شبكة ذي قار
عـاجـل










ربما كانت تصريحات نيك كليغ نائب رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب الديمقراطيين الأحرار ، الطرف الثاني في الائتلاف الحاكم في بريطانيا ، والتي اعتبر فيها الحرب على العراق غير شرعية ، منسجمة تماما مع مواقفه السابقة في رفض مبدأ الحرب أصلا ومشاركة بلاده فيها ، ولكن توقيت تلك التصريحات مع زيارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لواشنطن واجتماعه مع الرئيس أوباما ، وما رافق الاجتماع من تعقيدات ترتبط بثلاث قضايا رئيسة لم تتمكن من التستر عليها كل المهارات الدبلوماسية التي حاولت بريطانيا العظمى رسمها لنفسها في المحافل الدولية ، أدخلها في دهاليز الحسابات السياسية داخليا على مستوى الائتلاف الحاكم وعلاقته بحزب المعارضة ( حزب العمال ) الذي انساق مغمض العينين وراء هوس بوش في خوض الحرب مهما كانت النتائج ، ودوليا في علاقات بريطانيا التي تتدحرج مكانتها من شريك متكافئ مع الولايات المتحدة إلى تابع لإملاءات واشنطن التي تتعمد إشعار البريطانيين أن دولتهم انحسرت الشمس عن ممتلكاتها دون أمل باسترداد مجدها الغابر .

 

رئيس الوزراء البريطاني الذي ورث نتائج عصفت بالمجتمع البريطاني لحربين مدمرتين في أفغانستان والعراق كان سلفه توني بلير أكثر المتحمسين لهما ، فاجأ مضيفه في البيت الأبيض بإعلانه النية الجدية والسريعة على سحب قوات بلده من أفغانستان ، وفي الوقت الذي تعامل المسؤولون الأمريكيون مع هذه النية المعلنة بعدم اكتراث علني ، فإنهم ركزا على قضية أزمة التسرب النفطي في خليج المكسيك والذي سببه انهيار منصة تابعة لشركة النفط البريطانية BP ، وكذلك على قضية إطلاق سراح الليبي عبد الباسط  المقرحي المتهم بتدبير حادث تفجير طائرة لوكربي ، والتي قيل إن لشركة BP دورا كبيرا في عقد صفقتها من أجل الحصول على استثمارات كبيرة في ليبيا .


وربما كان قرار رئيس الوزراء البريطاني بمباشرة سحب قوات بلاده من أفغانستان مطلع العام المقبل صدمة للرئيس الأمريكي أعادت إلى الذهن قرار توني بلير عندما خذل حليفه جورج بوش في منتصف الطريق وسحب القوات البريطانية من جنوب العراق مما ضاعف من حجم أعباء القوات الأمريكية في البلد الذي ظن من خطط للحرب أنه سيخضع بمجرد رؤية دبابات الاحتلال تجوب شوارع المدن العراقية ، أوباما اعتبر حرب أفغانستان حربه الخاصة ولم يكن ليبني مواقفه على ردود فعل تجاه قرار سابق لبلير مع إدارة بوش ، على الرغم من أن أوباما رفع شعارات عريضة عن نبذ منطق القوة في العلاقات الدولية ، وعلى الرغم من أنه تعهد بسحب قوات بلاده من العراق في غضون أربعين يوما من تسلمه منصبه ، ولكن الشعارات الانتخابية تبقى في موضعها لمجرد حشد التأييد ولا يجد الكثير منها طريقه نحو التطبيق ، وحينما دخل أوباما البيت الأبيض كانت أفكاره قد تعرضت لإعادة صياغة منهجية ، ووجد أن هامش أي رئيس أمريكي في إحداث التغييرات الجوهرية على السياسة الأمريكية محدودة جدا ولذلك وبدلا من التمسك بمبدأ سحب القوات الأمريكية من العراق لأسباب أخلاقية ، فإنه ركز على أنه يريد أن يعزز من الوجود العسكري لبلاده في أفغانستان طارحا مفهوما جديدا للأمن القومي الأمريكي والذي يتحدد بحتمية تحقيق النصر على القاعدة باعتبارها مصدر التهديد الوحيد لأمن بلاده ، ويبدو أنه اعتقد أنه قادر على أن يسجل لنفسه انتصارا في الساحة الأفغانية يزيل فيه من الذاكرة الجمعية الأمريكية تأثيرات الخسائر الكبرى التي تكبدتها الولايات المتحدة في حربها على العراق ووصولها حافة الاعتراف بالهزيمة عام 2006 كما صرح بوش بذلك ، وما أعقب ذلك من سقوط مدو لعدد من مخططي الحرب في المقدمة منهم دونالد رامسفيلد ومن تصريحات متناثرة لعدد من كبار المسؤولين الأمريكيين سياسيين وعسكريين ، عن عجز الولايات المتحدة مستقبلا عن خوض حربيين بحجم حربي العراق وأفغانستان في وقت واحد .


البعض يحاول تجريد تصريحات نيك كليغ من طابعها الرسمي ، وتجريف قيمتها السياسية والقانونية والأخلاقية ، كونها صدرت عن زعيم حزب كانت له قناعاته الخاصة بالحرب ، مع أن الرجل تحدث في مجلس العموم البريطاني ممثلا لرئيس الوزراء وبصفته ثاني رسمي بريطاني بعده ، ومحاولة إلصاق طابع شخصي منفعل ناتج عن استفزاز لوزير خارجية بريطانيا الأسبق جاك سترو ، الذي لم يطق في الماضي القريب انفراد بلير بقرار الحرب ففضل مغادرة منصبه إلى منصب وزاري من الدرجة الثانية ، محاولة لتبسيط الأمور والنظر إليها من زاوية حرجة تماما ، ومع الأخذ بكل الظروف التي رافقت تصريحات كليغ ، فإنها في واقع الحال ستعد شهادة موثقة يمكن الرجوع إليها من قبل رجال القانون العراقيين والدوليين الساعين لملاحقة مجرمي الحرب الذين تسببوا في تدمير بنية الدولة العراقية وفي قتل أكثر من مليون ونصف مليون عراقي وأعادوا العراق إلى عصر ما قبل الصناعة كما تعهد جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج بوش الأب .


ولكن هذه التصريحات لا بد أن تثير تساؤلات مشروعة عما يترتب عليها من نتائج فورية سواء على المشهد العراقي ، أو على لجم القوى الكبرى عن مواصلة الانجرار وراء وهم القوة واعتماده طريقا وحيدا في التعامل مع الأزمات السياسية أو الدول الصغيرة ، التي تسعى للنأي بنفسها عن بؤر التوتر التي تختلقها القوى الدولية الكبرى وتحاول تجنيد إمكانات العالم الثالث لحروب لا تبدو في الأفق فرصة لكسبها أو حتى الخروج منها بقليل من ماء الوجه ، فتحول مواردها عن برامج التنمية والبناء الاقتصادي والاجتماعي والاستثمار في مجالات التعليم والعلوم الحديثة ، إلى حروب بالنيابة بلا نهاية و لا يمكن أن يكسبها أحد ولا مصلحة لشعوبها بها .


إن صناعة العدو وإعادة إنتاجه باتا من أهم الصناعات الصاعدة في الولايات المتحدة على أيدي خبراء مراكز الدراسات الإستراتيجية وبيوت المال ومصانع السلاح والشركات العابرة للقارات وخاصة شركات الطاقة ، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين السابقين ، توقعت شعوب العالم أن تشهد حقبة من الاستقرار السياسي نتيجة انتفاء أسباب الصراع المغلف بواجهات أيديولوجية ، وبالتالي انصراف الدول التي تمتلك أسباب التطور من موارد بشرية وطبيعية إلى البناء الاقتصادي للحاق بركب الدول الأكثر تطورا في العالم عن طريق نقل متكافئ للتكنولوجيا ، ولكن العالم استيقظ على أن غياب مركز الاستقطاب الثاني وهو الاتحاد السوفيتي السابق ، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كمركز استقطاب وحيد على حقيقة مخيفة وهي أن ميزانيات التسلح حافظت على مستوياتها إن لم تكن قد حققت نسبا متقدمة على حساب خطط التنمية ، على الرغم من عدم وجود عدو معترف به في الجانب الآخر من المعادلة السياسية أو الأيدلوجية ، فقد تم اختراع عدو جديد يلوح بخطره كل وقت مما جعل من ميزانيات الدول الكبرى عاجزة عن تحمل تبعات مغامرات وحروب جديدة لا ماليا ولا عسكريا ، وما حصل للولايات المتحدة في العراق يمثل الشهادة الميدانية القاطعة على البلد الذي ظل يباهي الآخرين بأنه البلد الذي لا يخطو خطوة واحدة دون إخضاعها لحسابات الكومبيوتر قد سقط في امتحان العراق وأن حسابات البنتاغون ومجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية قد سقطت جميعا في المواجهات الدموية التي شهدتها شوارع المدن العراقية في أسرع مقاومة عرفها تاريخ البلدان التي تعرضت للاحتلال ، ما حصل أن الشعب الأمريكي استعاد بقوة أجواء ما حصل في فيتنام ، فاضطرت إدارة الرئيس بوش على فرض حظر على نقل صور التوابيت الملفوفة بالعلم الأمريكي والقادمة مباشرة من العراق أو من المستشفيات العسكرية الأمريكية في ألمانيا ، أما على الصعيد الاقتصادي فقد بدأ الانهيار التاريخي بأزمة المساكن والتي سرعان ما انتقلت إلى عشرات المصارف والشركات التي ظلت رمزا مجيدا لعظمة أمريكا في العالم ، لم يكن هذا وليد الصدفة بل نتاج لتضحيات العراقيين التي تجاوزت هي الأخرى كل التوقعات .


واستعادت الدول الصغيرة مكانتها التي كانت عليها في عصر الحرب الباردة كساحة لتفريغ الشحنات الفائضة من خزين القوة المفرطة للدول العظمى ، وأخذ الصراع هذه المرة أشكالا جديدة تمثلت في دخول القوى الدولية إلى غرف العمليات الحربية في الدول الصغيرة ، وكي لا يبدو الأمر وكأنه عودة إلى عهود الاستعمار الأولى ، أخذت القوى الدولية الكبرى تسوق مفهوما جديدا لشكل النظام العالمي الجديد تبدو فيه كمن يحاول تقديم تضحية من أجل حلفائها المفترضين ، فيجد هؤلاء أنفسهم في دوامة من الأزمات السياسية والأمنية عرفوا كيف بدأت ولكن أحدا بما في ذلك من رسم المسارات السياسية ، لا يمكن أن يتكهن بموعد يبرد فيه السلاح .


قيل الكثير في توصيف تصريحات نائب رئيس الوزراء البريطاني ، لعل من أسوأ ما قيل فيها أنها زلة لسان ، في محاولة لاستبعاد طابعها الرسمي الملزم للحكومة البريطانية ، ولكننا إذا رجعنا قليلا إلى الوراء فإننا سنجد الكثير من زلات اللسان التي أدت إلى إلزام حكومات كثيرة بالتزامات قانونية وفقا للقانون الدولي ، يضاف إلى ذلك إن حق العراق حاسم وليس بحاجة إلى لحظة انعدام الوعي كي يفقد فيها مسؤول هنا أو هناك رصانته ويطلق للسانه العنان دون تمحيص ، بل أن حق العراق وكلما ارتقى مستوى الوعي الإنساني والأخلاقي والقانوني في دول العدوان كلما اقتربت جميع الأطراف حثيثا من الاعتراف بهول الجريمة التي ارتكبت في العراق منذ عام 1991 وحتى يومنا الراهن ، وحينذاك سيقترب العالم من صياغة مفهوم جديد لمعنى العدالة الإنسانية وحق الشعوب في اختيار نظمها السياسية التي تريد ، وغالب الظن أن هناك الآلاف من رجال القانون الدولي المنصفين الذين ينتظرون فرصتهم لوضع قواعد قانونية ملزمة في العلاقات الدولية لعالم جديد تسوده قيم العدالة وخال من استخدام القوة أو التهديد باستخدامها .





الاربعاء٢٣ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٤ / أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة