شبكة ذي قار
عـاجـل










لو أن العالم يعيش ما قبل عصر ثورة الاتصالات لأمكننا أن نجد مبررا لهذا الصمت الرهيب الذي يرافق الحصار الظالم والجائر الذي يتعرض له أبناء غزة منذ أن تمكن الفلسطينيون في القطاع العصي على التدجين ، من الخروج على إرادة المحتلين ودحر العدوان الصهيوني الذي حاول تركيع الأرض وما فوقها لإرادة العسكريتاريا الصهيونية الهمجية ، حينها حاولت سلطة الاحتلال تعويض الهزيمة بالانتقام من أرض ثورة الحجارة التي تخرج أجيالا متلاحقة من أبطالها الذين لا يزيدهم الزمن إلا إصرارا على المطاولة والصمود برغم تضافر عوامل القتل البطيء ، من قبل الأشقاء العرب في مصر الرسمية عندما رهنوا إرادتهم لما تمليه عليهم سلطات الاحتلال فأوصدوا معبر رفح امتثالا لإرادة أعداء الأمة وإمعانا في تجويع أهلنا في غزة لتركيعهم ونزع إرادتهم ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا أكثر عندما قرروا إقامة الجدار الفولاذي وشاركوا في جهد استخباري مع العدو في ملاحقة الأنفاق والعاملين عليها لتوفير الحدود الدنيا من مستلزمات العيش الإنساني ، أو بصمت أشقاء آخرين في السعودية أكبر بلد عربي منتج للنفط ، ويفترض بهم أن يتحركوا على أساس ما يفرضه عليهم الدين الإسلامي من واجب شرعي بالدفاع عن المقدسات الإسلامية في القدس الشريف ، فلا هم تحركوا بالنخوة العربية التي يتاجرون بها ليل نهار ولكنهم يستقبلون رؤساء أمريكا الداعمة للكيان الصهيوني برقصة السيف العربي الذي لم يغادر غمده إلا بهدف الرقص على أشلاء ضحايا حلفاء حكام السعودية ، ولا هم تحركوا بالحافز الديني ، أما العروبة فيبدو أنها باتت غريبة على أرضها .


كنا نتوقع أن تتحرك الضمائر لنصرة الذين تمتصهم حالة الحصار في غزة وخطة الإقصاء من القدس الشريف ، ولكننا كنا على خطأ عندما انتظرنا النصرة من مهزومين في دواخلهم على الرغم من أكداس الأسلحة الحديثة التي تباع لهم لتخيف الأزمات الاقتصادية عن حلفائهم المزيفين والتي ستتحول و مع الوقت إلى أكداس من الخردة التي لا تساوي وزنها من الحديد .


ثم وقعت جريمة الكيان الصهيوني في المياه الدولية لشرق المتوسط في الحادي والثلاثين من أيار الماضي ، وظننا أن هذه الجريمة التي أدت إلى استشهاد حوالي عشرين ناشطا إنسانيا قرر الوقوف مع أبناء غزة وتعبيرا عن نصرة فلسطين كلها ، ينتمون إلى أكثر من ثلاثين دولة من دول العالم ، ستحرك بعض الضمائر النائمة وتبعث فيها شيئا من الروح لتنتفض وتقول ولو كلمة استنكار بوجه الهمجية الصهيونية التي تحدت العالم والقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقانون البحار وتصرفت بعنجهية لا نظير لها ، ولكن ظنوننا كانت في غير محلها .


على الصعيد الدولي حاولت الولايات المتحدة في حديثها عن الواقعة أن توحد بين الجاني والضحية ، وخاصة عندما أعربت عن الأسف لسقوط ضحايا وكأن الحادثة كانت مجرد اصطدام بين عن طريق الخطأ بين سفينتين ، ونسيت واشنطن تحركها الدولي لإدانة إغراق إحدى قطع أسطول كوريا الجنوبية الحربي ومطالبتها بتوجيه إدانة واضحة لكوريا الشمالية ، والأنكى من ذلك أن نائب الرئيس الأمريكي وبعد أن بدأ الهجوم الدبلوماسي الصهيوني المضاد ، أعطى الحق ( لإسرائيل ) في تفتيش السفن المتوجهة إلى غزة وكأنه يبرر وبعبارات لا تقبل التأويل قتل الأبرياء وبالصورة التي تمت فيها تلك الجريمة المروعة التي وقعت شرقي المتوسط .


فماذا أراد الكيان الصهيوني من هذه الجريمة وهل صممها القادة السياسيون والعسكريون دون أن يقدروا تبعاتها ؟ وهل كان يعرف جيدا أبعادها السياسية والدبلوماسية باعتبارها خرقا فاضحا للقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة ولقوانين الملاحة الدولية في أعالي البحار ؟ وهل كان يتوقع ردود الفعل الغاضبة وبالحجم الذي اجتاح العالم ؟ أم أن حكومة العدو تعمدت الإقدام على جريمة محسوبة تعرف أن تداعياتها سيتم امتصاصها بزمن قصير تحت ضغوط أمريكية وهزال عربي رسمي معيب ؟


لقد أصبح حصار غزة ، وبقدر ما كان ثقيلا على المواطن الفلسطيني في جوانبه المعاشية والإنسانية ، فإنه في واقع الحال كان سببا مباشرا في كشف الحقيقة الهمجية للكيان الصهيوني على الصعيد الدولي وأدى إلى تعرية الحركة الصهيونية كحركة عنصرية عدوانية تحمل موروثا حاقدا على سائر شعوب الأرض ، ولهذا فإن الكيان الصهيوني وفي نفس الوقت الذي يريد أن يجهز على أبناء غزة ، فإنه كان يريد أن يتم كل ذلك مع حالة واسعة من التعتيم الدولي ، وأن يستكمل خنق أهلنا في غزة دون أن يخرج تقرير واحد يكشف جرائمه ، ولما كانت قوافل نصرة غزة إضافة إلى بعدها المادي ، فإنها إبقاء للقضية ملفا مفتوحا أمام الرأي العام العالمي ، ورسائل غضب للنظام الرسمي العربي المسؤول وفضح عن قسط وافر مما يعانيه أهل غزة من موت بطئ ، لذلك وجد الصهاينة أن استمرار مثل هذه الفعاليات تسلط المزيد من الأضواء على جرائم تنطبق عليها قوانين محكمة لاهاي ومحكمة روما ، والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ، لذلك خططت لتوجيه ضربة نهائية حتى إذا كان رد الفعل عليها قويا ، فإن استمرار الملف مفتوحا ينزع عن الكيان الصهيوني كل ما يدعيه من شعارات كاذبة ويحرج حلفاءه وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ، فجاءت جريمة شرق البحر المتوسط وفي عمق المياه الدولية رسالة لمنظمي هذه القوافل بأن عليهم أن يتوقعوا ثمنا باهظا فيما لو أقدموا على تسيير رحلات جديدة .


لكن هذه الرسالة ليست هي الوحيدة التي خرجت من حكومة الاحتلال الصهيوني ، فالخسائر البشرية التي لحقت بالأتراك إضافة إلى الحرج المعنوي الذي لحق بالحكومة التركية ، لا بد أن يبعث برسالة إلى أنقرة مفادها أن السياسات التي بدأت الحكومة التركية انتهاجها بالابتعاد عن الحلف التقليدي مع تل أبيب لا بد أن يستدعي ثمنا هو الآخر ، لكن الكيان الصهيوني إذا كان قد نجح مؤقتا في كبح جماح خطط تسيير رحلات نصرة غزة ، فإن جريمته خلقت اصطفافات جديدة في المنطقة وأعطت لتركيا مكانة خاصة في قلوب العرب والمسلمين عموما ، كما أن الجريمة وحدت الموقف الداخلي التركي وراء الموقف الرسمي ، وأوجدت حالة التفاف مع حكومة أردوغان كان يمكن أن يفقد جزء منه نتيجة التعديلات الدستورية المقترحة والتي من المقرر أمن تعرض على الاستفتاء العام في وقت لاحق .

إن الدور الإقليمي التركي الجديد ، لا يمكن أن يمر دون ثمن ، وربما كانت الخسائر البشرية التركية هي الدفعة الأولى على هذا الطريق ، ويبدو أن الخطوات التركية المتلاحقة في تمييز موقفها عن حلفائها التقليديين ، والانحياز إلى جانب التاريخ والمصالح ، وهو ما بدأ في مؤتمر دافوس ، لا بد أن يمنح تركيا دورا كبيرا مطلوبا ومقبولا في قضايا المسلمين وخاصة القدس الشريف والمسجد الأقصى خصوصا ، وإذا كان ذلك الدور بحاجة إلى شهادة إثبات الأهلية ، فإن ما وقع في الحادي والثلاثين من أيار الماضي كان أصدق تعبير عن صدق الانتماء إلى المنطقة لبلد ظل يحمل لواء التغريب لحوالي قرن من الزمان ولكنه اكتشف في نهاية المطاف أن من يريد الانضمام إليهم لا يريدونه ، وأن من يرفضهم يسعون بكل قوة لاسترداده إلى محيطيه التاريخي والجغرافي .


لقد تركت تركيا إيران تلهث وراءها بعدة عقود وربما عدة قرون في التصدي العملي والميداني للكيان الصهيوني ، فإيران لم تقدم لفلسطين إلا أسباب الفتنة والانشطار والتشرذم ، ولم تؤمن يوما بعدالة هذه القضية ، وهي تريد جني المكاسب السياسية دون أدنى ثمن تقدمه ، كما أن الجريمة الصهيونية عرت حقيقة الشعارات الكاذبة التي ظل حزب الله اللبناني يتاجر فيها باسم القضية الفلسطينية وتأكد أنه مجر مقاول ثانوي للمشروع الإيراني الإقليمي .


ما يثير الدهشة حتى الاختناق أن بغداد الرسمية تحت الاحتلالين حافظت على صمت أهل القبور ، لأنها من جهة انعكاس لموف السيد الأمريكي المحتل الكبير ، من جهة أخرى فهي امتداد لموقف السيد المحتل الآخر وهو حكومة إيران ، وهنا تكمن غصة عسى أن يستوعب جزء من دروسها الأشقاء العرب الذين تواطؤا مع الاحتلال الأمريكي .





الاربعاء٢٦ جمادي الاخر ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٩ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب افتتاحية صحيفة راية العرب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة