شبكة ذي قار
عـاجـل










تألمت وأنا أقرأ مقالة الباحث البصري كاظم فنجان الحمامي "العشار.. النهر الذي سيفقد مجراه"، فنهر العشار لا يذكر إلا وذكرت البصرة ولا تذكر البصرة إلا ذكر اسم هذا النهر..

 

خشيت وأنا أقرأ المقالة أن يكون مصير هذا النهر كمثل مصير نهر بردى في سوريا الذي ألهب خيالنا منذ كنا صغاراً ونحن نتغنى بقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي:

سلامٌ من صبا بردى أرقّ     ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق

 

وعندما كبرت وقيّض لي أن أزور دمشق وجدت بردى وإذا به محض ساقية تملؤه النفايات وتفوح منه روائح غير مريحة.

 

لكني أتذكر الآن نهر العشار، الذي أحببته وهمت به، ولم يكن يلذّ لي عندما أكون في البصرة إلا السير على ضفافه والعبور على جسوره بين ضفة وضفة على الرغم من ازدحام السيارات،  وضجيج الحركة التجارية الواسعة والنشطة للأسواق البصرية ، فالعشار مركز البصرة، ونهرها يشق البصرة الجميلة فيضفي عليها جمالاً أخاذا فوق جمالها، ولكن الدهر أخنى عليه كما أخنى على البصرة بالحروب والأحداث في أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، ففقد بريقه وضاع عزه.. وجرت حملة لإحيائه بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية فكسيت ضفافه وأعيد إليه شيء كبير من بهائه، إلا أنه بعد احتلال العراق جرت في هذا النهر دماء الأبرياء على يد القوات البريطانية المحتلة وبعدها الأمريكية ثم الميليشيات الطائفية الإيرانية التي ما كفّت عن نشاطها إلى هذه الساعة والتي ملأت مجرى النهر بالجثث المعلومة والمجهولة التي عادت ظاهرتها، الآن، من جديد وبقوة.

 

يقول الحمامي، وهو باحث في شؤون مياه البصرة وموانئها أتوقع أن يكون لكتاباته في المستقبل شأن كبير لأنها توثق ما يمرّ بالبصرة وتؤرّخ مآسيها في ظل الاحتلال: "فقدَ هذا النهر الكبير اسمه الحقيقي منذ زمن بعيد، وتعرض مجراه للتقلصات، التي فرضتها عليه الظواهر الجيمورفولوجية الغامضة، وخضع حوضه للتغيرات التكتونية البطيئة من دون أن يتنبه إليه احد. فانكمش مجراه، وتَقَزّمَ طوله تدريجيا من ثمانية فراسخ (28 كيلومتر) في زمن الخلافة الراشدية، إلى اقل من ربع فرسخ (كيلومتر واحد تقريبا) في المرحلة الراهنة".

 

وعلى الرغم من أنني لم أفهم معنى "الظواهر الجيمورفولوجية الغامضة" ولا "التغيرات التكتونية البطيئة" لأن ذلك من اختصاصه لا من اختصاصي، إلا أنني بكيت على مصير هذا النهر الذي "كان فيما مضى حلقة الوصل بين دجلة العوراء (شط العرب)، وكرى سعدة (المجرى الأدنى للفرات)، فتشوهت ملامحه الرئيسية بعوامل النحت والتعرية، وتقلبات الفيضان والجفاف والتصحر والاضمحلال، حتى بات على وشك أن يقطع علاقته بالبصرة".

 

  كان نهر العشار معروفا بأعماقه الكبيرة، وبقدرته على استيعاب السفن المحلية والمراكب الخشبية، التي يزيد غاطسها على سبعة أمتار، والمحملة بالبضائع، فتردت أعماقه الآن إلى اقل من نصف متر، وانقطعت علاقته بالتجارة وخطوط الشحن، وغادرته حتى الزوارق الصغيرة إلى غير رجعة، وكانت تتفرع منه شبكة معقدة من الجداول والسواقي والترع، التي تعج بحركة ا(لابلام) والقوارب الصغيرة الملونة، اما اليوم فيقول الحمامي: "جفت تفرعاته كلها، وارتبط مصيره بشبكة الصرف الصحي، وصار مستودعا للمياه الآسنة، وبركة تعج بالأوساخ والقاذورات والنفايات والعبوات البلاستيكية والصناديق الكارتونية"، وهو المصير الذي آل إليه نهر بردى السوري.

 

وهذا النهر لا كما يشاع اليوم، جهلاً، أن تسميته تعود إلى أواخر الدولة العثمانية (قبل قرابة 250 عاماً)، وأنها تعزى إلى تجمع العشّارين، لاستيفاء ضريبة العشر (10%) من التجار عند مدخل النهر، إذ لم يكونوا يسمحون للسفن بدخول النهر، إلا بعد تفتيشها، وتعشيرها.. لأن اسم النهر كان موجوداً عند اندلاع ثورة الزنج، وفي الأيام التي دارت فيها معركة (ذات السلاسل)، بل وقبل تمصير البصرة، ولايزال معظم الناس، ومنهم من العاملين في مجالات العلوم التاريخية والتراثية لا يدركون أن (العشار) اسم لأقدم مساجد مدينة (الأُبلّة)، ولا علاقة له بجمارك الدولة العثمانية وضرائبها. أما الاسم الحقيقي للنهر فهو (نهر الأُبلّة)، والدليل على وروده في كتاب سنن أبي داود السجستاني الذي يقول في (باب في ذكر البصرة): حدثنا محمد بن المثنى عن إبراهيم بن صالح. قال : انطلقنا حاجّين، فإذا رجل، فقال لنا: إلى جنبكم قرية يقال لها الاُبُلّة. قلنا: نعم.. قال: من يضمن لي منكم أن يصلي لي في مسجد العشّار ركعتين، أو ربما أربعا، ويقول هذه لأبي هريرة؟. فقد سمعت رسول الله (ص)، يقول: (إن الله يبعث من مسجد العشّار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم)، وقال العلامة المحدث الشيخ أبو الطيب، صاحب (عون المعبود): مسجد العشار مشهور، يتبرك بالصلاة فيه (عون المعبود ج 11 ص 422)، ويتكرر الحديث نفسه في (معجم البلدان)، و(الملاحم والفتن)، وتحدثت مصادر أخرى عن هذا المسجد، الذي يحمل منذ بضعة قرون اسم (مسجد المقام)، وهو مقام الإمام علي بن بن أبي طالب عليه السلام. وهو من المساجد البصرية، التي حافظت على شكلها، وموقعها حتى يومنا هذا. وهذا يعني أن العشّار يمثل جزءا بسيطا من مدينة الاُبُلّة.. 

 

ويستند الحمامي إلى أدلة أكثر وأوسع لإثبات أن تسمية نهر العشار قديمة وأن نهر العشّار هو نهر الاُبُلّة. وليس غيره، لكن ذلك لا يعنينا بقدر ما يعنينا الاغتيال البشع الذي تعرض له هذا النهر بسبب الاحتلال الأمريكي ونفوذ الميليشيات الإيرانية الطائفية، فلنهر العشار صور فوتوغرافية تبدو فيها الخضرة والبنايات والزوارق والأبلام العشارية وكأن الصورة التقطت في مكان آخر ليس مكان النهر الشهيد الآن..

 

 ولهذا يقول الحمامي: "بيد أن هذا النهر الجميل الضارب في عمق التاريخ تحول اليوم للأسف الشديد من جاذب سياحي إلى مكبٍ للنفايات، وانقطعت صلته نهائيا بشط العرب بعد غلقه عمليا بالسدود والنواظم، وربما ستنقطع صلته بالمياه، ويفقد مجراه، ويختفي نهائيا من خارطة البصرة".  

 

  ألا قاتل الله قاتلي الأنهار.. ألا محق الله الاحتلال.. وصبراً يا نهر العشار فالفرج على الأبواب وستتدفق فيك مياه البهجة والحياة وتعود إلى ما كنت عليه في سابق عهدك وأكثر بهاءً لتعيد للبصرة بسمتها وجمالها الساحر الأخاذ..

 

 





الاحد١٩ رمضان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٩/ أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة