيجة الخضراء التي تحيطُ بالحديقةِ ، تغرس النظر بالمسطحات الخضراء التي تفترشُ الحديقة وتشكل لوحةً جميلة تهيجّ القلب ،على الأرجوحةِ التي تجلسُ فيها وتخلو إلى نفسها ، إلى مطبخها الذي اقتنت أثاثه غرَضاً غرضاً .. إلى سرير نومها ، ومكتبة كتبها ، وخزانةِ ملابسها ..


تطيلُ النظرَ إلى البيتِ ، ربما تكونُ النظرة الأخيرة ، فهي تخرجُ ، لا تدري إن كانت ستعود أم لا ، تستحضرُ عباراتٍ ولدت بعد الاحتلال " خرجَتْ ولم تعدْ "، " خرج ولم يعدْ".


تقولُ لأمِّها ممازحةً إياها وهي تطبعُ على وَجنتها ُقبلةً قد ُتكونُ الأخيرة : إذا لم أعدْ فلا تحزني ، هناك احتمالان : إما أني هربت مع عشيق ، أو أنّ عبوةً ناسفةً أو سيارةً ملغومةً قد صادتني وصرتُ ُلقمةً شهيةً لها ، أو أني وقعت في يد "مجموعة علاسّة" أو اعتقلتني قوة أمريكية. أنا أخرج لكني لست متأكدة من العودة ، فوداعاً يابيتنا العزيز ، يا بيوت الجيران ، ياحديقة بيتي ، يا شارع حيِّـنا.


تنادي أمها خلفها : لا تتأخري هناء ، عودي بسرعة ، إتصلي .
تقولها كل يوم ثم امتنعت أخيراً عندما تأكدت أن لا أحدَ ممن يغادرون بيوتهم أصبح يملك خيار عودته سالماً.
ينبح الكلب خلفها ، فتمسِّدُ رأسهُ بيدها ، وتقول له : إنتبه .. البيت الآن أصبح بأمانتك . يظل الكلب نابحاً إلى أن تختفي عن أنظاره ، طرأ هذا الكلب على حياتها بعد الإحتلال ولاسيما أيام العلاسّة الذين أصبحوا يستغلون الوضع ويتسلقون أسوار البيوت لغرض السرقة .
تطلب رضاب على الهاتف فتجده ُمغلقاً ، تبعثُ لها بمسجات فتعودُ قافلة ًإليها.


ُتدير زر المذياعِ فيخرجُ صوتٌ أنثويٌ رقيقٌ.. ُمذيعة الأخبارِ تقرأ النشرة ، قالت : إن انفجاراً عنيفاً وقع في شارع 14 رمضان أسفر عن تدمير مطعم وأحدث أضراراً بالمحلاتِ المجاورةِ ، ثم تنتقل إلى خبرٍ آخرٍ يخصُ أمانة بغداد التي شرعت بتأهيل هذا الشارعِ لكونهِ من الشوارعِ التجاريةِ البارزةِ في بغداد . تقرأ المذيعة في النشرة : دائرة بلدية المنصورِ بدأت بتنفيذ المرحلة الأولى من أعمال إعادة تأهيل الشارع، وشملت إستغلال الساحاتِ والفضاءاتِ على جانبي الشارع والقيام بتنظيفها وتهيئتها لزراعتها بالأشجار الدائمة والموسمية ونباتات الزينة فضلاً عن رصف الأرصفة بالمٌقرنصات الملونةِ وتطوير الجزرات الوسطية واستبدال القوالب الجانبية المتضررة وصبغ الأرصفة وتأهيل التقاطعات التي يضمها الشارعِ وإعادة تأثيثها بالعلاماتِ والإشارات المروريةِ ، وإصلاح أعمدة الإنارةِ بما يسهمُ في زيادة جمالية هذا الشارعِ الذي يعدُ من الشوارعِ المهمةِ في العاصمة ويضم عدداً من المراكز التجارية الضخمة.


هل تحلم؟
هل يعود هذا الشارعُ زاهياً كما كان ؟.. تلتفتُ يمنياً وشمالاً فلا ترى غير محلاتٍ ُموصدة الأبوابِ ، وتلالٍ عاليةٍ من النفاياتِ .. أشجارُ اليوكالبتوس التي اصفرَّتْ أوراقُها تقف ُمنحنيةً مذلولةً في جزرةٍ وسطية.


تصلُ إلى شارع 14 رمضان ، وتمرُ من أمامِ مطعمِ شمران فترى آثار الدمارِ وتشمُ رائحة اللحمِ المحترقِ . الشارعُ مازال مرتبكاً ، والسياراتُ تسيرُ بحذرٍ مَشوبٍ بقلقِ ، تتراصُّ أمامها عشراتُ السياراتِ وهي تجتازُ نقطة تفتيشٍ وجدارأ ً كونكريتيا . منبهاتُ أكثرَ من سيارةٍ تَدقُ مرةً واحدةً مطالبةً بالحركة ، تتقدمُ السياراتُ خطوةً واحدةً ثم تعاودُ الوقوفِ .. تلتفتُ فتلمحُ باب محلِّ أحذيةِ السفرِ موصَداً . لم يكن يوصَدُ بابُه ابداً .. كنا ندلفُ إليه مع الشمس ونقتني منهُ أحذية .. وقبل ذلك نمرُّ على مطعم كباب الأنبار ونحجزُ عندهُ وجبةَ كبابٍ سفريّة ، نمرُ لنأخذها بعد أن ُننهي جولةً في المحلات . ندخلُ محل أحذية ثم نغادرهُ إلى محل أقمشةِ العبيدي .. نقفُ عند صيدلية الساعةِ والسامرائي لنأخذ ما نحتاجُ إليه من ُمسكنات ومضادات حيوية ، نمرُّ على أسواق الأوائل والبيت السعيد ونشتري الكرزات من محل جرزات لبنان ..


لم يبق محل لم نمرَّ عليه برفقة شمس أو مع نجلاء شقيقتها أو رضاب ابنة خالتها التي تعرف الشارع محلاً محلاً ، ومطعماً مطعماً . تحفظُ أسماءِ محلاته ومطاعمه وأفران الصمونِ ، والمعجناتِ والمرطبات والصيدلياتِ :..ُمعجنات الحمراءِ والشموعِ والرباطِ والعسلِ والياقوتِ وأفرانُ نصير وصمونِ الحكمِ وهويدي .


توقفت السيارات عن السيرِ بشكلٍ ُفجائي ، ترجَّل السائقُ الذي يسبُقها بسيارتين أو ثلاث ليستفهم عن سبب تلكؤ السيرِ .. عاد وهو يضربُ كفاً بكف وتوقف مع سائقٍ آخر تقف سيارته خلف سيارتها : تفتيشٌ دقيقٌ على السياراتِ ، يقال إن هناك سيارة ملغومة أخرى دخلت إلى الشارع لغرض التفجير ، وقوات الأمن كثفت الدوريات .
دوَّى انفجارٌ قويٌ ، تعالى صوتُ سائق سيارةٍ يقفُ على الجانب الأيسر من سيارتها وهو يتأفف :"شيكضيها اليوم" ، صرخ سائقٌ آخر : لا ، هذه التحية اليومية للمنطقةِ الخضراءِ ، الكاتيوشا ُتحيِّي المنطقةَ الخضراء بشكلٍ يوميٍ .


بعد قليل ، ُتذيع نشرةُ الأخبار خبر الكاتيوشا " قصف مسلحون مجهولون ما يسمى المنطقة الخضراء التي تتمركز فيها سفارةُ الإحتلالِ الأمريكيِ وقواتٌ أمريكية ، والمسؤولون الحكوميون وسط العاصمة بغداد بصاروخينِ نوع"كاتيوشا".


وأفاد مصدر أمني حكومي مسؤول لمصادر إعلامية في تصريحٍ له: إن صاروخي كاتيوشا سقطا على إحدى بوابات المنطقةِ الخضراءِ ".
وأوضح المصدرُ: "إن الصاروخين وقعا قرب دائرة المخابراتِ ولم يتمّ معرفةُ الخسائرِ التي لحقت بالدائرةِ".


أطفأتْ السيارةَ .. سحبتْ حِزمة الأوراقِ من ُدرجها وقرَّرتْ أن تواصل كتابة الرسالة :
تحت دويِّ كاتيوشا ، أكتب إليك هذه الرسالة ، لست متأكدةً إن كانت ستصل إلى يديكِ يوماً ما ، وقتَها ستتَّهمني بالجنون ، وتتساءل لماذا كتبتُ إليك الرسائل من الشارعِ . لن أخفيك سراً إني أجد في كتابة رسائل على الورق نوعاً من التسلية والمتعة وقتلِ الوقتِ وطرد الملل . هاأنذي أقفُ في منتصف شارع 14 رمضان الذي كنا نتنزهُ فيه أوقاتا ً كثيرةً ، وأُكتب إليك .. فقد أصبحت الكتابة نوعاً من المهدئاتِ الجأُ إليها للتخفف من التوترِ الذي ينجمُ عن توقف السيرِ في الشوارعِ لساعاتٍ طويلة . أكتبُ إليك الرسائل لكي تبقى ذكرى لأني لا أضمنُ عمري ولا أعرف إن كنتُ سأعيشُ وأحتفظُ بحياتي إلى ذلك الوقت .. في هذا البلد ، كل شيءٍ أصبح غامضاً ومبهماً .. الموتُ يتربص بك أينما أدرتَ وجهك ، ُيداهمك وأنتَ جالسٌ تحت سقفِ بيتك .. يلتقيك وأنت تمشي في الشارعِ ، وأنت تجلسُ في مقهى ، في بيت صديقٍِ ، وأنت تقود سيارتك في الشارع .. وأنت تسقي حديقةَ بيتك ، وتوصلُ أولادك إلى المدرسة ِ، وتشتري الصمون من الفرنِ ، وتجلس على مكتبك لٌتنجز معاملة لمواطن من بلدك.


كلشان البياتي
كاتبة وصحفية عراقية
golshanalbayaty2005@yahoo.com

 

 





الاحد٢٣ ذي القعدة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٣١ / تشرين الاول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب كلشان البياتي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة