شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يكن "نهر دجلة" إلا أسطورةً إلهيةً أكرمَ، وأنعمَ الله تعالى بهِ على عباده في عراق العبوديةِ لله جلا جلالهُ والخير، ولم يستطع الغزاةُ، والمحتلون، والمنافقون من الجيران الحاقدين على الإسلام والعروبة عبر التاريخ أن يسلبوا هذه الأسطورة الإلهية من شعب العراق، ولم يكن هذا الإنعام والإكرامُ الإلهي بحد ذاته إلا من خلالِ ما يعلمُهُ اللهُ تعالى عن أهلِ العراق بحُكم أنه الخالق الأوحد لهم ولغيرهم، سيما وأنه الذي, قال: ] قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [([1]) من عبوديةٍ فائقة جاء ذكرها في الكثير الكثير مما في بطون الكتب العتيقةِ والحديثة، وما تناقلهُ، ويتناقلُهُ خارجها رجال الصلاح والتقوى، فكيف إذن لا يُكرم الله تعالى أهلُ العراق الذي ورد عن عبوديتهم لهُ جلا جلالُهُ الكثير الذي منهُ: (([ أنبأنا إبراهيم بن مخلد قال أنبأنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهر قال أخبرني السعدي يعني علي بن أحمد عن عبد الله الرملي قال حدثني صديق لي عن صديق له من الصالحين قال: أردت الانتقال من بغداد إلى بلد آخر فأريت في منامي أتنتقل من بلد فيه عشرة آلاف ولي لله عز وجل قال فجلست ولم أنتقل من بغداد.]، ومنهُ أيضاً: [ أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي قال أنبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري قال قرأت في كتاب أبي حدثني أبو بكر بن حمزة قال: كتب إلي صديق لي من حلوان أني رأيت فيما يرى النائم كأن ملكين أتيا بغداد فقال أحدهما للآخر اقلبها فقد حق القول عليها، فقال له الآخر كيف أقلبها وقد ختم الليلة فيها خمسة آلاف ختمه.] ومنهُ: [ سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي يقول كان يُقال: من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح، بمكة ويوم العيد بطرسوس.].)). ([2])

 

لا أود الاسترسال أكثر لكي لا أخرج عن ما أنا فيه, سيما وأن العراق بشكل عام قد أثقلنا بهمومهِ بعد أنْ دنّسه الاحتلال الأمريكي الكافر بالتحالفِ مع المؤسسة الدينية الإيرانية المُنافقة، فحل محل التغني بأمجاد العراق وبغداد، البُكاء والنحيب والعويل على تلك الأمجاد التي نال منها اؤلئك الأوباش، بعد أنْ وجدوا في الحكومات العراقية الأربعة المُتعاقبة خير مُنفذين لأجندتهم المُرتكزة على الزندقة، فمن الذين تغنوا بتلك الأمجاد سيما نهر دجلة أمير الشعراء المرحوم "أحمد شوقي" (رحمة الله عليه وأمة المُسلمين)، في قصيدةٍِ رائعة لهُ، فكيف لا وهو سيد الشعراء قبل أنْ يكون أميرهم بعد أنْ أمتلك ناصية اللغة، والصورة الشعرية المُتقنة، والقدرة الفائقة في وصف الحدث الشعري، و...إلخ فكانت قصيدته الرائعة التي عنونها بـ: "يَا شِرَاعاً وَرَاءَ دِجْلَة يجري" يمدحُ فيها وقتئذٍ الملك "فيصل الأول" (رحمة الله عليه وأمة المُسلمين)، فكان موفقاً في انتقاء نهر دجلة ليكون رمزاً للعراق وشعبهِ، يتغنى به بأسلوب يسلبُ الألباب، وكم كان رائعاً وهو يستخدم مفردة "وراء" دجلة ولم يقل "في" دجلة!

 

يا شراعاً وراءَ دِجلةَ يَجري            في دموعي تجنَبتكَ العَـوادي

 

وهو برأينا تعبير دقيق عن هيبةِ ذلك النهر، بأن جعل الشراع وراءه ولم يجعله فيهِ أو أمامه، فهو (الشراع) لا يستطيع أنْ يُسابق دجلة، الذي لا يسابقه إلا دجلة نفسه.؟! فدجلةَ ].. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [،([3]) وليس صُنعَ الإنسان، فهو إعجازٌ قائمٌ بذاتهِ لا يُسابِقُهُ، ولا يُضاهِيهِ إلا دجلةَ ذاته!!

وبقدر ما كان تعبير "دموعي" أعلاه عن العينين اللتان يجري منهُما الدمع، واللتان هما أغلى ما لدى الإنسان، وكان استعارتهما وقتئذِ (عام 1931) رومانسياً، تعبيراً عن القيمة العليا لبغداد/العراق، بقدر ما نستعير من أمير الشعراء "شوقي" الآن، والعراق مُحتل بتحالف أمريكي كافر وإيراني إسلامي مُنافق (2003-000)، بأنْ يُبحر ذلك الشراع (القارب) حقيقةً وليس رومانسيةً، في دمُوعِنا نحنُ أبناء العراق.؟ لا بل لماذا لا يُبحر ذلك الشراع أيضاً على/في ماسورة بنادق مُقاتلي المقاومة العراقية المُجاهدة التي جعلت وستجعل من ذلك التحالف كيده في نحرهِ.؟

 

بذات الوقت الذي دعا الشاعر الكبير "شوقي" للعراق بأن يجنبهم "العوادي"([4])، في حين جلب ونفّذ تلك "العوادي" مَنْ جاء مع ذلك الاحتلال، ومَنْ أصبح بيديهم أداة تنفيذ أجندتهم في إكثار تلك "العوادي" على شعب العراق؟! مُدعين أنهم من أهل دجلة والفرات!! في الوقت الذي جُلهم لم يَرهُما إلا مع ذلك الاحتلال؟!؟

وكم كان أمير الشعراء رائعاً في وصف جمال دجلة/العراق، بتشبيهاً موجزاً على درجة عالية من البلاغة، فهو يطلب "أماناً" لـ "قلبه" من تلك "المها"، تلك "المرأة" العراقية التي تميزت بفضل الله تعالى برشاقة قوامها الإلهي، وجمال عينيها، وحركاتها التي تُعبرُ عن دلال فطري إلهي أكرمها الله تعالى به،  المتوارية وراء "السواد"، حيث كان يُسمى بها العراق صدر الإسلام، كناية عن الكم الهائل من النخيل الذي كان يُغطي أرضه المحمية بأمر الله تعالى:

 

قِفْ، تمهَّلْ، وخُذ أماناً لقلبي           من عيـونِِ المهَا وراءَ السَّوادِ

 

في حين اجتثت تلك "العوادي" جذوع ذلك النخيل، لتترك العراق أرضاً سبخة مُجردة من خضرةٍ رائعة أكرمها الله تعالى به، وسلبت من تلك "المها العراقية" الابتسامة، وأحنى قوامها ظُلم الاحتلال الأمريكي الإيراني، فضلاً عن أنهن أصبحن على الأعم بين أرامل، ومُعتقلاتٍ، ومُهجراتٍ داخل وطنهن والشتات...إلخ، وهنا أقول إنْ كان قصد كبير الشعراء "شوقي" من كلمة "السواد" الملابس السوداء الذي استبعِدُهُ خلال فترة عز بغداد والعراق، واعتبرت أنَّ المقصود به كثرة نخل العراق كما أشرنا آنفاً، فالآن ينطبق على "المها العراقية" معنى "السواد" المُتمثل باتشاحهن على الأعم الملابس السوداء جراء المصائب التي عانين، ويُعانين منها جراء ما أشرنا أعلاه.

 

ثم كم كان رائعاً وهو يغرز الأمل والمجد في أمة العراق الذي عُرف عنها كيف تُنشأ الأجيال من الرجال والعلماء، كيف لا وقد قيل عن أهلِ بغداد/أهل العراق: (( نبأنا بن شوذب المقرئ قال نبأنا جعفر بن محمد ابن عامر قال نبا أحمد بن عبد الحميد قال سمعت بن علية يقول: ما رأيت قوما أحسن رغبة ولا أعقل لطلب الحديث من أهل بغداد.)). ([5]) فبالعلم بنى أهل العراق أمتهم وبالتالي مجدهم، لذلك فقد كان "شوقي" صادقاً بقوله:

 

أُمَّـةٌ تُنشِىء الحياةَ،، وتَبني           كبِـناء ألأُبـــوَّةِ الأمجـاد

 

فأبناء العراق بعد أنْ تخلى عنهم أخوتهم في الدين والعروبة وتركوهم في صراعٍ مع ذلك التحالف الكافر – المنافق، فإنهم يبنون جيلاً من المُجاهدين المؤمنون بأنَّ الله تعالى لن يتخلى عنهم، وبالتالي فإنهم يبنون جيل جمع بين المقاومة، والعلم بالرغم من شدة وطأة ذلك التحالف وصمت مَنْ أشرنا إليهم، القصيدة كاملة، تضمنت:

 

             يا شراعاً وراءَ دِجلةَ يَجري            في دموعي تجنَبتكَ العَـوادي

             سر على الماء كالمسيحِ رُويداً         وأجر في اليم ِّكالشعاع الهادي

             وأتِ قارعاً كرفرف الخلدِ طِيباً          أو كفرْْدَوسِهِ بشـاشـةًً وادي

             قِفْ، تمهَّلْ، وخُذ أماناً لقلبي           من عيـونِِ المهَا وراءَ السَّوادِ

             والنُّواسِيُّ والنَّدامَى، أمِنهم             سامـرُ يملأُّ الـدُجَى أو نادِ؟

             خَطرَت فوقه المِهارةُ تعدو              في غُبـار ألآباء والأجـداد

             أُمَّـةٌ تُنشِىء الحياةَ،، وتَبني           كبِـناء ألأُبـــوَّةِ الأمجـاد

             تحت تاجٍ من القرابة والمُلـ           ـك على فَـرْقِِ أرْيحىِّ جواد

            ملك الشطِّ، والفراتيْنِ، والبطـ        ـحاءِ، أعـظِمْ بِفَيْصَلِ والبـلاد

 

....... أنقر هنا .......

قصيدة يا شراعاً وراء دجلة يجري ... يشدو بها الموسيقار محمد عبد الوهاب

 

القصيدة أعلاها لحنها وغناها بين يدي المغفور له الملك فيصل الأول، الموسيقار محمد عبد الوهاب بمناسبة زيارته لوطننا العراق سنة 1931، بشكل رائع جداً، سيما وأنها من نظم أمير اللغة، والشعر "أحمد شوقي"، واحتضنتها حنجرة ذلك الموسيقار الكبير، الذي جاء صوته وهو يترنمُ بها قبل أنْ يُطرَبُ مُستمعيهِ، وكأنهُ ينحتُ في الماءِ، والهواء من شدةِ رقتِهِ وعذُوبتِهِ.؟!

 

الدكتور ثروت اللهيبي

almostfa.7070@yahoo.com

 

 

[1] آل عمران/29، تفسير الآية القرآنية الكريمة كما وردت في تفسير الجلالين المُحمل على قرصٍ كمبيوتري: ((29 - (قل) لهم (إن تخفوا ما في صدوركم) قلوبكم من موالاتهم (أو تبدوه) تظهروه (يعلمه الله و) هو (يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير) ومنه تعذيب من والاهم..
[2] الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463هـ)، تاريخ بغداد أو مدينة السلام، ج 1، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، الناشر محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، ط1(بيروت – 1997).
[3] النمل/88، تفسير الآية الكريمة كما وردت في تفسير الجلالين المُحمل على قرصٍ كمبيوتري: ((88 -..(صنع الله) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله صنع الله ذلك صنعا (الذي أتقن) أحكم (كل شيء) صنعه (إنه خبير بما تفعلون) بالياء والتاء أي أعداؤه من المعصية وأولياؤه من الطاعة..
[4] العوادي: جمع العادية : ما يعدي عليك من مكروه، وجماعة القوم يعدون للقتال.
[5] الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463هـ)، تاريخ بغداد أو مدينة السلام، ج 1، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، الناشر محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، ط1(بيروت – 1997)، ص 70.

 

 

 





الاثنين٠٣ ذي القعدة ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / تشرين الاول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور ثروت اللهيبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة